حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةالملف السياسيسياسية

ملفات ثقيلة للفساد المالي أمام القضاء

مسؤولون وبرلمانيون ورؤساء جماعات متهمون بتبديد واختلاس أموال عمومية

أعطى هشام بلاوي، رئيس النيابة العامة، تعليمات صارمة بإحالة جميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية التي تتضمن اختلالات ذات صبغة جنائية، على الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والفرق الجهوية التابعة لها بمدن فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، وكذلك الفرقة الوطنية للدرك الملكي. ومنذ تعيينه من طرف الملك محمد السادس، وجد بلاوي عشرات الملفات بمقر رئاسة النيابة العامة، دون أن يتم اتخاذ أي قرار بشأنها، وكذلك ملفات أخرى ما زالت بمكاتب الوكلاء العامين للملك بالمحاكم المختصة في جرائم الأموال، انتهى البحث بشأنها منذ مدة. وسبق لزينب العدوي، رئيسة المجلس الأعلى للحسابات، أن أعلنت أمام مجلسي البرلمان، أن الوكيل العام للملك لدى المجلس قرر إحالة 16 ملفا تسوجب عقوبات جنائية، على أنظار الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، قصد اتخاذ المتعين بشأنها، وذلك خلال الفترة ما بين سنة 2022 إلى متم شهر شتنبر الماضي، ما ينذر بسقوط رؤوس رؤساء جماعات ومسؤولين بمؤسسات ومقاولات عمومية.

مقالات ذات صلة

 

إعداد: محمد اليوبي- النعمان اليعلاوي

 

رئيس النيابة العامة يحيل ملفات ثقيلة على محاكم جرائم الأموال

 

على غرار الأجهزة العليا للرقابة على المالية العامة في الدول التي تعتمد النموذج القضائي، أسند إلى المحاكم المالية، بموجب دستور المملكة، نوعان من الاختصاصات، ينظمها القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، وهي اختصاصات قضائية تتجلى في التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، والتدقيق والبت في حسابات الأجهزة العمومية المدلى بها من طرف المحاسبين العموميين أو المحاسبين بحكم الواقع، واختصاصات غير قضائية تتمثل في مراقبة تسيير مرافق الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والأجهزة العمومية الأخرى لأجل تقديره من حيث الكيف واقتراح الوسائل الكفيلة بتحسين طرقه والزيادة في فعاليته ومردوديته ومستوى أدائه، وكذا مراقبة استخدام الأموال العمومية التي تتلقاها المقاولات أو الجمعيات أو كل جهاز يستفيد من مساهمة عمومية.

ومن أجل تحقيق التكامل بين هذين النوعين من الاختصاصات، أرست مدونة المحاكم المالية منهجية المراقبة المندمجة قصد التوفيق بين طبيعة هذه المحاكم كمؤسسات قضائية تعاقب على المخالفات المالية التي يرتكبها المسؤولون في مجال تنفيذ ميزانية الأجهزة العمومية وتدبير ماليتها، ووظيفتها في مجال مراقبة التسيير التي تسعى إلى المساهمة، من خلال الملاحظات والتوصيات التي تسفر عنها المهمات الرقابية، إلى تحسين تدبير وأداء الأجهزة العمومية. وتنسجم هذه المقاربة مع الأهداف التي أحدثت من أجلها الأجهزة العليا للرقابة، والتي تنصب على” تسجيل الفوارق مقارنة بالقواعد والاختلالات والخروقات بالنظر إلى القوانين والأنظمة، وتقييم الفعالية والكفاءة والاقتصاد في التدبير المالي بشكل يمكن، بصدد كل حالة، من اتخاذ الإجراءات التصحيحية وتحديد المسؤوليات أو اتخاذ إجراءات لتفادي أو لجعل تكرار مثل هذه الممارسات غاية في الصعوبة”.

وإذا كانت ثنائية الاختصاصات القضائية المنوطة بالمحاكم المالية تعكس أهمية مبدأ الفصل بين مهام الآمر بالصرف والمحاسب العمومي في التنظيم المالي والمحاسبي للأجهزة العمومية، فإن التحولات الراهنة التي يخضع لها نظام المالية العامة، والتي تتجه نحو تكامل وتداخل اختصاصات الآمرين بالصرف والمحاسبين العموميين، وكذا إرساء قواعد التدبير المرتكز على النتائج، تقتضي مراجعة الإطار القانوني لممارسة هذه الاختصاصات القضائية بما يضمن فعالية ممارستها ومواكبتها للرهانات الجديدة للتدبير العمومي بهدف حماية أمثل للقانون العام المالي ولمبادئ وقواعد التسيير الجيد في تدبير الشأن العام، وكذا لمصالح الأجهزة العمومية.

وأعطى رئيس النيابة العامة، هشام بلاوي، تعليمات صارمة بإحالة جميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية التي تتضمن اختلالات ذات صبغة جنائية، على الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والفرق الجهوية التابعة لها بمدن فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، وكذلك الفرقة الوطنية للدرك الملكي.

وأفادت المصادر أن بلاوي منذ تعيينه من طرف الملك محمد السادس، وجد عشرات الملفات بمقر رئاسة النيابة العامة دون أن يتم اتخاذ أي قرار بشأنها، وكذلك ملفات أخرى مازالت بمكاتب الوكلاء العامين للملك بالمحاكم المختصة في جرائم الأموال، انتهى البحث بشأنها منذ مدة، ومنها ملف مركز الاستقبال والتكوين الذي تحول إلى فندق تقام فيه سهرات “الشيخات” بمدينة سيدي قاسم، الذي أنهت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية البحث بشأنه وأحالت المحاضر على أنظار الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، وكذلك ملفات اختلالات البرنامج الاستعجالي للتعليم المعروضة على أنظار محكمتي جرائم الأموال بكل من الدار البيضاء والرباط، بالإضافة إلى ملف معروض على الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس، حول الاختلالات المالية التي عرفتها شركة “مارتشيكا ميد” التابعة لوكالة تهيئة بحيرة “مارتشيكا” بالناظور، وذلك في عهد سعيد زارو، المدير العام السابق للوكالة منذ إحداثها في سنة 2009، كما أصدر بلاوي تعليمات بتسريع الأبحاث القضائية في ملفات أخرى تخص مؤسسات عمومية ورؤساء جماعات ترابية ضمنهم برلمانيون بأقاليم القنيطرة والخميسات وتازة وطنجة والدار البيضاء ومراكش وبني ملال معروضة على محاكم جرائم الأموال، كانت موضوع تقارير افتحاص سوداء تخص تدبير المال العام.

وأفادت المصادر أن رئيس النيابة العامة أصدر تعليماته للوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف التي تضم أقسام جرائم الأموال بكل من مراكش والدار البيضاء والرباط وفاس، من أجل تسريع الأبحاث القضائية واتخاذ القرارات بشأن ملفات تخص رؤساء جماعات ومسؤولين عن مؤسسات عمومية تحوم حولهم شبهة تبديد واختلاس أموال عمومية، وكشفت المصادر، أن هناك ملفات تخص برلمانيين يترأسون حاليا مجالس جماعية، أو كانوا يترأسونها في الولاية السابقة، معروضة على أنظار الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أو الفرقة الوطنية للدرك الملكي، وكذلك الفرق الجهوية للشرطة القضائية المكلفة بالجرائم المالية والاقتصادية، وتنتظر اتخاذ القرار من النيابة العامة.

وأوضحت المصادر، أن تعليمات رئيس النيابة العامة بهذا الخصوص كانت صارمة، حيث طلب من الوكلاء العامين بمحاكم الاستئناف المعنية بتسريع الأبحاث القضائية بخصوص الملفات المعروضة على أنظار الضابطة القضائية للدرك الملكي أوالأمن الوطني، واتخاذ القرارات المناسبة بخصوص الملفات التي انتهت الأبحاث من شأنها، حيث من المنتظر تحريك متابعات في حق برلمانيين ارتكبوا خروقات خطيرة، وأشارت المصادر إلى وجود ملفات انتهت فيها الأبحاث منذ أكثر من سنة، ولم تتخذ النيابة العامة أي قرارا بشأنها، كما أن هناك ملفات أخرى مازالت مفتوحة أمام قضاة التحقيق منذ سنوات.

المجلس الأعلى للحسابات.. نحو تخليق الحقل السياسي

 

يعتبر الفساد من أبرز التحديات التي تواجه الدول في سعيها لتحقيق التنمية المستدامة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة. في هذا السياق يُشكل المجلس الأعلى للحسابات في المغرب إحدى أهم المؤسسات الدستورية المعنية بمراقبة المالية العامة وتعزيز النزاهة والشفافية. ويضطلع المجلس بمهمة التدقيق في الحسابات العمومية، ورصد الاختلالات المالية وتقديم التوصيات الرامية إلى تحسين الحكامة المالية والإدارية.

يستمد المجلس الأعلى للحسابات صلاحياته من الدستور، حيث يُحدد القانون اختصاصاته وأدواره الرقابية. ويُعتبر المجلس مؤسسة مستقلة تتولى التدقيق والرقابة على تنفيذ الميزانية العامة للدولة، والمحاسبة على الأموال العمومية، وفقًا لما ينص عليه القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية.

ويتولى المجلس عدة مهام رئيسية، منها الرقابة المالية على المؤسسات العمومية والجماعات الترابية، حيث يقوم بتدقيق الحسابات والتأكد من سلامة العمليات المالية، إضافة إلى تقييم الأداء لقياس مدى تحقيق الأهداف المحددة ومدى استخدام الموارد بكفاءة وفعالية، والبحث في المخالفات المالية والتأديبية واتخاذ الإجراءات اللازمة لمتابعة المسؤولين عن الاختلالات المالية، فضلًا عن إصدار تقارير دورية تشمل توصيات وملاحظات حول التدبير المالي والإداري للمؤسسات.

ويلعب المجلس الأعلى للحسابات دورًا محوريًا في التصدي للفساد من خلال الكشف عن التجاوزات المالية، إذ، عبر عمليات التدقيق والمراقبة، يعمل المجلس على رصد أوجه القصور والممارسات غير المشروعة التي قد تؤدي إلى تبديد المال العام، ويقوم، كذلك، بإحالة المخالفات إلى الجهات القضائية المختصة في حال اكتشاف تجاوزات جسيمة، حيث يُحيل الملفات إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

إلى جانب ذلك يسهم المجلس في تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة من خلال نشر تقارير مفصلة تُسلط الضوء على أوجه القصور، ما يُعزز الوعي العام بضرورة مكافحة الفساد، ناهيك عن تقديمه اقتراحات لإصلاحات قانونية وإدارية عبر تقديم توصيات تساعد في تطوير منظومة التدبير المالي والإداري وتعزيز الحوكمة الجيدة.

الأحكام الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات تتمتع بقوة قانونية معتبرة، حيث تُعد تقاريره بمثابة وثائق رسمية يعتمد عليها في تقييم أداء المؤسسات العمومية وكشف الاختلالات المالية. ويتمتع المجلس بسلطة إصدار قرارات تأديبية في حق المسؤولين المتورطين في سوء التدبير المالي، إذ يمكن أن تشمل هذه العقوبات غرامات مالية أو فرض استرداد الأموال المختلسة، فيما تتم إحالة الملفات التي يثبت فيها وجود خروقات جسيمة مباشرة إلى النيابة العامة، ما يُعطي لهذه الأحكام بعدًا زجريًا يُسهم في تعزيز الردع والحد من الممارسات الفاسدة.

علاوة على ذلك، فإن نشر التقارير السنوية والتفصيلية يمنح لهذه الأحكام صدى واسعًا على المستوى الوطني، ما يزيد من الضغط العام والمساءلة السياسية والإدارية تجاه المتورطين في الفساد. لكن، وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المجلس الأعلى للحسابات، إلا أن هناك تحديات قد تُعيق عمله، من أبرزها غياب المتابعة القضائية الفعالة، إذ إن بعض الملفات التي يُحيلها المجلس قد لا تحظى بالإجراءات القانونية اللازمة بسرعة، إضافة إلى محدودية الموارد البشرية والمالية، ما قد يؤثر على قدرة المجلس على تغطية جميع المؤسسات الخاضعة للرقابة. فضلا عن أن ضعف التعاون بين المؤسسات الرقابية يمثل تحديًا كبيرًا، حيث إن تضافر الجهود بين مختلف الهيئات الرقابية والسلطات التنفيذية ضروري لتعزيز فعالية محاربة الفساد.

ويظل المجلس الأعلى للحسابات إحدى الركائز الأساسية في منظومة الحكامة الجيدة بالمغرب، إذ يُشكل جدار حماية ضد الفساد المالي والإداري. ومع ذلك، فإن تعزيز دوره يتطلب تكاملًا مؤسساتيًا، ودعمًا قانونيًا وتنظيميًا، لضمان فعالية جهوده في كشف الفساد ومتابعة مرتكبيه.

إن تعزيز الشفافية والمساءلة يظل مسؤولية جماعية، تتطلب إرادة سياسية حقيقية وتفاعلًا مجتمعيًا واسعًا لضمان ترسيخ مبادئ النزاهة والحكامة الرشيدة.

ووفقًا للتقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنتي 2023 و2024، أصدرت المحاكم المالية ما مجموعه 3,951 قرارًا وحكمًا في مجال التدقيق والبت في الحسابات. ومن بين هذه القرارات، تم إبراء ذمة المحاسبين في 3,190 حالة، بينما جرى التصريح بعجز في 761 حالة بمبلغ إجمالي ناهز 54.9 مليون درهم. وفي مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، أصدرت المحاكم المالية 86 قرارًا وحكمًا، منها 62 قضت بغرامات مجموعها حوالي 5.1 مليون درهم، مع إلزام المعنيين بإرجاع مبلغ إجمالي قدره 9.15 مليون درهم. فيما جرى البت في 24 ملفًا بعدم ثبوت المؤاخذات. بالإضافة إلى ذلك أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، خلال الفترة نفسها، 16 ملفًا إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض – رئيس النيابة العامة – بشأن أفعال قد تستوجب عقوبة جنائية.

إحالة تقارير افتحاص الجماعات الترابية على محاكم الأموال

 

 

أعلنت زينب العدوي، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، أن الوكيل العام للملك لدى المجلس قرر إحالة 16 ملفا تسوجب عقوبات جنائية، على أنظار الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، قصد اتخاذ المتعين بشأنها، وذلك خلال الفترة ما بين سنة 2022 إلى متم شهر شتنبر 2024.

وأوضحت العدوي في عرض قدمته في جلسة مشتركة، عقدها مجلسا النواب والمستشارين، أن الأمر يتعلق بقرائن أفعال ذات صبغة جنائية مرتبطة بمجالي تنفيذ الصفقات والتعمير أو متعلقة بمنافع شخصية غير مبررة أو بالإدلاء بشواهد مرجعية للولوج لطلبيات عمومية تتضمن معطيات غير صحيحة.

وأكدت رئاسة النيابة العامة أنها تولي أهمية بالغة لملفات جرائم الأموال، إذ تروم التوجيهات الصادرة عنها في هذا الإطار حث النيابات العامة على مواكبة الأبحاث القضائية وضمان إنجازها داخل أجل معقول. ومن جهة أخرى، عرفت الشكايات المتعلقة بالجرائم المالية ارتفاعا، تفاعلت معها النيابات العامة لدى أقسام الجرائم المالية بإحالتها على مصالح الشرطة القضاىية لإنجاز الأبحاث بشأنها.

وبدوره أحال وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت،  تقارير أنجزتها المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية، على أنظار رئاسة النيابة العامة، والمجلس الأعلى للحسابات، من أجل اتخاذ المتعين بشأنها. وتتعلق هذه التقارير باختلالات رصدتها المفتشية في تدبير الجماعات الترابية، وتكتسي بعض الخروقات والاختلالات طابعا جنائيا يستدعي الإحالة على القضاء.

وتقوم المفتشية العامة لوزارة الداخلية بإنجاز عدد من مهام التفتيش تتمحور حول مراقبة التسيير الإداري والمالي والتقني لبعض الجماعات المحلية والهيئات التابعة لها، والبحث والتحري في تصرفات منسوبة لبعض رجال السلطة، ومراقبة ميدان التعمير، ومهام البحث في شأن شكايات أو مواضيع مختلفة، والمهام المتعلقة بعمليات تسليم السلط.

وبعد الانتهاء من جميع الأبحاث والتحريات بالجماعات الترابية المعنية تقوم اللجن التابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية بإعداد تقارير التفتيش والمراقبة وفق المعايير المعمول بها في هذا الميدان، حيث يراعي الاحترام التام لحق الدفاع باعتباره من الحقوق الكونية، إذ تتم في إطار ما يصطلح عليه بالمسطرة التواجهية، إحالة النتائج المتوصل إليها، عقب الانتهاء من إعداد التقارير، على المنتخبين الجماعيين المعنيين حتى يتسنى لهم إبداء ملاحظاتهم وتقديم تعليلاتهم بخصوص مختلف التجاوزات والمخالفات المنسوبة إليهم، وتنجز هذه اللجن مهام تفتيش وتحري، تتعلق مواضيعها بالتسيير المالي والإداري للجماعات التربية ومراقبة التعمير وتسليم السلط والبحث في التصرفات المنسوبة لبعض رجال السلطة وأعوانهم وبعض الموظفين والتحقيق في الشكايات المرفوعة ضد المنتخبين أو بميادين أخرى.

وسبق لوزير الداخلة التأكيد على أهمية الافتحاص الداخلي للجماعات. واعتبر أن ورش تكريس الافتحاص الداخلي بالجماعات يأتي في إطار تنزيل مقتضيات الدستور، كما يعد عنصرا مهما من عناصر تفعيل الحكامة الجيدة التي أفرد الدستور لها بابا خاصا، نص فيه على إخضاع المرافق العمومية للمراقبة والتقييم وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وأضاف الوزير أنه في إطار تعزيز المسار الديمقراطي للمغرب وجعل الجهوية رافعة محورية للتنمية الترابية، تم توسيع اختصاصات الجماعات الترابية وتخفيض مستويات الوصاية والرقابة القبلية عليها، لذلك أصبح من اللازم اعتماد آليات الرقابة الداخلية كالإفتحاص الداخلي الذي يعد أداة لمساعدة القائمين على التدبير المحلي على تقييم مدى استجابة البرامج للخدمات المقدمة للمواطنين،  كما أكد على أن وزارة الداخلية بكل مكوناتها، ستظل حريصة على مواكبة هذا الورش خاصة عبر التكوين ودعم القدرات.

ومن بين الملاحظات المسجلة من طرف المفتشية العامة، رصد مجموعة من الاختلالات تتعلق بسوء تدبير قطاع المداخيل بالجماعات الترابية، وضعف تدابير المراقبة الداخلية، مما قد يؤثر سلبا على ممارسة شساعة المداخيل للاختصاصات الموكلة إليها، والإعفاءات غير المبررة للملزمين الخاضعين لبعض الرسوم المحلية واستخلاص الجماعات دون سند قانوني لبعض المداخيل، وعدم القيام بالإجراءات اللازمة لتحصيل بعض مداخيل الجماعات، كما هو الحال بالنسبة لواجبات الأكرية والرسم على استخراج مواد المقالع والرسم على عمليات تجزئة الأراضي والرسم المفروض على محال بيع المشروبات والرسم على محطات الوقوف والنقل العمومي والرسم المفروض على شغل الملك العمومي لأغراض تجارية أو صناعية أو مهنية ومداخيل النقل بواسطة سيارة الإسعاف ومنتوج استغلال المياه، إضافة إلى تراكم مبالغ “الباقي استخلاصه”.

وعلى مستوى تدبير المصاريف، أظهرت مهام مراقبة التدبير المالي والإداري بالجماعات الترابية مجموعة من الاختلالات على مستوى تنفيذ النفقات العمومية كما أبانت كذلك العديد من النواقص طبعت إنجاز المشاريع الجماعية وتسببت في تعثر البعض منها، وتتلخص أهم الملاحظات في إنجاز الجماعات لمشاريع دون الاعتماد على دراسات تقنية مسبقة، وعدم مشكل سجلات المحاسبة المتعلق بالجماعات المحلية ومجموعاتها، ولا سيما دفتر تسجيل حقوق الدائنين والدفتر اليويي لأوامر الأداء الصادرة، وعدم احترام الضوابط القانونية بتنفيذ الصفقات العمومية وخرق المساطر المعمول بها وعدم اعتماد المحاسبة المادية بالنسبة لمقتضيات الجماعة، فضلا عن إهمال مجموعة من الممتلكات المعطلة من أجهزة ومعدات وآليات بالمخزن الجماعي، رغم إمكانية إصلاحها، كما رصدت التقارير اختلالات تتعلق بسوء تدبير حظيرة السيارات.

كما أظهرت مهام التفتيش التي شملت جوانب مختلفة من التدبير المالي والإداري بالجماعات الترابية مجموعة من الاختلالات خاصة على مستوى تنفيذ الطلبيات العمومية، كما أبانت كذلك عن العديد من النواقص طبعت إنجاز بعض المشاريع وتسببت في تعثر البعض منها، ويتعلق الأمر بعدم احترام مقتضيات دفتر التحملات بخصوص إنجاز أشغال الصفقات، وأداء مبلغ عن خدمات لم تنجز، وأداء مبالغ متعلقة بسندات طلب دون الإنجاز الكامل للأشغال، واللجوء المتكرر إلى عدد محدود من الموردين، اللجوء إلى تسوية وضعية نفقات باللجوء بسندات الطلب، بالإضافة إلى تسليم أشغال صفقة بالرغم من عدم احترام المواصفات التقنية المنصوص عليها بدفتر الشروط الخاصة.

متابعة 253 شخصا أمام المحاكم المالية ضمنهم 122 رئيس جماعة

 

 

نشر المجلس الأعلى للحسابات تقريره السنوي، الذي يقدم بيانا عن جميع أنشطة المجلس والمجالس الجهوية، تضمن تسجيل العديد من الخروقات المالية والإدارية شابت تسيير مؤسسات وإدارات عمومية وكذلك الجماعات الترابية.

وأفاد تقرير المجلس الأعلى للحسابات بأن المحاكم المالية أصدرت، خلال سنة 2023 وإلى حدود متم شهر شتنبر 2024، 86 قرارا وحكما في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، بلغ مجموع غراماتها ما قدره 5.056.500,00 درهم مع الحكم بإرجاع مبلغ يصل إلى 9.148.973,42 درهما.

وعلى مستوى الملفات الرائجة في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، أمام المحاكم المالية، بلغ عددها ما مجموعه 297 ملفا، تم البت في 86 منها بقرارات وأحكام بالغرامة بما مجموعه 5.056.500,00 درهم وأحكام بإرجاع المبالغ المطابقة للخسارات التي تسببت فيها المخالفات المرتكبة بالأجهزة المعنية بما مجموعه 9.148.973,42 درهما.

وبخصوص مصدر هذه القضايا، وكما هو الشأن منذ دخول مدونة المحاكم المالية حيز التنفيذ، وبالنظر إلى السلطات المؤهلة لرفع القضايا في إطار التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، فإن 92 بالمائة من القضايا الرائجة أمام المجلس، كان مصدرها الهيئات التداولية الداخلية بالمجلس، أما على مستوى المجالس الجهوية للحسابات، فشكلت طلبات رفع القضايا الواردة من مصدر خارجي نسبة بلغت 21 بالمائة من مجموع طلبات رفع القضايا، حيث انفردت وزارة الداخلية برفعها، وفي المقابل شكلت طلبات رفع القضايا من مصدر داخلي 79 بالمائة من مجموع هذه الطلبات. بالإضافة إلى ذلك تم إيداع 36 طلب رفع قضية جديد لدى النيابة العامة بالمحاكم المالية من طرف هيئات داخلية.

وتوبع في إطار هذه القضايا 253 شخصا موزعين ما بين 122 رئيس مجلس جماعة ترابية أو مؤسسة عمومية محلية أي ما يمثل 48 بالمائة من مجموع الأشخاص المتابعين (115 رئيس مجلس جماعي و3 رؤساء مجالس إقليمية و4 رؤساء مجالس مؤسسات تعاون أو مجموعات جماعات) و62 موظفا وتقنيا (24 بالمائة) وتوزعت المتابعات المتبقية، أي 28 بالمائة، ما بين 19 شسيع مداخيل و17 رئيس مصلحة و12 نائب رئيس مجلس محلي و8 رؤساء أقسام و8 مدراء (مدراء مصالح وموارد بشرية ووكالة جهوية لتنفيذ المشاريع)، و5 أعضاء مجالس جماعية.

وهمت الأفعال التي شكلت قرائن على ارتكاب مخالفات في إطار الملفات الرائجة بشكل رئيسي مجالي تدبير الصفقات العمومية والمداخيل. وتمثلت أهمها، بالنسبة للصفقات العمومية، في عدم اللجوء للمنافسة دون مبرر والإعمال غير السليم للمعايير المحددة بنظام الاستشارة لتقييم عروض المتنافسين، والقصور في تحديد الحاجيات عند إعداد دفتر الشروط الخاصة، والإشهاد غير الصحيح على تسلم أشغال أو توريدات غير مطابقة للمواصفات المتعاقد بشأنها أو للكميات المنجزة فعليا، والتسلم المؤقت للأشغال على الرغم من عدم إتمام إنجازها والنقص في جودتها وعدم تطبيق الجزاءات المقررة في الصفقة عن الإخلالات أو التأخير في إنجازها، فيما همت، بالنسبة للمداخيل، القصور في تحديد وضبط الوعاء الضريبي، وعدم اللجوء لمسطرة الفرض التلقائي للرسوم، وعدم مراقبة الإقرارات المصرح بها من طرف الملزمين والنقص في تحصيل مجموعة من الرسوم أو في احتساب مبلغها.

وفي ما يتعلق بالتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، فإن هذا الاختصاص يجسد الوظيفة العقابية الأساسية للمحاكم المالية، إذ يتم بمقتضاه البت في مسؤولية الأشخاص المتابعين أمام هذه المحاكم من طرف النيابة العامة لديها، بواسطة قرارات وأحكام، إما بعدم المؤاخذة في حالة عدم ثبوت ارتكاب المتابع المعني لمخالفة مستوجبة للمسؤولية أو بالحكم عليه بالغرامة المناسبة، حسب ظروف وملابسات الفعل المرتكب، في إطار الحدين الأقصى والأدنى المنصوص عليهما في المادة 66 من مدونة المحاكم المالية. وبالإضافة إلى الغرامة، وفي حالة ما إذا ترتبت عن المخالفة المرتكبة خسارة للجهاز العام المعني، تحكم المحكمة المالية بإرجاع الأموال المطابقة من رأسمال وفوائد.

ويمارس هذا الاختصاص وفق دعوى تقام أمام المحاكم المالية من طرف النيابة العامة لدى هذه المحاكم من أجل المطالبة بتوقيع الجزاء على الأشخاص المتابعين، الذين يرتكبون إحدى المخالفات المستوجبة للمسؤولية في هذا المجال. ويعكس الدور الرئيسي للنيابة العامة، كسلطة متابعة وملاءمة في إقامة الدعوى، الطابع الزجري لهذا الاختصاص، وهو ما يقتضي التمييز، في إطار ممارسة هذه الدعوى، بين مختلف السلطات المتدخلة في المسطرة القضائية، سواء في مرحلة المتابعة أو التحقيق أو البت في القضية، إذ يشكل هذا التمييز أحد شروط المحاكمة العادلة. كما تمنح المسطرة المتبعة في إطار ممارسة هذا الاختصاص ضمانات للمتابعين لتمكينهم من ممارسة حقوق الدفاع خلال جميع مراحل المسطرة، وتتشابه إلى حد بعيد مع الحقوق المكفولة للمتهمين في إطار المسطرة الجنائية.

أما بشأن المخالفات المستوجبة للمسؤولية، فإن أغلب الأفعال والمؤاخذات موضوع القضايا الرائجة أو تلك التي بتت فيها المحاكم المالية، تتعلق بحالات عدم التقيد بالنصوص القانونية المطبقة على تنفيذ عمليات الموارد والنفقات العمومية في مختلف مراحل تنفيذها، سواء في مجال المداخيل أو الصفقات العمومية، كما هو الشأن بالنسبة لفرض وتحصيل الرسوم الجماعية واللجوء إلى صفقات التسوية (استلام أشغال أو خدمات قبل التأشير على الصفقات)، وعدم تطبيق غرامات التأخير وتغيير المواصفات التقنية أثناء التنفيذ دون المساطر القانونية والإشهاد غير الصحيح على استلام الأشغال أو المواد. كما يلاحظ تنامي المخالفات ذات الصلة بتدبير الممتلكات والحصول على امتيازات نقدية أو عينية غير مبررة، كانعكاس لتصاعد عدد القضايا الرائجة أمام المحاكم المالية والمتعلقة بالمؤسسات والمقاولات والشركات العمومية وكذا إبرام وتنفيذ عقود التدبير المفوض.

وأكد تقرير المجلس أن القرارات والأحكام الصادرة عن المحاكم المالية، في هذا المجال، كرست مجموعة من القواعد والمبادئ التي تروم توضيح المقتضيات السارية في مجال التدبير العمومي وإرساء وإشاعة قواعد حسن التدبير وإثارة الانتباه إلى الثغرات والاختلالات التي تشوب هذا التدبير بهدف العمل على تجاوزها في المستقبل. على هذا الصعيد، وفضلا عن تكريس الاتجاه نحو توسيع نطاق مبدأ شرعية المخالفة في مادة التأديب المتعلق بالميزانية، الذي يتجاوز مخالفة القواعد المنصوص عليها في القوانين والأنظمة ليمتد إلى الممارسات الجيدة في التدبير، همت القواعد المستنبطة من الأحكام والقرارات الصادرة مختلف مجالات التدبير المالي العمومي، سيما مخاطر اللجوء إلى سندات وصفقات التسوية والواجبات الوظيفية لصاحب المشروع في إطار تدبير الصفقات العمومية والشروط والواجبات التي تقتضيها مهمة الإشهاد على تسلم الخدمات والأعمال موضوع الصفقات العمومية، وكذا شروط وقواعد الإعلان عن التسلم المؤقت والنهائي كما هو الشأن بالنسبة لواجبات العضو في لجنة تسلم الأعمال موضوع صفقة عمومية مسؤولية الآمر بالصرف بصفته صاحب المشروع في مجال الإشهاد على العمل المنجز، وحول السلطة التقديرية لصاحب المشروع في إعمال الإجراءات القسرية من أجل حث صاحب الصفقة على تنفيذ التزاماته التعاقدية.

بيد أنه، وبالرغم من أهمية هذه القواعد والمبادئ، خلص تقييم التجربة، التي راكمتها المحاكم المالية في هذا المجال، إلى هيمنة المخالفات الشكلية (عدم احترام قواعد قانونية دون إحداث ضرر) على المنازعة القضائية أمام هذه المحاكم وضعف أثر العقوبات الصادرة عنها التي يحد من فعاليتها ضعف مبالغ الغرامات المحكوم بها ومحدودية حالات الحكم بإرجاع الأموال من أجل جبر الضرر الذي لحق جهازا عموميا نتيجة المخالفات المرتكبة، الأمر الذي يقتضي تعزيز الوظيفة العقابية للمحاكم المالية بشكل يتناسب مع الغاية من سن هذا الاختصاص والرهانات الجديدة للتدبير المالي العمومي في إطار الانتقال إلى التدبير المرتكز على النتائج بدل التدبير المبني على الوسائل، من خلال اعتماد سياسة عقابية فعالة وناجعة، تراعي التوازن في الممارسة القضائية بين مختلف المخالفات المستوجبة للمسؤولية، إذ يجب أن تنصب المساءلة أمام المحاكم المالية، فضلا عن مدى مخالفة القواعد القانونية، على الأسباب الهيكلية والتنظيمية التي ساهمت في ارتكاب المخالفات، والنتائج التي ترتبت عن الأفعال المرتكبة وحجم الخسارة التي أسفرت عنها، وذلك حتى يتسم العقاب في هذا الإطار بالشمولية والنجاعة والإنصاف، وذلك من خلال تركيز العقوبات على المخالفات التي تتسم بالخطورة من قبيل تلك التي تفضي إلى إلحاق خسارة أو إلى الحصول على منفعة غير مبررة أو إلى تسجيل حالات سوء تدبير الأموال والمشاريع العمومية أو تلك التي يترتب عنها أثر سلبي على المرتفقين والتجهيزات والاستثمارات العمومية.

تحريك ملفات الفساد المالي للمنتخبين مدخل لتخليق الحياة السياسية

 

في سياق عام يتسم بتزايد الوعي المجتمعي بمخاطر الفساد على التنمية والديمقراطية، يكتسي تحريك ملفات الفساد المالي في صفوف المنتخبين أهمية مركزية، ليس فقط من زاوية المحاسبة القضائية، بل أيضًا كمدخل حقيقي لتخليق الحياة السياسية وترسيخ الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، خصوصًا ونحن على أعتاب محطة انتخابية مفصلية سنة 2026.

فقد أضحى لافتًا في السنوات الأخيرة تصاعد تحركات الجهات الرقابية، وعلى رأسها رئاسة النيابة العامة، التي أحالت عشرات الملفات المرتبطة بتدبير المال العام على المجالس الجهوية للحسابات والمحاكم المالية، في خطوة تنسجم مع التوجيهات الملكية المتكررة بربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس مبادئ الحكامة الجيدة. وتطول هذه الملفات رؤساء جماعات ومنتخبين، بعضهم لا يزال يمارس مهامه، وآخرون سبق أن تعاقبوا على مناصب التدبير المحلي والجهوي، وسط مطالب متزايدة بتوسيع نطاق التحقيق لتشمل ملفات أكثر حساسية وغموضًا.

إن فتح هذه الملفات لا يعكس فقط تطورًا في أداء المؤسسة القضائية، بل يبعث برسائل واضحة مفادها أن الجرائم المالية لم تعد تمر دون عقاب، وأن الحصانة السياسية لا يمكن أن تشكل غطاءً للإفلات من المحاسبة. كما أن هذه الإحالات تسهم في تعزيز مصداقية الدولة وقدرتها على فرض القانون، وهو ما ينسجم مع روح دستور 2011 الذي جعل من الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة أحد أركانه الأساسية.

لكن أهمية هذا التوجه تتجاوز البعد القضائي أو الزجري لتطول ضرورة تنقية المشهد السياسي والانتخابي من العناصر الملوثة بالفساد، والتي غالبًا ما تعتمد على المال الانتخابي أو شبكات الزبونية والولاءات الضيقة لضمان استمرارها في مواقع المسؤولية، ما يفرغ الاستحقاقات الديمقراطية من مضمونها، ويغذي حالة من الإحباط السياسي والعزوف الانتخابي لدى فئات واسعة من المواطنين.

مع اقتراب الانتخابات التشريعية والمحلية المنتظرة سنة 2026، تبدو الحاجة ملحة لإحداث قطيعة فعلية مع ثقافة الإفلات من العقاب، والقطع مع المنظومة الانتخابية التي ما زالت تُنتج في بعض الجهات والدوائر نخبًا غير مؤهلة، إن لم تكن موضع شبهة. وهو ما يطرح مسؤولية كبرى على الدولة والأحزاب السياسية في ضمان بيئة انتخابية نزيهة تفرز تمثيلية حقيقية لا يعوزها المصداقية.

وفي هذا الإطار، لا بد من إرفاق تحريك الملفات القضائية بإصلاحات أعمق في المنظومة الحزبية، أبرزها التشدد في منح التزكيات ومنع منحها للعناصر المتورطة في سوء التدبير أو الذين تحوم حولهم شبهات جدية؛ تفعيل العزل السياسي تلقائيًا بحق المنتخبين المتابعين أو المدانين في قضايا تبذير المال العام؛ اعتماد معايير صارمة في اختيار المرشحين، قوامها الكفاءة والنزاهة والسجل الأخلاقي، بدل اللجوء إلى أعيان المال والسلطة فقط.

غير أن فعالية هذا المسار تبقى مرهونة بمدى الحياد والموضوعية في فتح الملفات، إذ لا معنى لأي حملة تطهير ما دامت تخضع لمنطق الانتقائية أو تُستعمل لتصفية الحسابات السياسية. فالمصداقية تفترض أن تشمل المراقبة والمساءلة جميع الأطراف، بغض النظر عن مواقعها السياسية أو الحزبية، وأن يُنشر أمام الرأي العام لوائح دقيقة للمنتخبين المتابعين أو موضوع تقارير رسمية من مؤسسات الرقابة، حتى لا تبقى في خانة “السر الإداري”، وتُفرغ من بعدها الردعي.

وفي الوقت نفسه، فإن على السلطات المعنية أن تُسرّع وتيرة البت في الملفات المتراكمة، وتجنب المماطلة التي تفقد القضايا أهميتها أمام الرأي العام، وتخلق انطباعًا عامًا بعدم الجدية أو التوظيف السياسي لهذه الملفات.

وعموما فإن تحريك ملفات الفساد المالي للمنتخبين ليس مجرد إجراء قضائي معزول، بل هو خيار استراتيجي لبناء تعاقد سياسي ومؤسساتي جديد، يعيد للمواطنين ثقتهم في العمل العام، ويؤسس لمشهد سياسي ديمقراطي نظيف، تُفرز فيه المؤسسات المنتخبة على أساس النزاهة والكفاءة، لا الولاءات والمصالح الضيقة. ومع كل خطوة في هذا الاتجاه، نقترب من تحقيق دولة المؤسسات والقانون التي يتساوى فيها الجميع أمام المحاسبة، وتُصان فيها كرامة المواطن وماله العام.

ثلاثة أسئلة

 

عبد الحفيظ أدمينو* :

«وظيفة النيابة العامة محورية في قضايا الفساد المالي وتخليق الحياة السياسية مسؤولية مشتركة»

 

  • ما دلالة توجه رئيس النيابة العامة إلى إحالة عشرات ملفات الفساد المالي على محاكم جرائم الأموال؟

أولا، قبل الحديث في الموضوع، وجبت الإشارة إلى أن عدد ملفات الفساد في صفوف المنتخبين، على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي، ليس بالصورة التي يتم تسويقه بها كما لو أن تلك المجالس غارقة في الفساد، بل إننا، من بين آلاف  المستشارين على المستوى الوطني، نجد أن ملفات الفساد تبقى محدودة، لكن رغم ذلك يشكّل الفساد المالي أحد أبرز التحديات التي تواجه الديمقراطية المحلية والحكامة الجيدة في المغرب، خاصة عندما يتعلق الأمر بسلوك بعض المنتخبين داخل الجماعات الترابية والمؤسسات التمثيلية. وفي هذا السياق يبرز دور النيابة العامة كفاعل رئيسي في إنفاذ القانون وتعزيز مبادئ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.

لقد أرسى دستور 2011 معالم جديدة لدور القضاء في تخليق الحياة العامة، حيث نصّ في فصله الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتبر في فصله 36 أن «جرائم الرشوة واختلاس المال العام… تُعد من الممارسات الممنوعة ويُعاقب عليها القانون». دستور 2011 منح للنيابة العامة، منذ استقلال السلطة القضائية بموجب القانونين التنظيميين 100.13 و106.13، اختصاصات واسعة في البحث والتحري والتحريك التلقائي للدعوى العمومية.

وتتمثل وظيفة النيابة العامة، خصوصًا في قضايا الفساد المالي، في فتح تحقيقات ابتدائية بناءً على تقارير رسمية، مثل تقارير المجلس الأعلى للحسابات أو مفتشية وزارة الداخلية، أو شكايات المواطنين وهيئات المجتمع المدني، كما تتعاون النيابة العامة مع الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والدرك الملكي في تعميق الأبحاث وتحديد المسؤوليات، قبل إحالة الملف على قضاء التحقيق.

 

  • ما مدى فعالية منظومة الرقابة المالية في التقليص من ملفات فساد المنتخبين؟

في هذا السياق تجب الإشارة إلى أن منظومة الرقابة تقوم بالمراقبة والإفتحاص والتدقيق على عدة مستويات، بدءا من الرقابة الإدارية القبلية والبعدية، وتباشرها وزارة الداخلية عبر المفتشية العامة للإدارة الترابية، التي تتولى فحص وتقييم طرق التدبير الإداري والمالي للجماعات، وتصدر تقارير تفصيلية بشأن النفقات والصفقات والمداخيل والتدبير الوظيفي، هذا بالإضافة إلى رقابة المحاكم المالية، من خلال المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية التابعة له، وتضطلع بدور محوري في تدقيق حسابات الجماعات الترابية، وإصدار تقارير دورية حول تدبيرها المالي والمحاسباتي، والتي قد تشمل تقييما للبرامج والمشاريع، وتحديد مكامن القصور أو شبهات الاختلال.

ثم نجد الرقابة القضائية الزجرية، التي تتولاها النيابة العامة عند إحالة تقارير التفتيش أو عندما يجري الإبلاغ عن جرائم مالية، حيث يتم فتح تحقيقات قضائية قد تفضي إلى متابعات جنائية أو تأديبية ضد منتخبين أو مسؤولين إداريين، دون إغفال الرقابة البرلمانية، عبر لجان تقصي الحقائق أو مساءلة الوزراء حول التدبير المحلي، وتكتسي أهمية خاصة حين يتعلق الأمر ببرامج تنموية أو دعم حكومي موجه للجماعات، ورقابة المجتمع المدني والصحافة، التي تعززها القوانين المتعلقة بالحق في الحصول على المعلومة، وتلعب دورًا مهمًا في رصد الاختلالات وتعبئة الرأي العام حول تدبير الشأن العام المحلي.

غير أنه تجب الإشارة إلى أنه، رغم وفرة آليات المراقبة، فإن الإشكال يكمن في مدى تفعيل نتائج التقارير الرقابية على أرض الواقع. فكثير من التقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات أو المفتشية العامة تبقى حبيسة الأدراج، دون إحالات كافية على القضاء أو إجراءات تصحيحية فعالة، ولهذا فإن التنسيق بين النيابة العامة والمحاكم المالية يشهد تحسنًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد مبادرة رئيس النيابة العامة بإحالة عشرات الملفات على محاكم جرائم الأموال أو على المجالس الجهوية للحسابات، ما يبرز إرادة واضحة في الانتقال من الرصد إلى المحاسبة.

وتتمثل أهمية الرقابة ليس فقط في الطابع الزجري والعقابي، بل تكمن، أيضا، في دورها التوجيهي والوقائي، حيث تساهم عمليات التدقيق المنتظمة في تحسين تدبير الميزانيات والصفقات، وتدفع المجالس المنتخبة إلى التحلي بالحذر المؤسساتي واعتماد الشفافية قاعدة للتسيير، فضلا عن أنها تحفز المسؤولين المحليين على تدارك أوجه القصور قبل أن تتحول إلى ملفات قضائية. ويجب التأكيد، كذلك، على ضرورة مواكبة الجماعات الترابية في تقوية آليات التدبير والتخطيط، حتى لا تتحول الرقابة إلى مجرد أداة للعقاب، بل إلى شريك في بناء ثقافة التدبير الرشيد.

  • ماذا عن أهمية تحريك هذه الملفات في تخليق الحياة السياسية مع دنو انتخابات سنة 2026؟

لا يمكن الحديث عن تخليق الحياة السياسية بالاقتصار على الدور القضائي الزجري فقط، دون مساءلة دور الأحزاب السياسية نفسها، باعتبارها الفاعل المركزي في إنتاج النخب وتشكيل القواعد الأخلاقية للممارسة الديمقراطية. فالكثير من الأحزاب، اليوم، لم تعد تقوم بوظيفتها التأطيرية والتكوينية، بل تحولت إلى هياكل انتخابية جوفاء تُفعَّل فقط في المواسم الانتخابية، وتُغلق بعدها مقراتها، وتغيب عن قضايا المواطنين اليومية.

وتُعاني هذه الأحزاب من أعطاب بنيوية مزمنة، تتمثل في غياب الديمقراطية الداخلية، واحتكار القرار السياسي من قبل دوائر ضيقة، وتغييب الكفاءات الشابة والكوادر النظيفة التي قد تشكل بديلاً حقيقيًا عن النخب المتآكلة، ما أدى إلى ترسيخ منطق الولاء بدل الكفاءة، والزبونية بدل الاستحقاق، الأمر الذي ساهم في نفور فئات واسعة من المجتمع، خاصة الشباب، من الانخراط في العمل الحزبي.

وفي هذا السياق يبرز، أيضًا، خطر «تحول بعض الأحزاب إلى ملاذ للأعيان وأصحاب الثروات» الذين يُستقطبون لا بناء على البرامج والرؤية، بل على القدرة المالية والشعبوية، ما يجعل صناديق الاقتراع تُفرز ممثلين لا يعكسون بالضرورة إرادة المواطنين أو انتظاراتهم التنموية، بل يُعاد إنتاجهم من دورة انتخابية لأخرى، رغم سجلهم السلبي في التدبير أو شبهات الفساد التي تلاحقهم.

إن الرهان على انتخابات 2026 لا يجب أن يختزل في نتائج الأرقام والمقاعد فقط، بل لا بد أن يشمل مراجعة عميقة لطريقة اشتغال الأحزاب السياسية، عبر تفعيل آليات المحاسبة الداخلية، واعتماد التكوين السياسي المستمر لأعضائها، ووضع آليات لاكتشاف الكفاءات وتحصينها من الإقصاء وإشراك مناضليها في صياغة القرارات والبرامج.

الأحزاب مطالبة اليوم، كذلك، بإعادة بناء خطاب سياسي عقلاني ومسؤول، يُعيد الثقة في السياسة ويُخاطب المواطن بلغة البرامج الواقعية وليس الوعود الفضفاضة.

وتبقى المصالحة بين الأحزاب والمواطنين مرهونة بإرادة حقيقية للقطع مع منطق الريع السياسي والانتهازية، والانتقال نحو أحزاب ذات وظائف مجتمعية، تتفاعل مع قضايا الشارع وتدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمغاربة، وتُكوّن جيلًا جديدًا من الفاعلين العموميين المؤمنين بالشفافية والنزاهة والنجاعة في التدبير.

 

*أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالرباط

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى