شوف تشوف

الرأي

هارفي كوشينج جراح الأعصاب

بقلم: خالص جلبي

تعرفنا على هذا الاسمCushing» » في كلية الطب من خلال «تناذر Syndrome»، أو متلازمة اشتهرت عن مرض يضرب بعض الناس باعتلال هورموني منشؤه الفص الأمامي من الغدة النخامية فينتفخ بدانة، ويتشقق الجلد، ويستدير البدر مثل القمر ليل التمام ليس بالحسن، بل بالمرض، ويرتفع الضغط الدموي فيقارب سحب الغمام ليس رفعة، بل خطرا يهدد الحياة ويفجر شرايين الرأس مع الشلل والخرس. ولم أكن أعرف مصدر المرض ومن سماه ومن هو (كوشينج) هذا، حتى اجتمعت بكتاب ألماني رائع عن تاريخ الطب من سلسلة «كرونيك Chronic» وهي سلسة من كتب رائعات في تاريخ «المرأة» و«المسيحية» و«الأرض» و«الطب» و«تاريخ البشرية» و«القرن التاسع عشر والعشرين». وتمنيت أن تترجم هذه الأعمال بما اتسمت به من الدقة الألمانية المعهودة، وأن يوضع كتاب يشبه هذا عن تاريخ الإسلام. وما وقع تحت يدي من قريب ما كتبته السيدة (لاورا هوفلينجر) في مجلة «المرآة الألمانية» (Laura Hoeflinger – Der Spiegel 14\2011 P\ 116) ، عرفني بالرجل الذي يحمل اسم التناذر، بل معلومات جديدة عنه غير متوفرة في كتاب «كرونيك»، وهو كتاب هذا الجراح نفسه عن نفسه بعنوان بين «الخطأ والملامة»، أو بين العجز والمعاتبة والمحاسبة.
هارفي كوشينج Harvey Cushing رائد في الجراحة العصبية عاش في القرن التاسع عشر، ومات في العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية (1869- 1939م) عن سبعين عاما، عامرات بالإنتاج الفني والإنجاز الطبي.
أغرب ما في الرجل هو كتاباته في خمسة آلاف صفحة لتاريخه الطبي خلال 16 عاما من الممارسة (1896 ـ 1912م) والأخطاء التي وقعت منه، أثناء ممارسة المهنة، وهي أرفع أنواع النقد لأنه نقد الذات.
ويعكف حاليا فريق علمي على دراسة ثلاثين حالة من هذه الورطات الطبية، من كنزه النفيس في ذلك الوقت المبتدئ من التاريخ الطبي.
يروي في قصصه العجيبة أخبارا لا تصدق، لو كتبها طبيب وجراح في عصرنا لغامر بسمعته الطبية ورسا مصيره أمام المحاكم القضائية، وأفلست عيادته في اليوم التالي، ولكن لا تنجو يوم القيامة إلا النفس اللوامة.
يقول إنه فتح يوما رأس مريض في الجهة الخطأ، ثم يستدرك فيشتم نفسه ويصف نفسه بالغبي والأحمق المأفون وغير الحذر، في المذكرات نفسها.
وفي يوم دخل على جمجمة مريض بعمر 23 عاما فنزف المريض، فحشا المكان بالشمع على عادة جراحي الأعصاب ليكتشف نفاد المادة، فيرسل من يهرع إلى المدينة يسعى إلى إحضار الشمع والمريض ينزف، فيصل الشمع والمريض قد فارق الحياة! وفي يوم دخل على جمجمة طفل في الخامسة من العمر فنزف، ولم يجد طريقا لإيقاف النزف، فمات الطفل بين يديه على طاولة العمليات. وكان هذا المصير ذاته لزوجة اللبناني الأمريكي دبغي، جراح الأوعية، الذي لديه ثقة فائقة بنفسه فأرسلها إلى المقبرة… رواها في مقابلة تلفزيونية ولم يهتز له جفن.
سبب الوفيات في أيامهم كان نتيجة غياب المضادات الحيوية والتعقيم وممارسة الجراحين العمليات بأيديهم بدون قفازات وكمامات، وكان التخدير بالإيثر في بدء العملية فقط؛ مما كان يقود إلى موت كل واحد من اثنين من المرضى، ليتحسن بعدها إلى واحد من كل ثمانية.
لقد كانوا روادا رائعين يشقون الطريق إلى الطب الحديث، فليس من تَقَدُم بدون مضاعفات وتطوير وتدريب، والويل لأمة لا تنتبه إلى هذه الآليات في التطوير. وأعترف أنا شخصيا في سبعينات القرن الفائت، وكان ذلك في بدء عملي بعد التخرج في مدينة البوكمال على نهر الفرات، حين جاءني رضيع مصاب بالإسهال، فأردنا حقنه بالسوائل ولم يكن ثمة سوى عروق القحف، فغرزنا في الشريان بدل الوريد، فزاد الطين بلة. لم يمت الطفل ولكن حالته تردت أكثر. وهي قصص يجب أن أكتبها عن رحلتي الطبية، حتى يستفيد الأطباء المبتدئون إن كانوا يقرؤون.
بدأ هذا الألمعي دراسة الطب بعمر 17 سنة، فلفت الانتباه إلى شذوذه وتميزه، وكان من اكتشف أثر الكورتيزول في الجسم ووصل إلى تلافيف الدماغ؛ فعرف مرض البدانة من الاضطراب الهورموني المتسبب من النخامة، وهي غدة تزن نصف غرام فيها ثلاثة فصوص وتفرز عشرة هورمونات. وسجل المرض باسمه تناذر كوشينج.
كتب الرجل مذكراته بدقة فائقة وصراحة صادمة بدون مواربة، وطلب من تلامذته هذه الأخلاقيات الصارمة؛ فالجراحة ليست سكينا ومقصص بل سلوكا وأخلاقا بعد المعلومات. أما ولعه المعرفي فقد وصل إلى حواف الجنون؛ فقد مات يوما عملاق من مرض تضخم النهايات «Acromegaly»، بسبب ورم الغدة النخامية، فطلب من الأهل فتح الجثة ومعرفة السبب «Autopsy» فرفض الأهل، فما كان منه إلا أن أرسل أحد طلبته ليسرق الغدد من جثة الميت، وفعل الطالب تلك المهمة فأعطى رشوة لمن قام بالدفن، وفتح التابوت على عجل وقطع بعض الغدد الداخلية وليس كلها؛ فطرده كوشينج من العمل، لأنه فاشل لم ينجح في المهمة!
لقد اجتمعت في المغرب برجل تهدل بطنه وانتفخ وانفتق، وأثر عليه من عملية زائدة دودية بسيطة سخيفة وثلاث عمليات لاحقات بدون فائدة، بعد نسيان الشاش في الحشا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى