حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الراقصة والسياسي

في عام 1990 أطل علينا فيلم «الراقصة والسياسي» ليجسد مفارقة عربية أصيلة، حين يلتقي عالم الليل بعالم السياسة، يصبح الرقص أكثر صدقاً من الخطابات، وتغدو الراقصة – رغم كل الأحكام المسبقة – رمزاً للنزاهة مقارنة برجل السياسة الذي يبيع ضميره في أول مزاد. الفيلم لا يحكي مجرد قصة عن راقصة وسياسي، بل يفتح نافذة ساخرة على الواقع، حيث يلتقي جسد المرأة بصفقات الرجال، وحيث تتحول الكؤوس المليئة بالويسكي إلى صناديق اقتراع بديلة، أكثر تأثيراً من أي عملية انتخابية نزيهة.

الفكرة الجوهرية التي رسّخها الفيلم أن السياسة، في صورتها العربية الفاسدة، ليست سوى ملهى ليلي واسع. في الداخل الأنوار خافتة، الموسيقى صاخبة والوجوه مطلية بابتسامات زائفة. وفي الخارج شعارات رنانة عن الوطنية والإصلاح والديمقراطية.

المفارقة أن راقصة تقضي ليلها على خشبة المسرح قد تكون أكثر صدقاً مع نفسها ومع جمهورها من سياسي يجلس تحت قبة البرلمان ويُقسم على خدمة الشعب بينما جيبه ممتلئ بالرشاوى. هكذا يصبح السؤال: من هو الراقص الحقيقي؟ ومن هو العاهر الحقيقي؟ الجواب واضح: السياسي هو من يهز وسطه في سوق النفوذ، ويتلوى بخفة لينال رضى أصحاب المال، ويخلع بذلته الرسمية كما تخلع الراقصة ثوبها، لكن مقابل امتياز أو صفقة لا مقابل تصفيق.

الفيلم قدّم نموذجاً كلاسيكياً عن استغلال النساء في تصفية الحسابات السياسية. الراقصة في القصة لم تكن مجرد جسد يرقص، بل أداة لتوريط الخصوم وإسقاطهم في فخاخ مدروسة. فالسياسيون لا يكتفون بالمنابر والخطب، بل يحتاجون إلى «مؤثرات خاصة» تضمن لهم إحراجاً علنياً أو فضيحة مدوية تقضي على مستقبل منافس. النساء هنا يتحولن إلى أوراق ضغط، تُستعمل أجسادهن كوثائق رسمية، بل كأدلة دامغة أقوى من أي لجنة تقصي حقائق. السياسة، إذن، لا تستحي من توظيف الليل لتسوية نزاعات النهار. وكأن الشرف السياسي لا يُقاس بما يُنجز للمواطن، بل بمدى براعة الخصم في النجاة من فخ نسائي محبوك.

ومن زاوية أخرى، يطرح الفيلم مقارنة مؤلمة: أخلاق الراقصة قد تبدو أكثر رسوخاً من أخلاق السياسي. الراقصة، مهما بالغت في الإغراء، تؤدي مهنتها بوضوح: ترقص مقابل مال، والجميع يعرف شروط اللعبة. لا غش ولا خداع. أما السياسي فيبيع الوهم في صناديق مغلقة. يَعِدُ بالإصلاح بينما ينهب، يرفع شعارات النزاهة بينما يعقد صفقات مشبوهة، ويصوّت على قوانين تخدم مصالحه الخاصة. هنا تصبح مهنة الرقص أكثر احتراماً، لأنها تقوم على عقد واضح: متعة مقابل أجر. أما السياسة الفاسدة فهي عملية نصب علني: وعود مقابل لا شيء.

السخرية الكبرى التي يكشفها الفيلم أن السياسي في جوهره راقص محترف، لكنه يرقص على أوتار مختلفة. الراقصة تشد أنظار الحضور بخفة جسدها، بينما السياسي يشد أنظار الجماهير بخفة لسانه. كلاهما يتقن فن الاستعراض، لكن الفرق أن استعراض الراقصة بريء نسبياً، لا يضر سوى جيوب الساهرين، بينما استعراض السياسي يضر أمة بأكملها، يسرق خبزها ويهدم مستقبلها. ولو قارنّا بين خشبة المسرح وقاعة البرلمان لوجدنا أن التشابه مذهل: أضواء، جمهور، تصفيق مدفوع الثمن، وأداء يعتمد على الماكياج والحركات المحسوبة. الفرق الوحيد أن الراقصة تعترف بأنها تمثل، أما السياسي فيصر على أنه يقول الحقيقة.

الفيلم لم يكن مجرد قصة ترفيهية، بل مرآة عاكسة لواقع عربي متكرر: حيث لا يكتمل نفوذ السياسي إلا بوجود شبكة من الراقصات والسماسرة ورجال الأعمال. وحيث السلطة تبحث دائماً عن واجهة براقة تُخفي خلفها قبحها. لذلك بدا أن «الراقصة والسياسي» لم يكن مجرد خيال سينمائي، بل وثيقة تاريخية ساخرة تختزل علاقة السياسة بالفساد، وعلاقة الفساد بجسد المرأة. لا غرابة، إذن، أن الكثيرين وجدوا في الفيلم نبوءة عن حاضرنا، حيث لا تزال فضائح السياسيين الجنسية والمالية تملأ العناوين، وكأن السياسة ولدت في ملهى ولم تخرج منه قط.

المفارقة المرة أن المجتمع يحاكم الراقصة أخلاقياً بينما يصفق للسياسي رغم فساده. يراها وصمة عار على الجبين، بينما يراه زعيماً ورجلاً «محترماً». هذا التناقض يعكس عقلية ذكورية تعتبر جسد المرأة خطراً على الأخلاق، لكنها تغفر للرجل أن يبيع وطنه ويبدد ثروات شعبه. الفيلم وضع إصبعه على هذه الازدواجية: فالعار الحقيقي ليس في هز الخصر على إيقاع الطبول، بل في هز الدولة كلها على إيقاع الرشاوى والصفقات السوداء.

«الراقصة والسياسي» ليس مجرد عنوان لفيلم، بل صيغة رياضية للواقع، كل سياسي فاسد هو راقصة، وكل راقصة صادقة في فنها أنظف من ألف سياسي. وما بين خشبة المسرح وقبة البرلمان، يبقى السؤال مطروحاً: متى يدرك الناس أن العهر الحقيقي يرتدي بذلة وربطة عنق، لا فستان سهرة قصيرا ومثيرا؟

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى