
سيرة الفيزيائي الألماني ويليام رونتغن Wilhelm Conrad Röntgen (1923-1848) جديرة بأن تتخذ نموذجا للعالم المخلص والمتفاني، من أجل البحث العلمي. كان ويليام ابنا وحيدا لوالده الذي كان يعمل تاجرا وصانعا للملابس، اضطرته ظروف أعماله التجارية إلى الانتقال إلى هولندا، حيث درس ويليام وأبان عن جدية في الدراسة والسلوك المثالي من انضباط وحسن السيرة، لكن حادثة طرده من المدرسة، بسبب رفضه الكشف عن هوية زميل له في الفصل، كان قد قام برسم صورة مسيئة لأحد المدرسين، حال دون حصوله على شهادة الثانوية (البكالوريا).
لذلك وجد ويليام رونتغن نفسه مرغما على أن يتخذ مسارا دراسيا ملتويا ومعقدا بالالتحاق بالمعهد الفدرالي السويسري بزيورخ، في تخصص الهندسة الميكانيكية، لينتقل بعدها إلى دراسة الفيزياء، وهو المجال المفضل لديه، والحصول أخيرا من جامعة زيورخ على شهادة الدكتوراه اقتضت منه سنوات طوال من الصبر والتحمل، فعمل أستاذا مساعدا في الكثير من التخصصات كالزراعة والهندسة، كان فيها متميزا وحظى باعتراف الكثير من العلماء لأصالة بحوثه وتفردها… قبل أن يُعْتَرَفَ به عالما فيزيائيا وهو في سن متقدمة نسبيا.
أشعة غير مرئية للعين.. تخترق الأجسام الصلبة
كان اهتمام ويليام رونتغن منصبا كأي فيزيائي في ذلك العصر على دراسة شتى أنواع الأشعة، وبالتحديد الخصائص الفيزيائية لأنابيب الأشعة، وهي عبارة عن أنابيب كهربائية يكون ضغط الغاز فيها منخفضا، ومع التركيز الشديد في أبحاثه عن خصائص الغاز والتأثيرات المغناطيسية شرع في تجربة تمرير تيار كهربائي عبر غازات مختلفة.
ومع تكرار تجاربه لاحظ ويليام رونتغن تشكل موجات كهرومغناطيسية تمر عبر مواد مختلفة ومتنوعة وتخلق شحنة كهربائية تخترق هذه الأنابيب، وتبدأ في التوهج وامتلاك نشاط قوي وتستطيع عبور معظم المواد الصلبة، سواء كانت أنسجة بشرية أو غيرها…
في أحد تلك الأيام من سنة 1895 كان بصدد القيام بتجاربه المعتادة اكتشف صدفة أشعة غير مرئية قادرة على اختراق المادة بدرجات متفاوتة، حيث لاحظ من خلال شاشة فوسفورية صورة لعظام يده.
سارع ويليام رونتغن إلى القيام بالتجربة نفسها على يد زوجته، فظهرت له أول صورة في التاريخ للأشعة السينية لعظام يد زوجته وخاتمها الذهبي بشكل واضح، فاستخلص مباشرة أن لهذه الأشعة الجديدة قدرة على اختراق الكتب والحواجز السميكة فكتب يقول: (… من أجل الإيجاز فإنني سوف أستخدم تعبير الأشعة، ولكي أميز هذه الأشعة عن غيرها فسوف أطلق عليها اسم «أشعة إكس»)، ورمز «إكس» كما هو معروف رمز رياضي للدلالة على المجهول في اللاتينية، أو الأشعة السينية باللغة العربية، باعتبار أن رمز المجهول فيها حرف «س». وأضاف: (لم أكن أتوقع ذلك، سرعان ما افترضت أن هذه الانبعاثات هي نوع جديد من الأشعة، غير مرئية للعين، وتستطيع أن تخترق الأجسام الصلبة).
لكن المجهود الكبير الذي قام به ويليام رونتغن كان في محاولة الكشف عن طبيعة هذه الأشعة السينية وتقديم تفسير علمي لها، وهذا اقتضى منه الاعتكاف في معمله لشهور، قبل الخروج إلى العالم بهذا الاكتشاف، وصفت إحدى صديقات زوجة رونتغن تلك الفترة العصيبة والحاسمة بقولها: «لقد قالت السيدة رونتغن بأنها مرت بأيام عصيبة، فقد كان زوجها يأتي إلى العشاء متأخرا، وعادة ما يكون في مزاج عصبي، وكان يأكل قليلا ولا يتحدث أبدا وسرعان ما يغادر المنزل – مرة أخرى- إلى معمله».
لقد كانت تلك اللحظة تاريخية وحاسمة في تقدم العلوم، وخاصة في المجال الطبي، فقد مكنت هذه الأشعة السينية المكتشفة في تطبيقاتها الكثيرة من التصوير الطبي ورؤية ما بداخل الجسم وتشخيص الأمراض والإصابات بالكسور في العظام واختلال في الأعضاء، إضافة إلى الأورام السرطانية دون حاجة إلى التدخل الجراحي.
إثر ذلك، قدم ويليام رونتغن بحثا علميا تحت عنوان «حول نوع جديد من الأشعة»، بعد نشرها بسنة واحدة، بدأ استخدام الأشعة السينية في المجال الطبي لأول مرة في الولايات المتحدة عن طريق الطبيب إدوين برانت فوست، كما تم إنشاء أول قسم للأشعة السينية في مستشفى غلاسكو في بريطانيا.
الأشعة السينية.. لحظة حاسمة في تاريخ العلوم
نظرا إلى أهمية اكتشاف ويليام رونتغن الهائل وإشادة العلماء في أصقاع العالم بإنجازه الفريد، مُنِحَتْ له أول جائزة نوبل تمنح في الفيزياء سنة 1901.
في ذكرى مرور 120 سنة على مولد ويليام رونتغن، كتب البروفيسور الأمريكي ريتشارد جوندرمان عن هذه اللحظة التاريخية: «هي واحدة من أعظم اللحظات في تاريخ العلوم، حيث اكتشفت الأشعة السينية، ذلك الاكتشاف السحري لأستاذ الفيزياء ويليام رونتغن.
كانت الأسابيع الستة التي تلت لحظة الاكتشاف حاسمة، فقد كرس رونتغن كل ساعة من وقته لاكتشاف خصائص الأشعة الجديدة، قبل إعلان اكتشافه أمام العالم. وفي غضون أشهر قليلة كان العلماء في جميع أنحاء العالم ينهمكون على تجربة هذه الأشعة المكتشفة حديثا.
هذا الاكتشاف الثوري الذي سجل واحدة من أعظم قصص العلم في التاريخ»، ويضيف: «بصفتي اختصاصي أشعة ممارس، شعرت بالدهشة، عندما رأيت كيف غيرت الأشعة السينية وجهات نظرنا عن أنفسنا وعالمنا».
في جانب آخر، كان ويليام رونتغن عالما يتحلى بأخلاق سامية ورفيعة، فرفض أن تسمى هذه الأشعة باسمه، وظل يطلق عليها أشعة «إكس» في أبحاثه العلمية ومحاضراته أو الحوارات، كما تبرع بجزء كبير من جائزة نوبل إلى جامعته، ولم يقبل أن يسجل أي ملكية لاختراعه أو اكتشافه، حرصا منه على أن يستفيد العالم بأكمله من تطبيقاته في الكشف عن الأمراض والفحوصات المختلفة لجسم الإنسان، ولم يسع إلى أي لقب علمي أو الشهرة، رغم أنه عند وفاته سنة 1923 كان مفلسا تماما ويعاني من ضائقة مالية شديدة.
نافذة:
كانت تلك اللحظة تاريخية وحاسمة في تقدم العلوم وخاصة في المجال الطبي فقد مكنت هذه الأشعة السينية المكتشفة في تطبيقاتها الكثيرة من التصوير الطبي ورؤية ما بداخل الجسم وتشخيص الأمراض





