الرئيسيةملف التاريخ

مولاي أحمد العراقي يضع نقطة نهاية ويغادر في سن الـ89

الوزير الأول الذي قاد أقل الحكومات حظا وهو دون الأربعين

يونس جنوحي
فضّل ارتداء السماعة والوزرة على ربطة العنق والبذلة السوداء. افتتح مولاي أحمد العراقي عيادته في الدار البيضاء سنة 1957، وسرعان ما استطاع الوزير الاستقلالي أحمد بلافريج، الذي كان وزيرا للخارجية ثم وزيرا أول لحكومة نهاية الخمسينيات على عهد الملك الراحل محمد الخامس، أن يقنعه بتوديع العيادة ودخول غمار العمل السياسي من بوابة وزارة الخارجية.
عمل في عدة مهام رسمية مثل فيها المغرب بالخارج، إلا أن مهمة سنة 1967 بنيويورك كان لها وقع خاص. مباشرة بعد انتهاء المهمة الدبلوماسية في الولايات المتحدة، عاد أحمد العراقي إلى باريس. وبينما هو هناك جاءه اتصال هاتفي من القصر الملكي يطلب منه الدخول فورا إلى المغرب.
دارت تخمينات كثيرة في رأسه، أبرزها أنه من الممكن أن يكون قد أقدم على تصرف لم يعجب الملك الراحل خلال الزيارة إلى أمريكا أو أن تطورا ما قد وقع.
بصعوبة وجد أحمد العراقي طائرة مباشرة إلى الدار البيضاء، وبمجرد ما نزل من الطائرة، وجد في انتظاره موظفا طلب منه مرافقته، فازدادت الشكوك حول طبيعة استدعائه بهذه الصورة العاجلة إلى القصر الملكي، دون حتى أن يتصل به وزير الخارجية لتوضيح الأمر.
طوال الطريق بين الدار البيضاء والرباط، في برد فبراير وغيمه، لم تزدد الهواجس إلا حدة. ولم تتوقف إلا وهو ينزل من السيارة في اتجاه المكان الذي كان يقف فيه الملك الراحل الحسن الثاني: ملعب الهوكي المجاور للإقامة الملكية.
وقبل حتى أن يبدأ الملك الحديث مع أحمد العراقي، توجه بالكلام إلى مرافقيه فوق العشب، وهم المستشار أحمد رضا اكديرة وإدريس السلاوي والمحمدي الذي كان وزيرا للداخلية في الخمسينيات، قائلا: «أقدم لكم وزير الخارجية الجديد».
عين مرة أخرى وزيرا أول سنة 1969 بنفس السيناريو تقريبا، إذ كان في مهمة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك. وبينما كان مستمتعا بيومي راحة في جزيرة تطل على المحيط الأطلسي في القارة الأمريكية، إذا بمكالمة من إدريس السلاوي يربطه فيها بالملك الحسن الثاني ليقول له، عليك أن تعود إلى الرباط قبل نهاية الأسبوع لأنني سوف أعينك وزيرا أول. ولم يكن سنه يتجاوز 38 سنة.
حكومته غادرها أربعة وزراء ودخلوا السجن بتهمة الارتشاء، وخلال وجوده في منصب الوزير الأول وقع انقلاب الصخيرات وصارح الملك الحسن الثاني بأن المغرب يحتاج وزيرا أول بخبرة رجل أعمال وخبير في الاقتصاد. وغادر ليترك المكان لكريم العمراني.
كواليس كثيرة عن حياة أحمد العراقي الذي غادرنا بداية هذا الأسبوع.. عن حياته وسفرياته، هذه هي الحكاية.

علبة أسرار الحسن الثاني وكواليس السنوات الحرجة
برحيل مولاي أحمد العراقي هذا الأسبوع، يكون المغرب قد دفن آخر رجالات المربع الملكي القريب في فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
رجل وُلد في جو سياسي، ثم نجح في التحليق بعيدا عن ميولات المقربين منه، والذين اعتنقوا السياسة وولجوا الإدارات والوزارات بعد سنة 1956.
أما مولاي أحمد العراقي فقد اختار طواعية أن يدرس الطب، وعندما عاد من باريس سنة 1957، لم يفكر في الوزارة ولا في منصب في الإدارة العمومية. فتح عيادته على الفور في الدار البيضاء وانهمك في استقبال مرضاه، إلا أن صديقه أحمد بلافريج، أيقونة حزب الاستقلال والرجل الذي كان الملك الراحل محمد الخامس يفضل الجلوس معه، لإمساك العصا من الوسط بعد أن رفض الاستقلاليون تجربة حكومة امبارك البكاي، كان له رأي آخر. بلافريج استقطب مولاي أحمد العراقي، في إطار مشروع أطلقه لإدخال كفاءات مغربية إلى مفاصل الوزارات السيادية. وهكذا كان نصيب أحمد العراقي أن يلج عالم الدبلوماسية بعدما عمل موظفا بوزارة الخارجية. اقترب من محيط الملك الراحل محمد الخامس، لكن التجربة التي اكتسبها من خلال المهام الدبلوماسية التي مثل فيها المغرب عضوا في الوفد الرسمي ووراء المكتب مع أحمد بلافريج، كانت تختمر لكي يوجهها الملك الراحل الحسن الثاني بنفسه. فقد التقطه في الزيارة الملكية إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1967، لكي يعينه مباشرة بعد العودة وزيرا للخارجية، وكانت واقعة تعيينه قصة تتأرجح بين التشويق والطرافة.
سوف نأتي إلى تفاصيلها في هذا الملف، إذ أن واقعة الخارجية تلتها سنة 1969 واقعة أهم، وهي تعيينه وزيرا أول للحكومة المغربية الأكثر تأثرا بأحداث الساحة السياسية والاقتصادية خلال حياة الملك الراحل الحسن الثاني.
حكومة ذهب أربعة وزراء منها إلى السجن بتهمة الارتشاء، وخلال فترة أحمد العراقي حدث انقلاب الصخيرات الذي أعاد بسببه الملك الحسن الثاني بناء خطوط الدولة وتوجيه الأمور نحو الخروج من «عنق الزجاجة» كما يقال.. عاش مولاي أحمد العراقي كل هذه الكواليس، وسلم مفاتيح الوزارة إلى رجل الأعمال كريم العمراني.
ربما يكون مولاي أحمد العراقي أحد القلائل الذين صارحوا الملك الحسن الثاني بما كان يجري في الكواليس داخل أروقة الوزارات، وفي أكثر من مناسبة. كما أنه أحد أصغر الشباب الذين أوكل إليهم الملك بنفسه مهام كبرى من بينها قيادة وزارات سيادية، إذ إنه عين وزيرا للخارجية وهو في السادسة والثلاثين، وقاد الحكومة المغربية سنة 1969 وهو دون الأربعين.

كيف أصبحتُ وزيرا أول؟
كان مولاي أحمد العراقي يتوجه صوب الطائرة التي أقلته بأمر من الملك الحسن الثاني إلى إيران لتبليغ رسالة هامة إلى الشاه سنة 1968 على أثر حادث حرق المسجد الأقصى. كان تفكيره، وهو وزير للخارجية حينها، منصبا على استثمار صداقته المتينة بوزير الخارجية الإيراني وقتها، لإقناع الشاه بضرورة ضم صوته إلى صوت الملك الحسن الثاني للخروج بقرار يمثل الدول الإسلامية لنزع فتيل التطورات التي تعرفها الساحة على إثر حادث محاولة إحراق المسجد الأقصى.
كانت مهمة أحمد العراقي تتلخص في محاولة إقناع الشاه بتجاوز الخلاف بينه وبين الملك السعودي فيصل، لكي يشارك البلدان في قمة إسلامية لبحث القضية.
كان المشكل الإيراني السعودي وقتها لاهبا، لذلك كانت مهمة أحمد العراقي غير سهلة بالمرة.
قال وقتها الشاه الإيراني للوزير أحمد العراقي إن القمة إذا كانت سوف تعقد في السعودية فإنه لن يحضر، أما إذا كان الملك الحسن الثاني مستعدا لعقدها في الرباط فإنه سيحضرها بكل تأكيد.
مباشرة بعدها طار مولاي أحمد العراقي إلى الطائف بالسعودية للقاء الملك فيصل، فكان رد الأخير إنه يقدر مجهود الملك الحسن الثاني وأنه سوف يحضر القمة إذا تم عقدها في الرباط. وكان المشكل وقتها يكمن في إشكالية دعوة الهند إلى القمة، حيث إن عدد المسلمين بها وقتها يتجاوز 130 مليون نسمة في نهاية الستينيات.
تزامن كل هذا مع كواليس إعلان المغرب اعترافه بموريتانيا دولة مستقلة، وفي أقل من أسبوع على كل تلك اللقاءات.
وبينما كان أحمد العراقي غارقا في هذا الماراثون، كان الملك الحسن الثاني قد وجهه أياما بعد القمة إلى نيويورك لكي يشارك باسم المغرب في أشغال جمع الأمم المتحدة.
وبينما كان أحمد العراقي في نيويورك كان الملك الحسن الثاني يفكر في تعيينه وزيرا أول. المشكل أن أحمد العراقي توجه مباشرة من نيويورك إلى جزيرة لقضاء يومين يلتقط فيهما أنفاسه من كل تلك السفريات والمفاوضات واللقاءات الدبلوماسية والندوات الصحافية..
جزيرة «بيرموديس» كانت هي المكان الذي اختاره أحمد العراقي رفقة زوجته لكي يرتاح، قبل أن يفاجأ وهو يلج غرفته في الفندق بأن أحمد الطيبي بنهيمة طلبه مرتين. وفور اتصاله به أخبره بأن إدريس السلاوي يريد التحدث معه.
وكانت المفاجأة، ففور اتصال أحمد العراقي بإدريس السلاوي، أخبره الأخير بأنه يتعين عليه الدخول فورا إلى المغرب، وأن الملك يريد التحدث معه. يقول أحمد العراقي في حوار صحافي سابق، إن الملك الحسن الثاني سأله عبر الهاتف عن موعد عودته فأخبره بأنه لم يلق بعد الكلمة الرسمية باسم المغرب في جلسة جمع الأمم المتحدة، يوم الأربعاء وأنه يتعين عليه لقاء وزراء من هولندا ومن آسيا، ثم يخلد إلى الراحة كما أمره الملك قبل مغادرة المغرب صوب نيويورك. وهنا كان جواب الملك من الطرف الآخر للسماعة: «عليك أن تعود قبل نهاية الأسبوع، فقد قررت أن أعينك وزيرا أول». ولم يكن عمر أحمد العراقي وقتها يتجاوز 38 سنة بالضبط.
هذا جزء من حياة مولاي أحمد العراقي، الطبيب والوزير الذي كتب للملك مشاكل المغرب كلها في ورقة بخط اليد، وعاد إلى بيته.

سرقته الوزارة من الطب..
في محيط الملك الحسن الثاني لم يكن هناك مجرد «مولاي أحمد» واحد، بل كان هناك رجال آخرون حملوا الاسم نفسه، ولم يكن العراقي يتصور أن يصبح أحدهم ويزاحم يوما مولاي أحمد العلوي وآخرين من أبناء عمومة الملك الحسن الثاني. حتى أن طرائف لا تزال عالقة في أذهان رفاق الملك الراحل السابقين. في المرات التي نادى فيها الملك الحسن الثاني في جلساته واجتماعاته الخاصة على «مولاي أحمد» كان يقفز أمامه مولاي أحمد العراقي، ومولاي أحمد العلوي وزير الأنباء السابق ومرافق الملك الحسن الثاني طيلة حياته من مرحلة الشباب إلى أن فرّقهما الموت.
نشأ مولاي أحمد العراقي في أسرة تتنفس أجواء الاحتقان السياسي لمغرب الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. تجاذبه هوى مناصرة حزب الاستقلال، الركن الأساسي لدى كل العائلات الوطنية. وهكذا مال إلى حزب الاستقلال منذ سنوات وعيه الوطني. أخذته الدراسة بعيدا عن الوطن، وبالضبط إلى باريس حيث عاش أجواء طلبة دار المغرب الذين كان من بينهم وزراء رافقوه في فترة المهام السياسية والدبلوماسية، وكان يعرف خلفياتهم جيدا. درس الطب وعاد إلى المغرب محملا بكثير من الطموح، لم تكن تشوبه أي رغبة سياسية. صحيح أنه بقي استقلالي الاتجاه، إلا أنه لم يكن يتصور نفسه سنة 1957، رجلا سياسيا، وفضّل ارتداء السماعة والوزرة على ربطة العنق والبذلة السوداء. افتتح مولاي أحمد العراقي عيادته في الدار البيضاء، وسرعان ما استطاع الوزير الاستقلالي أحمد بلافريج، الذي كان وزيرا للخارجية ثم وزيرا أول لحكومة نهاية الخمسينيات على عهد الملك الراحل محمد الخامس، أن يقنعه بتوديع العيادة ودخول غمار العمل السياسي من بوابة وزارة الخارجية.
لا استغراب، فقد كان هذا التكتيك معروفا لدى أحمد بلافريج، إذ كان وراء استقطاب شباب عاد لتوه من فرنسا لكي يدمجهم في وزارة الخارجية، ثم في الحكومة عندما كان وزيرا أول سنة 1958.
دخل أحمد العراقي غمار وزارة الخارجية، بموافقة مسبقة من الملك محمد الخامس، ثم ولي العهد الأمير مولاي الحسن، واللذين كانا للإشارة يثقان في أحمد بلافريج حتى قبل استوزاره، وشهد له الكثيرون بأنه كان ممثل تيار القصر في تجاذبات حزب الاستقلال ومحاولات نسف التجارب الحكومية السابقة مع امبارك البكاي، حيث كان يحاول تهدئة الأمور بين القصر وقيادة الحزب.
ورغم أن أحمد العراقي كان بعيدا عن قلب ذلك الصراع، إلا أن دخوله إلى وزارة الخارجية استمر حتى بعد رحيل أحمد بلافريج عنها، وامتد إلى عهد الطيبي بنهيمة، حيث كان أحمد العراقي يرافق الملك الراحل الحسن الثاني في عدد من السفريات، إلى دول عربية وإلى فرنسا، وعندما طار معه إلى أمريكا سنة 1967، كان على موعد مع الاستوزار بطريقة لم تخطر لأحد على البال.

التعيين بوزارة الخارجية كان فوق عشب ملعب إقامة الملك
هذه الواقعة أكدها مولاي أحمد العراقي بنفسه سنة 2008، في حوار صحافي له بعد سنوات على مغادرته الحياة السياسية.
حكى مولاي أحمد العراقي أنه كان في مهمة خارج المغرب في فبراير سنة 1967، وبالضبط إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث رافق الملك الحسن الثاني إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي ليندن جونسون، باعتباره أحد وجوه الخارجية المغربية البارزين. كان وقتها وزير الخارجية هو أحمد الطيبي بنهيمة. ولم يكن مولاي أحمد العراقي يُدرك أنه كان يمر بامتحان كفاءة سري تحت أنظار الملك الراحل شخصيا.
مباشرة بعد انتهاء المهمة الدبلوماسية في الولايات المتحدة، عاد أحمد العراقي إلى باريس. وبينما هو هناك جاءه اتصال هاتفي من القصر الملكي يطلب منه الدخول فورا إلى المغرب.
دارت تخمينات كثيرة في رأسه، أبرزها أنه من الممكن أن يكون قد أقدم على تصرف لم يعجب الملك الراحل خلال الزيارة إلى أمريكا أو أن تطورا ما قد وقع.
بصعوبة وجد أحمد العراقي طائرة مباشرة إلى الدار البيضاء، وبمجرد ما نزل من الطائرة، وجد في انتظاره موظفا طلب منه مرافقته، فازدادت الشكوك حول طبيعة استدعائه بهذه الصورة العاجلة إلى القصر الملكي، دون حتى أن يتصل به وزير الخارجية لتوضيح الأمر.
طوال الطريق بين الدار البيضاء والرباط، في برد فبراير وغيمه، لم تزدد الهواجس إلا حدة. ولم تتوقف إلا وهو ينزل من السيارة في اتجاه المكان الذي كان يقف فيه الملك الراحل الحسن الثاني: ملعب الهوكي المجاور للإقامة الملكية.
كانت ابتسامة الملك الحسن الثاني في وجه الشاب أحمد العراقي، الذي كان عمره وقتها 36 سنة فقط، جوابا أوليا بدد كل المخاوف التي طار بها أحمد العراقي من باريس، وتصارعت في دماغه طول الطريق بين البيضاء والرباط.
وقبل حتى أن يبدأ الملك الحديث مع أحمد العراقي، توجه بالكلام إلى مرافقيه فوق العشب، وهم المستشار أحمد رضا اكديرة وإدريس السلاوي والمحمدي الذي كان وزيرا للداخلية في الخمسينيات، قائلا: «أقدم لكم وزير الخارجية الجديد». وكانت الدهشة سيدة الموقف.
كانت تلك رسالة تؤكد أن مرافقي الملك لم يكن لهم بدورهم علم بالقرار، ولا شك أنه احتفظ به من رحلة واشنطن ليفاجئ الجميع به.

الطبيب والجنرالات
الرباط سنة 1958. كان أحمد العراقي قد ترك عيادته في الدار البيضاء. وبدل استقبال المرضى، أصبح يستقبل المصابين بلوثة السياسة والمناصب. بحكم عمله داخل وزارة الخارجية على عهد الوزير الاستقلالي أحمد بلافريج، كان يتعين على مولاي أحمد العراقي أن يستقبل بعض برلمانيي حزب الاستقلال الذين كانوا يأتون إلى الرباط لحضور اللقاءات الحزبية حتى يسهل لقاءهم بأحمد بلافريج الذي انتقل سريعا من وزارة الخارجية إلى الوزارة الأولى.
الكل كان يريد لقاء الوزير الأول، بينما كان مولاي أحمد العراقي من الثقاة القلائل الذين كان يعهد إليهم بملفاته، بل إنه وحسب مصادر كثيرة، كان يثق في مولاي أحمد العراقي أكثر مما كان يثق في موظفي ديوانه أنفسهم.
كان الاثنان يلتقيان مباشرة بعد خروج بلافريج من قصر الملك الراحل محمد الخامس. وكان معروفا أن الملك الراحل خلال فترة حكومة بلافريج أو قبلها في عهد امبارك البكاي، كان يتوجه دون موعد إلى منزل بلافريج ليسمع منه، بحكم الثقة الكبيرة التي كان يضعها في شخصه، مجريات الصراع داخل حزب الاستقلال وتجاذب تياريه، المحافظ واليساري، لموقف واضح من الحكومة.
وهكذا كان الطبيب الذي انتقل للعمل في وزارة الخارجية، مضطرا إلى مسايرة كل هؤلاء السياسيين، والعسكريين أيضا.
تعرف على الجنرال أوفقير ذات مساء رباطي هادئ، وعاش معه تجربة الاحتجاز داخل قصر الصخيرات خلال انقلاب يوليوز 1971، وكان أحمد العراقي وقتها يعيش على إيقاع تمزق حكومي على إثر متابعة أربعة وزراء من حكومته بتهمة الفساد والاختلاس وابتزاز مستثمرين أجانب.
كان بعض الذين سقطوا في الانقلاب، أمثال الجنرال الغرباوي والبوهالي والكولونيل بوالحميص، وآخرين غيرهم، قد جمعته بهم جلسات سابقة في منزل أحمد بلافريج، وأيضا في لقاءات أصدقاء الملك الحسن الثاني في الرباط وأحيانا خارجها لممارسة هواية الصيد.
لكن بحكم أنه كان وزيرا للخارجية منذ 1967 ووزيرا أول منذ 1969 إلى صيف 1971، فإن علاقته بالجنرالات ازدادت بحكم أن الجيش كان متغلغلا في الحياة السياسية. فالكولونيل المذبوح كان في الستينيات برتبة عامل، ثم عمل في ديوان الملك الحسن الثاني ليصبح الرجل الثاني في الدولة وتعين على أحمد العراقي الاحتكاك به نسبيا. وتكرر نفس الأمر مع الجنرال أوفقير الذي كان وزيرا للداخلية مع بداية السبعينيات، في نفس الفترة التي كان هو فيها وزيرا أول. وهكذا كُتب على العراقي أن يعيش قريبا من العسكر، حتى أن تجربته في الوزارة الأولى انتهت بعد أن فجر الكولونيل المذبوح قضية الوزراء المرتشين في حكومة أحمد العراقي، ثم جاء انقلاب الصخيرات لتنتهي التجربة القصيرة في الوزارة الأولى.

وزير أول يقترح على الحسن الثاني من يخلفه في المنصب
مرفوقا بإدريس السلاوي، دلفا القصر الملكي في انتظار أن يلتقيا الملك الراحل أسابيع بعد انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971، وانتهاء إجراء اللقاءات الصحافية مع القنوات الأجنبية التي تهافتت على نقل قصة الانقلاب واللحظات العصيبة.
كان وضع أحمد العراقي صعبا للغاية. صعوبات حكومية كثيرة أبرزها قضية الوزراء المرتشين الذين ملأت صورهم الأخبار وشغلت المغاربة في المقاهي والمنازل وتداولوا في أمرها همسا، ثم واقعة انقلاب الصخيرات التي قادها الكولونيل المذبوح وأعدم على خلفيتها عسكريون كان يعرفهم جيدا، بل كان منهم من يجامله.
انضاف إلى كل هذا محاكمة مراكش الشهيرة التي انطلقت في نفس الفترة، والتي اعتبرتها الصحافة الدولية تراجعا حقوقيا كبيرا في المغرب بحكم أنها كانت محاكمة للمعارضة، وتقليصا لحضورها في الساحة السياسية.
وسط كل هذه الأجواء كان أحمد العراقي يقود الحكومة في موسم جفاف وصعوبات اقتصادية كبرى.
كان انقلاب الصخيرات انفجارا للأوضاع، وكان الملك الحسن الثاني بمجرد ما أمسك بزمام الأمور من جديد، سارع إلى الإعلان عن مجموعة من التعديلات. كان موضوع محاكمة مراكش قد طوي تقريبا، بعد صدور الأحكام.
وبينما كان الجنرال أوفقير يُعد للمحاولة الثانية التي سوف تقع في غشت 1972 مستهدفة الطائرة الملكية، كان أحمد العراقي بعيدا عن الأضواء، في عطلة امتدت لسنة استراح فيها من ضغط الوزارة الأولى.
في يوم 20 يوليوز 1971، اجتمع أحمد العراقي بالملك الراحل الحسن الثاني في القصر الملكي بالرباط. كانت مخلفات انقلاب الصخيرات لا تزال طرية، وبالكاد دفن الموتى الذين كان من بينهم أصدقاء مقربون من الملك بين عسكريين ومدنيين، بالإضافة إلى أصدقائه الأجانب، وبالعشرات.
تداول أحمد العراقي، كما حكى بنفسه في حوارات صحافية سابقة بعد اعتزاله الحياة السياسية، مع الملك الحسن الثاني مسألة تعيين حكومة أخرى جديدة تناسب التطورات التي عرفتها البلاد. كان اقتراح إدريس السلاوي وأحمد العراقي أن يتم تعيين حكومة على رأسها رجل أعمال يفهم في الاقتصاد لإخراج البلاد من الضائقة الاقتصادية الكبيرة التي زادها جفاف الموسم الفلاحي تأزما.
وكانت تلك المرة الأولى التي يقترح فيها وزير أول أن يتم استبداله بآخر غيره. حتى أن الملك الحسن الثاني لم يوافق على خمسة أسماء اقترحت عليه لشغل منصب وزير الاقتصاد. كان الأمر في غاية التعقيد.
ثم وقع الاختيار على كريم العمراني الذي قاد التجربة الحكومية. قال أحمد العراقي معلقا على تلك الأجواء العصيبة إن عددا كبيرا من المسؤولين المغاربة كانوا يفضلون الاختباء خلف الملك، وأن الكثيرين من المحيطين به كانوا يفضلون الكذب عليه على أن يصارحوه بالحقيقة.
كان اقتراح اسم من عالم الاقتصاد والمال ليقود الحكومة مقترحا جريئا، خصوصا وأن أحمد العراقي وضع فوق مكتب الملك الحسن الثاني رسالة كتبها بخط يده أسبوعا واحدا فقط بعد انقلاب الصخيرات.

قصة الورقة التي كتبها أحمد العراقي للحسن الثاني أسبوعا بعد انقلاب الصخيرات:
سأله الملك بعد قراءتها.. هل رآها أحد غيرك؟
محاولة فاشلة للانقلاب على الملك الحسن الثاني يوم 10 يوليوز 1971. عاش أحمد العراقي تلك اللحظات العصيبة داخل قصر الصخيرات يوم عيد ميلاد الملك.
ومباشرة بعد لملمة بقايا المجزرة واعتقال عناصر الجيش المشاركة في الانقلاب وتحديد لوائح الضحايا وتشييع جثامينهم، قام مولاي أحمد العراقي بخطوة اعتبرها المحيطون بالملك جريئة للغاية.
أسبوعا واحدا فقط بعد انقلاب الصخيرات، أخرج مولاي أحمد العراقي ورقة من ملفه ووضعها بين يدي الملك الحسن الثاني. وقبل أن يسأله الملك عن فحوى الرسالة أخبره الوزير الأول أن الأمر يتعلق بتقرير مفصل عن الوضعية المغربية.
على طريقة الرسالة التي كتبها المولى عبد الحفيظ سنة 1910 وقال فيها إن «داء العطب قديم»، قام مولاي أحمد العراقي، الطبيب والوزير، بتشريح دقيق للوضعية السياسية والاقتصادية في المغرب، وكتبها بخط يده، أي أنها لم تكن رسمية. وقدمها للملك لكي يقرأ نقاطها التي تجاوزت عشر نقاط أساسية مفصلة اعتبرها مشاكل عويصة تعيق تقدم المغرب. وختمها بعبارة «خادمكم المخلص». ووقع الرسالة يوم 20 يوليوز 1971.
خرج مولاي أحمد العراقي من القصر الملكي تتجاذبه الحيرة. هل يمكن أن يرد الملك الراحل على تلك الرسالة؟ أم أنه سيتعين عليه القيام بخطوة غير منتظرة في تلك الأيام العصيبة.
بعد أسبوعين تقريبا على الرسالة، التقى الملك الحسن الثاني بوزيره الأول، وسأله قبل أن يبت في أي موضوع: هل رأى أحد آخر غيري هذه الرسالة؟
فأجاب مولاي أحمد العراقي بالنفي مؤكدا للملك الحسن الثاني ألا أحد يعلم بأمرها سواه. وأنهى الملك الموضوع.
بعض النقاط التي تضمنتها رسالة أحمد العراقي تتعلق بضرورة فصل النافذين عن عالم المال، وفي ذلك إشارة إلى مشكل الثراء الذي وصل إليه عدد من المسؤولين المغاربة وقتها، خصوصا وأنه عاش عن قرب من موقعه في الوزارة الأولى قضية محاكمة وزراء بتهمة الارتشاء.
ومن بين النقط التي عرضها أحمد العراقي على الملك مسألة ضرورة إلزام الأحزاب السياسية بالقيام بدورها ومسؤوليتها تجاه المواطنين. كما أنه أثار مسألة وجود عدد من الانتهازيين الذين يحاولون جاهدين الوصول إلى السلطة، وكانت تلك مكاشفة صريحة جدا بين الوزير الأول والملك.
وقد سبق لمولاي أحمد العراقي أن تحدث عن الموضوع في حوار صحافي سابق مع «لاكازيت». وأعلن بنفسه عن مضمون الرسالة الخطية التي قدمها للملك، ذاكرا أنه سأله بعد قراءتها ما إن كان يتوفر على نسخة منها، فأجابه بالنفي مؤكدا أنه لم يصورها ولم يطلع أحدا عليها نهائيا.
ثم جاءت حكومة كريم العمراني، وغادر أحمد العراقي الحياة السياسية وفضل قضاء قرابة السنة في باريس، حتى يستريح من أعباء حكومة 1971. لكن الملك الراحل سرعان ما أعاده إلى غمار السياسة من جديد وكلفه بمهام دبلوماسية خصوصا في ما يتعلق بتمثيل المغرب لدى الأمم المتحدة، إذ أن قضية الصحراء المغربية في منتصف السبعينيات كانت هي الشغل الشاغل للملك الراحل الحسن الثاني.
في استراحته القصيرة، سمح الملك الحسن الثاني للعراقي بمزاولة تخصصه في الطب، وتداول معه أمر عودته إلى تخصصه الأصلي، لكنه فوجئ بالمشاكل التي كان يتخبط فيها القطاع في ذلك الوقت ولم يتردد في إخبار الملك بأوضاع قطاع الصحة كما عاينها.
بعد مغادرته الحياة السياسية نهائيا، انتقل مولاي أحمد العراقي لفترة إلى باريس، حيث اشتغل مستشارا لعدد من الشركات مستثمرا علاقات متينة راكمها في سنوات اشتغاله وزيرا للخارجية مع شخصيات كبرى من عالم السياسة والاقتصاد في فرنسا وفي الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى