
يسرا طارق
عرفت الأجيال السابقة مفهوم القدوة، والقدوة (رجلا أو امرأة)، يتميز بخصال رفيعة في مجال من المجالات، إنه النموذج الذي يريد الجميع تقليده. كان لكل جماعة أو حي، أو قرية أو مدينة، أو إدارة أو شعب، قدوة أو قدوات يستلهمون منهم تصورهم للحياة ولرسالتهم فيها. ومن أجل إبراز وتخليد القدوة، فكر البشر في التماثيل والنصب التذكارية، فحتى لو مات القدوة ينبغي أن نحافظ على ما يذكرنا به. لا يكون القدوة، رجلا أو امرأة، مهما في حياة الناس دوما، قائد أو قائدة دولة، أو جنرال أو زعيم وطني، أو مخترع أو مخترعة كبيرين، مثلا، قد يكون القدوة، أيضا، رجلا أو امرأة بسيطا، تمكن في بساطته من أن يجترح سلوكا يثير إعجاب الناس، حتى أنهم يعتبرونه نموذجيا، ويستحق أن يحتذى. علينا أن نتذكر، هنا، ما قام به ذلك المواطن البسيط الذي جاء في جنح الظلام راكبا دراجته الهوائية، ليهب دقيقا، استعمل بعضه مساهمة منه في التخفيف من آثار زلزال الحوز. هناك بطولات صغيرة ينجزها بسطاء الناس ولا ينتبه إليها أحد، وحين ينتبهون لبعضها يحولون فاعلها إلى قدوة..
كيف يصير الواحد قدوة؟ وكيف يؤثر في الناس؟ ولماذا تثق الجموع في شخص ما، ويمكنها أن تؤمن به وتتبعه؟
إنها الكاريزما، ذلك المزيج من الجاذبية، والثقة في النفس والصفات الحميدة، والقدرة على التأثير في الناس وقيادتهم لتحقيق منجزات رفيعة. الكاريزما، باليونانية، تعني «الهبة» أو «المباركة من طرف الآلهة». هناك من يتمتعون فعلا بصفات الكاريزما، وهناك من يتصنعونها ويوهمون الناس بامتلاكها. وقد شهد التاريخ وجود شخصيات كاريزماتية غيرت مجراه وبصمته بطابعها، ولازالت تلهم، وحتى الآن، البشرية، وشهد أيضا وجود شخصيات حاولت التحايل على الناس، وادعت صفات لا تملكها حقيقة وأحاطت نفسها بمتواطئين كانوا يساعدونها في النصب على الناس. التاريخ مليء بالشخصيات العظيمة ومليء أيضا بالمدعين، وربما نحن نعيش الآن آخر عهد بشري للكاريزما.
بعد الآن، ومع الذكاء الاصطناعي، ومع سطوة التفاهة، والصعود المهول للمؤثرين التافهين ولآليات هندسة الآراء والمواقف الجماعية، لن يعود بالإمكان التأثير في الناس بالوسائل التقليدية، لم تعد القدرة المذهلة على الخطابة مهمة، لم تعد صفات الفرد الحميدة مهمة، لم تعد إنجازات الفرد في خدمة الصالح العام مهمة، لم تعد فضائل التضحية ونكران الذات مهمة، لقد انفتحت بوابة كبيرة يخرج منها بشر جديد، برغبات وأفكار ورؤى جديدة.
إنه إنسان الاستهلاك الذي يرى في كل شيء سلعة تباع وتشترى، وفي كل موقف أصلا تجاريا، إنه إنسان الضحالة القصوى الذي يمكنه أن يكون معك اليوم وينقلب عليك غدا، إنسان لا يبحث عن التماسك والانسجام، ولا يعتقد بأن له رسالة في هذه الحياة، وإنما منفعة عليه تحصيلها. بضياع الكاريزما سيضيع تاريخ أعطى الأنبياء والزعماء والملهمين والمنظرين.





