
تتصاعد التوترات في منطقة البحر الكاريبي، بوتيرة تنذر بأزمة دولية جديدة، بعدما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تنفيذ ضربة عسكرية استهدفت قارباً يُشتبه في تورطه بتهريب المخدرات قرب السواحل الفنزويلية. لكن خلف هذا الحدث العسكري الظاهر تتشكل ملامح مواجهة أوسع بين واشنطن وكاراكاس، في وقتٍ يزداد الحشد الأمريكي العسكري قرب فنزويلا، وتتعالى، في المقابل، نبرة التحدي لدى الرئيس نيكولاس مادورو. وبين الخطاب الناري والتعبئة الإعلامية والمناورات العسكرية، يبدو أن شبح المواجهة المباشرة بات أقرب من أي وقت مضى، فيما يحذر خبراء من أن أي خطأ في الحسابات قد يشعل شرارة حربٍ جديدة في نصف الكرة الغربي.
إعداد: سهيلة التاور
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تنفيذ الجيش الأمريكي، يوم الجمعة الماضي، ضربة جديدة قرب فنزويلا في البحر الكاريبي استهدفت قاربًا يُزعم أنّه كان يُستخدم لتهريب المخدرات. وأكدت شبكة «سي بي إس نيوز» أنّ مسؤولًا أمريكيًا تحدث عن وجود ناجين من القارب المستهدف، من دون الكشف عن عددهم أو حالتهم الصحية.
وتعدّ هذه الضربة الأحدث في سلسلة الهجمات الأمريكية في المنطقة، والتي أوقعت حتى الآن ما لا يقلّ عن 27 قتيلًا، والتي تأتي بعد نحو يومين، منذ أن أُعلن الرئيس الأمريكي أنه سمح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالعمل داخل فنزويلا، للحد من التدفقات غير الشرعية للمهاجرين والمخدرات من الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية، وهو ما أثار قلق بعض الخبراء القانونيين والمشرعين الديمقراطيين الذين يتساءلون عما إذا كانت هذه العمليات تتماشى مع قوانين الحرب.
حشد أمريكي متزايد
قالت وكالة رويترز إن هذه الضربات تأتي في ظل حشد عسكري أمريكي متزايد في منطقة الكاريبي، يشمل مدمرات بصواريخ موجهة، ومقاتلات «إف-35»، وغواصة نووية، ونحو 6500 جندي، بالتزامن مع تصعيد الرئيس ترامب للمواجهة مع الحكومة الفنزويلية.
وفي السياق ذاته، كشفت «وول ستريت جورنال» عن أن الولايات المتحدة نشرت أسلحة متطورة في منطقة البحر الكاريبي وفي الأجواء شمال فنزويلا. وأوضحت الصحيفة أن وزارة الحرب نشرت قوات عمليات خاصة من النخبة، بما في ذلك فوج الطيران السري 160. وتشتهر تلك القوات بمشاركتها في الغارة التي قتلت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وتستعين بالطائرات المروحية الكبيرة للنقل والهجوم.
عمليات سرية في فنزويلا
أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الأربعاء الماضي، تقارير تفيد بأنه سمح لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) بإجراء عمليات سرية في فنزويلا، كما نقلت «رويترز».
ويمثِّل قرار ترامب استهداف النظام الفنزويلي تصعيدًا حادًا في الجهود الأمريكية للضغط على نظام الرئيس نيكولاس مادورو.
وقال ترامب إنه سمح بهذا الإجراء لسببين رئيسيين، أولهما زعمه أن فنزويلا تُطلق سراح أعداد كبيرة من السجناء -بمن فيهم أفراد من منشآت الصحة النفسية- إلى الولايات المتحدة، وغالبًا ما يعبرون الحدود في إطار ما وصفه بسياسة الحدود المفتوحة، دون أن يُحدد ترامب الحدود التي كانوا يعبرونها.
وقال إن السبب الثاني هو الكمية الكبيرة من المخدرات التي تدخل الولايات المتحدة من فنزويلا، والتي يتم تهريب الكثير منها عن طريق البحر.
وأضاف ترامب: «أعتقد أن فنزويلا تشعر بالخطر»، لكنه رفض الإجابة عندما سُئل عمَّا إذا كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تملك السلطة أو التفويض لاغتيال مادورو.
فنزويلا تتحرك
أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن بلاده مستعدة للقتال، رغم أن جيشها يعاني من نقص التمويل وسوء التدريب، ولا يُضاهي القوة النارية الأمريكية.
وقال مادورو لحشد من أنصاره، في وقت سابق من هذا الأسبوع: «الشعب مستعد للقتال، مستعد للمعركة».
وأضاف: «فنزويلا لن تُهان. فنزويلا لن ترضخ لأحد. ستواصل فنزويلا مسيرتها نحو السلام والوئام والاستقرار».
وحركت فنزويلا، الخميس الماضي، قواتها إلى مواقعها على ساحل البحر الكاريبي، وحشدت، وفقا لما أكده مادورو، ميليشيا قوامها ملايين الجنود، في استعراض للتحدي ضد أكبر حشد عسكري أمريكي في منطقة البحر الكاريبي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفقا لما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية.
ووفقا لشبكة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية، أعلن مادورو، يوم الاثنين الماضي، نشر 4.5 ملايين من رجال الميليشيات في جميع أنحاء البلاد، مؤكدا أن «أي إمبراطورية لن تلمس أرض فنزويلا المقدسة»، بعدما ضاعفت الولايات المتحدة المكافأة مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله، وزادت عدد القوات المبحرة حول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
وحشدت فنزويلا وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ضد الولايات المتحدة، فعلى التلفزيون والإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي، يُخبر المذيعون الفنزويليون أن الولايات المتحدة دولة نازية جشعة تُريد الاستيلاء على ثروة البلاد النفطية، لكن الجيش الفنزويلي، القوات المسلحة البوليفارية الوطنية، يُتمركز لصد أي غزو.
حرب نفسية
رغم أن الرئيس الفنزويلي رد بتحد معلن، وأمر بإجراء مناورات عسكرية وجال في البلاد محذرا من «غزو أمريكي وشيك»، إلا أن تقارير من داخل الجيش تشير إلى قلق متزايد في صفوف كبار المسؤولين، توضح الصحيفة.
وتضيف الصحيفة أن رجال أعمال وشخصيات أمنية أكدوا أن بعض المقربين من مادورو غيّروا هواتفهم ووسائل تنقلهم بشكل مستمر خشية عمليات استهداف، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن الحكومة عرضت بالفعل تسليم السلطة مؤقتا إلى نائبة الرئيس ديلسي رودريغيز، في محاولة لاحتواء الضغط الأمريكي.
وتكشف التحركات الأخيرة أن واشنطن تشن أيضا «حربا نفسية»، إذ تنتشر صور لقاذفات بي 52 وسفن حربية أمريكية على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي، في ما يراه محللون «استعراض قوة مقصودا» لإثارة الهلع في صفوف النخبة الفنزويلية.
وتقول الصحيفة إن الأولوية الآن هي إجبار كبار المسؤولين في الحكومة الفنزويلية على المغادرة، ويفضل أن يكون ذلك عن طريق الاستقالة أو تسليم السلطة بشكل منظم، ولكن مع تهديد واضح بأن مادورو ومساعديه المقربين إذا تمسكوا بالسلطة، فقد تستخدم الولايات المتحدة القوة العسكرية للقبض عليهم أو قتلهم.
المشهد لا يخلو من تعقيد، فمادورو لا يزال يتمتع بولاء قطاعات من الجيش والميليشيات الموالية، التي يُقدر عدد أفرادها بمليون مقاتل. ويحذر مراقبون من أن أي تحرك أمريكي مباشر قد يدفع البلاد إلى حرب أهلية.
إنهاء إرث تشافيز
بحسب «فايننشال تايمز»، ترى دوائر بحثية أمريكية أن فنزويلا تمثل اختبارا لطموح ترامب في إعادة ترسيم النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي. يقول رايان بيرغ، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: «من الواضح أن العملية تتحول إلى محاولة حقيقية للدفع لانهيار النظام أو تغييره».
وتوضح الصحيفة أن فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطيات نفط في العالم إلى جانب موارد هائلة من الذهب والماس والكولتان، كانت حتى أواخر القرن الماضي حليفا رئيسيا لواشنطن، قبل أن تنتقل إلى محور موسكو وبكين وطهران منذ عهد هوغو تشافيز.
واليوم، تبدو عودة هذا البلد إلى الفلك الأمريكي جزءا من حسابات ترامب الاقتصادية والجيوسياسية، خصوصا في ظل حملته لانتخابات رئاسية يتطلع فيها إلى تحقيق إنجاز خارجي واضح.
وفي الداخل الفنزويلي، تتطلع المعارضة، وعلى رأسها الحائزة على جائزة نوبل للسلام، ماريا كورينا ماتشادو، إلى أن يشكل الضغط الأمريكي فرصة لإسقاط مادورو، الذي تتهمه بسرقة الانتخابات الأخيرة. وتقول مصادر في المعارضة إن ماتشادو «تنتظر لحظة التدخل الحاسم لتتسلم السلطة بدعم من الجيش».
ويحذر مراقبون من أن أي تحرك أمريكي مباشر قد يدفع البلاد إلى حرب أهلية، وأكدوا أنه مع استمرار الحشد العسكري في بحر الكاريبي، يزداد خطر وقوع احتكاك أو حادث قد يشعل مواجهة غير مقصودة، خاصة مع اقتراب موسم الأعاصير.
ثلاثة سيناريوهات
أول سيناريو طرحه المحلل جيف رامزي، الباحث الأول في مركز أتلانتيك كاونسل لأمريكا اللاتينية، في تحليل نشرته مجلة «فورين بوليسي» لكيفية تطور الأزمة، هو قيام تمرد داخلي بقيادة الجيش، أو بقيادة مدنية، أو بتعاون بينهما.
وفي هذا السيناريو، ستوفر واشنطن الدعم اللوجستي والاستخباراتي أو حتى الدعم العسكري المباشر، من خلال قواتها الحالية في البحر الكاريبي، لكنها لن تقود الهجوم.
ولفت الكاتب إلى أن القيادة الأمريكية تفضل البقاء في الكواليس عند تغيير الأنظمة، كما حدث مع قائد المعارضة الفنزويلية خوان غوايدو في 2019، الذي دعمته الولايات المتحدة وعدّته «رئيسا انتقاليا للبلاد»، رغم أنه فشل بعد ذلك في الإطاحة بمادورو.
ولكن الكاتب رامزي يرى أنه من غير المرجح حدوث هذا السيناريو، بسبب انقسام المعارضة وضعفها، بجانب قوة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية للحكومة الفنزويلية.
أما السيناريو الثاني -يتابع الكاتب- فيقتضي استخدام الولايات المتحدة قوة عسكرية مباشرة ساحقة، تشمل ضرب المنشآت العسكرية الفنزويلية بشكل مكثف، مع احتمال تكليف وحدات القوات الخاصة بالقبض على الرئيس مادورو ومحاكمته.
ولكن الكاتب يحذر من المخاطر الكبيرة لهذا الخيار، بما في ذلك التصادم مع دفاعات فنزويلا الجوية القوية، وانزلاق الصراع إلى فوضى واسعة قد تمتد سنوات، نظرا لوجود ميليشيات موالية للحكومة ومخزون كبير من الأسلحة.
ورجح رامزي السيناريو الثالث، وهو أن يعلن ترامب النصر بعد سلسلة الضربات البحرية، ثم يعود إلى القنوات الدبلوماسية لخدمة المصالح الأمريكية في مجالات الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي. وأكد أنه يجب أن تركز أي صفقة على الأزمة السياسية في فنزويلا، والضغط من أجل إطلاق سراح السجناء السياسيين ووضع خارطة طريق لاستعادة المؤسسات الديمقراطية.
ولفت المحلل إلى أن إدارة ترامب قد تعيد تفعيل خطة «الإطار الانتقالي الديمقراطي» التي اقترحتها الإدارة السابقة، التي تنص على تشكيل حكومة انتقالية مشتركة بين المعارضة والحزب الحاكم، مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات وتنفيذ إصلاحات تضمن انتخابات نزيهة.
وخلص إلى أن الخيار الأنسب لإدارة ترامب واستقرار فنزويلا هو الموازنة بين الضغط السياسي والاقتصادي من جهة، وتجنب الحرب المباشرة من جهة أخرى، وقد يمنح ذلك ترامب مكاسب دبلوماسية وشخصية كبيرة، وربما يعزز فرصه لنيل جائزة نوبل للسلام العام المقبل كما يريد.





