
بجرأة كبيرة، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مشروع بحري هائل من منتجعه الفاخر في مارالاغو، في وقت تتزايد المخاوف في واشنطن من التوسع البحري السريع للصين في المحيطين الهادئ والهندي. هذا المشروع، الذي أُطلق عليه اسم «الأسطول الذهبي»، لا يقتصر على التحديث العسكري فحسب، بل يحمل توقيعًا شخصيًا للرئيس، يجمع بين الرمزية السياسية والفكر الاستراتيجي. السفن الجديدة ستُحمل اسمه، وسيشارك ترامب مباشرة في تصميمها، ما يجعل المشروع مزيجًا فريدًا بين القوة العسكرية والطابع الشخصي للرئيس. وبينما يراه البعض خطوة نحو استعادة الهيبة البحرية الأمريكية وتعزيز الردع العالمي، يحذر آخرون من التحديات الكبيرة التي تواجه المشروع، سواء على صعيد التمويل أو التكنولوجيا أو البنية التحتية، ما يجعل نجاحه أو فشله اختبارًا حقيقيًا لقدرة الولايات المتحدة على تحويل الطموح الشخصي إلى واقع عملي.
إعداد: سهيلة التاور
في تحرك لم يشهد له مثيل من قبل، دمج بين السياسة، القوة البحرية والبصمة الشخصية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قرر الأخير الإعلان عن مشروع بحري ضخم من منتجعه الفاخر في مارالاغو بولاية فلوريدا.
هذا الإعلان جاء في وقت يتصاعد التنافس البحري العالمي، سيما في المحيطين الهادئ والهندي، وسط مخاوف متزايدة في واشنطن من التوسع البحري السريع للصين. مشروع «الأسطول الذهبي» لم يكن مجرد تحديث تقني للأسطول الأمريكي، بل حمل رسائل سياسية ورمزية قوية تعكس رؤية ترامب للسلطة والتأثير، حيث يهدف من خلاله إلى إعادة تشكيل مفهوم القوة البحرية الأمريكية بأسلوب غير مسبوق، يجمع بين الطابع الاستراتيجي والطابع الشخصي المميز لرئيس يشتهر بدمج علامته التجارية مع مواقفه السياسية، ما يثير نقاشات واسعة حول مدى واقعية المشروع، كفاءته المالية وجدارته العملية، بالإضافة إلى توقيت إطلاقه في مواجهة المنافسين الدوليين.
مارالاغو بدل البنتاغون
اختيار ترامب لإعلان مشروع بهذا الحجم من منتجعه الشخصي لم يكن مجرد لمسة شخصية أو استعراض ثراء، بل يعكس فلسفة متكاملة في الجمع بين السلطة السياسية والرمزية الشخصية. فبدل أن يتم الإعلان من منصات عسكرية تقليدية في البنتاغون، جاء الحدث في مارالاغو، المكان الذي ارتبط بشكل مباشر بعلامته التجارية واستعراضاته السابقة، ليحول الإعلان إلى حدث إعلامي بامتياز. هذه الخطوة أرسلت رسالة مزدوجة: الأولى هي أن المشروع يحمل توقيع الرئيس نفسه، والثانية أنه امتداد مباشر لرؤيته الخاصة لإعادة الهيبة البحرية الأمريكية، بعيدًا عن الإجراءات الروتينية للمؤسسة العسكرية التقليدية، ما جعل الحدث مزيجًا من السياسة، الإعلام والهندسة العسكرية. بالنسبة لترامب، البحر ليس مجرد مساحة للعمليات العسكرية، بل منصة رمزية وقوة سياسية يمكن من خلالها إيصال رسائل النفوذ والقوة إلى الداخل والخارج، بما يعكس فلسفته في الحكم ودمج الشخصية العامة بالرؤية الاستراتيجية للدولة.
سفن باسم الرئيس
أكثر ما أثار الجدل في مشروع «الأسطول الذهبي» هو قرار إطلاق اسم ترامب على فئة كاملة من السفن الحربية، وهو أمر نادر الحدوث في التاريخ العسكري الأمريكي، حيث اعتادت البحرية على تكريم الشخصيات التاريخية أو المعارك الكبرى بعد مرور سنوات طويلة على الأحداث أو بعد وفاة الشخصيات المهمة. هذا القرار لم يكن مجرد اختيار اسم، بل محاولة لتحويل المؤسسة العسكرية إلى أداة رمزية مرتبطة بالرئيس نفسه، وإضفاء بعد شخصي على قوة وطنية ذات طبيعة عامة. يرى النقاد أن هذا يثير تساؤلات حول حدود التدخل الشخصي في السياسة العسكرية، ويطرح إشكالية دمج الطابع الشخصي في مؤسسات وطنية يجب أن تظل محايدة ومبنية على الاحترافية بعيدًا عن البصمات الفردية، فضلا عن أنه يعكس رغبة ترامب في ترك إرث دائم مرتبط باسمه في واحدة من أكثر مؤسسات القوة الأمريكية حساسية وأهمية، وهي البحرية.
وستحمل أولى السفن، التي ستدخل الخدمة ضمن هذا المشروع الضخم، اسم «يو إس إس ديفاينت»، أي «المتحدي»، وهو اسم يرمز إلى فلسفة ترامب في ربط القوة بالرمزية الشخصية. لكن التحدي الأكبر لم يكن الاسم وحده، بل التكلفة المالية الهائلة المرتبطة بالسفينة، حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن تكلفة السفينة الواحدة قد تبدأ من 5 مليارات دولار، مع توقعات بارتفاعها إلى أكثر من 9 مليارات دولار، في حين قد تصل بعض التقديرات إلى حد 15 مليار دولار بحسب حجم التسليح والتقنيات المتقدمة المدمجة فيها. هذه الأرقام تجعل «ديفاينت» الأغلى في تاريخ البحرية الأمريكية خارج فئة حاملات الطائرات، وهو ما يطرح تساؤلات جادة حول جدوى التمويل والاستدامة المالية لمشروع بهذه الضخامة، خاصة في ظل المشاريع العسكرية الأخرى المتعثرة والتي تجاوزت ميزانياتها أو فشلت في تحقيق أهدافها، مثل حاملات الطائرات من فئة فورد والغواصات من فئة كولومبيا.
وعد بالقوة والهيمنة المطلقة
وفقًا للإعلانات الرسمية، ستُبنى السفن الجديدة ضمن ما أُطلق عليه اسم «فئة ترامب»، والتي ستشكل العمود الفقري للأسطول البحري الأمريكي المستقبلي. ووصف الرئيس هذه السفن بأنها ستتفوق على أي سفينة سطحية أخرى في الحجم والقدرة والسرعة، باستثناء حاملات الطائرات، وأنها ستكون «قفزة تاريخية» في مجال الردع البحري، بما يعكس طموحًا لتوسيع نطاق القوة الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة.
جاء المشروع في وقت تعاني البحرية الأمريكية من تحديات متزايدة، مثل تقادم أسطول كبير من السفن، وتأخر برامج التحديث وظهور تفوق عددي واضح للأساطيل الصينية، ما يجعل المشروع في نظر ترامب ليس مجرد تحديث تقني بل إعادة تعريف للقوة البحرية الأمريكية برؤية استراتيجية متكاملة، تجمع بين التجديد العسكري، التفوق العددي والهيمنة الرمزية على المحيطين الهادئ والهندي.
هذا الإعلان لم يقتصر على التفاصيل الفنية، بل تضمن رؤى ترامب المستقبلية لمفهوم الردع البحري، وكيفية دمج هذه السفن الجديدة في استراتيجيات التحالفات الإقليمية، بما في ذلك ربطها بالوجود الأمريكي في قواعد بحرية استراتيجية حول العالم، وتحويلها إلى عناصر ضغط سياسي على القوى المنافسة، سيما الصين وروسيا، في إطار صراع النفوذ البحري العالمي.
تدخل الرئيس في التصميم
لم يكتف ترامب بالإشراف على المشروع سياسيًا، بل أعلن مشاركته المباشرة في تصميم السفن، معتبرًا أن ذوقه الشخصي سيكون جزءًا من عملية التصميم، وهو ما يمثل حالة نادرة في العلاقات بين السلطة المدنية والمؤسسة العسكرية. أمام النماذج الأولية، أكد الرئيس أن البحرية الأمريكية ستعمل «بالتعاون معه»، وهو ما أثار تساؤلات حول حدود الدور الشخصي للرئيس في المشاريع الاستراتيجية المعقدة، والتي عادة ما تعتمد على فرق هندسية وعسكرية متخصصة ذات خبرة واسعة. هذا التداخل بين القرار السياسي والرؤية الهندسية يظهر الطابع الفريد للمشروع، لكنه يفتح أيضًا باب الانتقادات بشأن مدى إمكانية الجمع بين البعد الرمزي الشخصي والدقة العسكرية المطلوبة لإنجاز مشروع بهذا الحجم والدقة.
وتتضمن خطة التسليح للسفن الجديدة صواريخ فرط صوتية، وصواريخ كروز نووية، ومدافع كهرومغناطيسية وأنظمة ليزر عالية الطاقة، وهو ما يعكس طموحات كبيرة لتحقيق التفوق التكنولوجي والعملي في الساحة البحرية. غير أن معظم هذه التقنيات لا تزال في مرحلة التطوير أو التجريب، وبعضها واجهت إخفاقات كبيرة خلال السنوات الماضية داخل برامج البحرية الأمريكية، مثل المدفع الكهرومغناطيسي الذي أُلغي رسميًا بعد إنفاق مئات الملايين دون نتائج عملية ملموسة، بينما لا تزال أنظمة الليزر في مراحل أولية ولا تُستخدم على نطاق واسع في البيئات العملياتية. هذا يعكس فجوة بين الطموح والرؤية وبين الواقع التقني والعملي الذي قد يحد من فعالية المشروع في حال تطبيقه في أقرب وقت.
الذكاء الاصطناعي وسفن عملاقة بأطقم أقل
وفقًا لتصريحات ترامب، سيتراوح وزن السفن الجديدة بين 30 و40 ألف طن، وهو حجم ضخم قريب من بوارج القرن العشرين، مع عدد طواقم أقل بكثير بفضل الاعتماد المكثف على أنظمة الذكاء الاصطناعي في الإدارة والتشغيل. هذا التوجه يُظهر رغبة في الجمع بين القوة التقليدية للمدرعات البحرية والمرونة التشغيلية التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، بما يقلل الحاجة إلى طواقم كبيرة ويخفض تكاليف التشغيل على المدى الطويل. المرحلة الأولى من المشروع ستشمل بناء سفينتين فقط، تليها ثماني سفن إضافية، على أن يصل العدد النهائي إلى نحو 20-25 سفينة، ضمن رؤية أوسع تشمل تحديث حاملات الطائرات، وهو ما يشير إلى طموح ترامب في إنشاء أسطول متكامل يحاكي الهيمنة الأمريكية التاريخية مع دمج الابتكار التكنولوجي الحديث.
سفن وأدوات سياسية
لم يأتِ إطلاق اسم ترامب على فئة من السفن الحربية بمعزل عن سياق أوسع من السياسة الرمزية التي انتهجها الرئيس في السنوات الأخيرة. هذه الاستراتيجية شملت إعادة تسمية مؤسسات وبنى تحتية أمريكية مهمة، مثل مركز كينيدي للفنون ليصبح «مركز ترامب– كينيدي»، وهو ما أثار انتقادات حتى داخل عائلة كينيدي نفسها، إضافة إلى معهد السلام الأمريكي وطريق قرب مارالاغو يحمل اسم الرئيس. هذه الخطوات تعكس رغبة ترامب في تعزيز البعد الرمزي لحكمه، وتحويل الرمزية إلى أداة سياسية يمكن من خلالها فرض حضور دائم باسمه في المجالين المدني والعسكري. بالنسبة للمراقبين، يمثل مشروع «الأسطول الذهبي» امتدادًا لهذا المنطق، حيث لم تعد السفن مجرد أدوات دفاعية، بل أصبحت منصات رمزية تعكس الهوية والرؤية الشخصية للرئيس، ما يطرح أسئلة حول العلاقة بين السلطة الرمزية والعملية العسكرية، وحدود الدمج بين الاثنين في مشاريع وطنية استراتيجية.
والمفارقة الكبيرة تكمن في أن الإعلان عن «الأسطول الذهبي» جاء في وقت تواجه البحرية الأمريكية تحديات حقيقية على صعيد برامجها العسكرية القائمة. فقد ألغيت، أخيرًا، خطط لبناء سفن أصغر بسبب التأخيرات المستمرة وتجاوز الميزانيات، بينما ما زالت حاملات الطائرات من فئة فورد تواجه مشكلات تقنية كبيرة، والغواصات من فئة كولومبيا لم تدخل الخدمة بعد. وألغيت بعض التقنيات الأساسية، مثل المدفع الكهرومغناطيسي، بعد استنزاف مئات الملايين دون تحقيق نتائج عملية، بينما لا تزال أنظمة الليزر في مراحل تجريبية محدودة. هذه الخلفية تجعل المشروع محل شك حول جدواه، ويثير تساؤلات حول مدى قدرة المؤسسة العسكرية على تنفيذ برنامج بهذا الحجم والابتكار، دون التأثير على برامج أخرى حرجة، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة ترتيب أولويات التمويل والمشاريع داخل البنتاغون.
العودة إلى السفن المدرعة
يشير عدد من الخبراء إلى أن الحديث عن «وريثة بوارج القرن العشرين» يعيد إلى الواجهة مفاهيم كانت قد تراجعت أهميتها بعد الحرب العالمية الثانية، حين حلت حاملات الطائرات والصواريخ بعيدة المدى محل السفن المدرعة الضخمة لتمثل عنصرا أساسيا للسيطرة البحرية. وبالرغم من محاولة دمج الرمزية التاريخية بحجم السفن الكبير مع التقنيات الحديثة، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى ملاءمة هذه الفلسفة لساحة صراع بحرية تغيرت قواعدها بشكل جذري، حيث تميل المعارك الحديثة نحو أساطيل أصغر وأكثر مرونة وتوزيع المخاطر بدلًا من تركيز القوة في منصات ضخمة ومعرضة لهجمات دقيقة. وقدرت بعض الدراسات العسكرية أن اعتماد سفن ضخمة مثل «فئة ترامب» قد يخلق نقاط ضعف استراتيجية إذا لم تترافق مع تقنيات دفاعية متقدمة قادرة على مواجهة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة الحديثة.
مشاريع ضخمة وكلفة باهظة
يصف خبراء عسكريون مشروع «الأسطول الذهبي» بأنه يواجه عقبات لوجستية ضخمة، حيث تعمل أحواض بناء السفن الأمريكية بالفعل عند حدود طاقتها القصوى، والبناء المكثف لسفن بهذا الحجم سيخلق ضغوطًا هائلة على برامج حيوية أخرى، وقد يفرض إعادة فتح أحواض مغلقة أو إنشاء بنى تحتية جديدة بتكلفة إضافية ضخمة. هذه العقبات تجعل المشروع ليس مجرد تحدٍ مالي وتقني، بل تحد إداري ولوجستي يتطلب سنوات من التخطيط والتنسيق بين مختلف مؤسسات الدولة. ويشير المحللون إلى أن أي تأخير أو زيادة في التكلفة قد يضع البرنامج تحت ضغوط سياسية كبيرة، خاصة في ظل رقابة الكونغرس والميزانيات الدفاعية المحدودة نسبيًا مقارنة بالطموحات المعلنة.
وتثير المقارنة بين تكلفة مدمرات «أرلي بيرك»، التي تقدر بنحو ملياري دولار لكل وحدة، وسفن «فئة ترامب» التي قد تتجاوز 15 مليارًا لكل سفينة، مخاوف جدية حول استدامة المشروع على المدى الطويل. ويذكر الخبراء، أيضا، بسجل البرامج السابقة التي فشلت في تحقيق أهدافها، مثل مدمرات «زوموالت» وسفن القتال الساحلية، حيث خرجت بعضها من الخدمة بعد سنوات قليلة، ما يعكس تحديات تنفيذ مشاريع بحرية ضخمة معقدة من الناحية التقنية والمالية والإدارية. هذا الواقع يضع المشروع أمام معضلة حقيقية: بين الطموح الاستراتيجي والتحديات الواقعية التي قد تحول دون تحقيق الأهداف المرجوة.
اختبار حقيقي للقوة الأمريكية
حتى لو دخلت سفن «الأسطول الذهبي» الخدمة، يبقى السؤال الأهم حول فعاليتها في مواجهة الصين، التي تمتلك ترسانة صاروخية باليستية متقدمة مثل DF-26 المصممة لاستهداف حاملات الطائرات، إلى جانب تطوير قدرات متنامية في مجال الطائرات المسيّرة البحرية والغواصات غير المأهولة القادرة على تعطيل السفن الكبيرة. ويرى محللون أن مستقبل المعارك البحرية قد يميل نحو أساطيل أصغر وأكثر عددًا وأقل تكلفة، مع توزيع المخاطر بدل تركيز القوة في منصات ضخمة، وهو ما يتعارض جذريًا مع فلسفة «الأسطول الذهبي». ناهيك عن أن زيادة الاعتماد على تقنيات متقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي وأنظمة الدفاع الذكية، يضيف طبقة جديدة من التعقيد، حيث يعتمد نجاح المشروع على تطور هذه الأنظمة وقدرتها على العمل بكفاءة في بيئات قتالية معقدة ومتغيرة بسرعة.
ويمثل مشروع «الأسطول الذهبي» حالة نادرة في التاريخ الأمريكي، حيث تتقاطع الرؤية الشخصية للرئيس، الطموح العسكري والرمزية الوطنية في مشروع واحد ضخم ومعقد. وبينما يعكس المشروع رغبة في استعادة الهيمنة البحرية الأمريكية وإعادة تعريف القوة في المحيطين الهادئ والهندي، فإنه يواجه تحديات متعددة: مالية، تقنية، لوجستية واستراتيجية.





