حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةفسحة الصيف

توظيف الخوارزميات لتشكيل رأي عامٍ يُوافق السرد السياسي للحركات الشعبوية

كتاب «مهندسو الفوضى» لجوليانو دا إمبولي

يتناول كتاب «مهندسو الفوضى»، للكاتب جوليانو دا إمبولي، كيف نجح بعض المستشارين السياسيين وخبراء الاتصال في استغلال التكنولوجيا الحديثة والمشاعر الجماعية للتأثير على الرأي العام وصعود الحركات الشعبوية في العالم. يتحدث الكاتب عن شخصيات بارزة، مثل ستيف بانون في أمريكا، ودومينيك كامينغز، مهندس حملة «البريكست»، وكيف استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي بمهارة لنشر رسائلهم بطريقة تجعل الغضب والخوف والإحباط وقودًا رئيسيًا لحملاتهم. ويكشف الكتاب كيف أصبحت الشبكات الاجتماعية أداة قوية بيد هؤلاء «المهندسين»، حيث يقومون بتوجيه رسائل مخصصة لكل فئة من المجتمع، ما يعزز الانقسامات ويقوض الحوار السياسي المتزن.

 

«مهندسو الفوضى» وخوارزميات التلاعب بالجماهير

جاء جوليانو دا إمبولي، عالم الأدب، من السياسة. فهو قبل أن يكتب وينشر روايته الشهيرة «ساحر الكرملين»، عن عراب بوتين، فلاديسلاف سوركوف، درس وعمل طويلاً في العلوم السياسية، متخصصاً في اليمين القومي والشعبوي الذي بات يزحف على مهل نحو السلطة في أوروبا. وفي كتابه «مهندسو الفوضى.. خلف كواليس الحركة الشعبوية العالمية»، يشرح إمبولي بإسهاب وسعة اطلاع الماكينة الرقمية والتقنية التي تقف وراء هذه الموجة التي تتراوح بين صعود قومي حاد وعودة إلى الفاشية في ثوب جديد.

ينقل دا إمبولي عن غوته قوله، وهو يتجول في شوارع روما: «الكرنفال هو احتفال يمنحه الناس لأنفسهم».

يحذر كتاب «مهندسو الفوضى» من المخاطر التي تترتب على هذه الأساليب، حيث يؤكد الكاتب أن هذه الاستراتيجيات تهدد الديمقراطية الحديثة من خلال تقويض المؤسسات التقليدية واستبدالها بعلاقة مباشرة بين القادة الشعبويين والجماهير، هو كتاب أساسي لمن يريد فهم السياسة الجديدة وكيف يتم التلاعب بالرأي العام في عصر المعلومات الرقمية.

يستشهد الكاتب والباحث الإيطالي جوليانو دا إمبولي، في «مهندسو الفوضى»، الصادر بترجمته الفرنسية عن دار «جان كلود لاتيس» 2024، بالكاتب الألماني غوته، الذي كان يصف حفلة تنكرية في روما سنة 1787 قائلاً: «إن الكرنفال هو احتفال يمنحه الشعب لنفسه، وهو احتفال يمكّن الشعب منذ العصور الوسطى، من قلب التراتبية الاجتماعية مؤقتاً وبشكل رمزي، بين الشعب والسلطة، بين عالي الشأن والمواطن العادي، بين المقدّس والمدنّس».

استعارة وظّفها الكاتب للقول إن الكرنفال كان وسيلة فرح وتحرّر من القيود، اخترعتها المجتمعات للتنفيس عن الاحتقان الاجتماعي، ومنح الطبقات الدنيا فرصة للثأر الرمزي مِن الحكّام والأغنياء، بالمساواة معهم لفترة محدودة، والسخرية منهم، من دون الخوف من العقاب، إنها وسيلة لدرء الثورة والتمرّد. ويشرح الكاتب كيفية التلاعب بالجماهير من خلال خوارزميات تعمل على فك رموز مستخدمي الشبكات الاجتماعية عن كثب، من خلال «مجسات المخفية» لجذب الجماهير ومن ثم التحكم بهم عن بعد في كل تصرفاتهم.

ويصف الكاتب بلاده بأنها وادي السيليكون للشعبوية الأوروبية، حيث تم الاستيلاء على السلطة، ولأول مرة، من خلال شكل جديد من الشعبوية التكنولوجية ما بعد الأيديولوجية، والتي لا تستند إلى الأفكار ولكن إلى الخوارزميات التي طوّرها مهندسو الفوضى هؤلاء. وليس السياسيون، بل الفنيون، هم من يتولون زمام الحركة من خلال تأسيس الحزب، واختيار المرشحين الأكثر قدرة على تجسيد رؤيتهم.

 

من الشارع إلى الإنترنت

لا يقام الكرنفال حالياً إلا في أماكن محدودة، لكن روحه ورمزيته وجدتا مكاناً آخر، في الكتب الساخرة وفن الكاريكاتير والبرامج التلفزيونية التهكمية، وفي الإنترنت خصوصاً، إذ «تخلى الكرنفال اليوم عن مكانه المفضّل، ليكتسب مركزية غير مسبوقة، فيصير النموذج الجديد للحياة السياسية العالمية».

في الواقع، لم يعد الأمر بيد أشخاص من الطبقات الدنيا، بل صار ممارسة مُمنهجة، كرنفال بطريقة أخرى موَجها لتصريف الغضب الشعبي، يشرف عليه علماء وخبراء في مجال البيانات الضخمة، يتواطؤون مع سياسيين من صنف جديد، يطلق عليهم «خبراء التلاعب الإعلامي»، مهمتهم نسف الأسس الكلاسيكية للأحزاب، فيحرّكون خيوط اللعبة السياسية للوصول إلى السلطة، ولا ينشغلون بتكوين المناضلين والتدريب على الصراع مع المنافسين، عبر تقديم برامج سياسية مُفكّر فيها.

وبحسب الكاتب، فإن وظيفة هؤلاء، «هي إعادة اختراع الدعاية السياسية، كي تتناسب مع عصر «السيلفي» ووسائل التواصل، وهم يغيّرون في الوقت نفسه من طبيعة اللعبة الديمقراطية».

يؤكد الكاتب أن «نشاط هؤلاء يتمحور حول الترجمة السياسية لفيسبوك وغوغل. وهو بطبيعته نشاط شعبوي، لأنه لا يحتمل أي نوع من الوساطة، ويضع الجميع على قدم المساواة، بمعيار وحيد للحكم، هو إظهار الإعجاب أو «اللايكات»». ويجري ذلك بغض النظر عن المضامين والمحتويات، التي لا يتم الاكتراث بها أصلاً، فالهدف هو ضمان الانخراط والتفاعل الفوري، كما يسميه عباقرة الإنترنت في وادي السيليكون بكاليفورنيا، والتقاط تطلعات كل الغاضبين ومخاوفهم، وإشعال عواطفهم عبر إذكاء الأخبار الكاذبة، وإشاعة نظرية المؤامرة وغيرها وتوظيفها بهدف إعادة تشكيل الصراع السياسي بناءً على ثنائية بسيطة، هي الشعب ضد النُخب».

ذلك تحديداً هو ما اعتمده حزب «النجوم الخمس» الإيطالي، الذي له حكاية تأسيس دالّة بقوة عن هذا الاتجاه. يرويها الكاتب بأسلوب مدهش يجعل القارئ يقف على حقيقة «سطو» سياسية بواسطة الإنترنت. إذ حضر ذات يوم إعلامي مختصّ، عرض أحد المهرجين المضحكين المشهورين في قاعة تغصّ بالجماهير، واقترح عليهم إنتاج مدوّنة باسمه، يورد فيها أفكاره وشتائمه البذيئة ضد النخب السياسية.

واستناداً إلى ردود الفعل من قِبل زوّار المدوّنة الأكثر تفاعلاً، يتم اختلاق محتويات جديدة يوظّفها المهرّج في عروضه. نجحت الفكرة، وصارت المدوّنة معروفة في إيطاليا كلها، وحصدت متابعين بالملايين، يوحّدهم الغضب الاجتماعي والحقد السياسي والإحباط، ويضمنون، في مفارقة عجيبة، مداخيل مالية هامة من الإشهار عبر المتابعات. هؤلاء سيشكلون الحزب في ما بعد، الذي سيدخل غمار الانتخابات، ويحصل على مقاعد كثيرة في مؤسسات الدولة. إنه حزب سياسي يعمل مثل «شركة»، يقوده أشخاص يمكن استبدالهم بسهولة بحسب المصلحة، وفق منطق التحكم المركزي الرقمي، ويهدف إلى إنشاء ديمقراطية مباشرة عبر الإنترنت، حيث يشارك المواطنون في اتخاذ كل القرارات.

يقول الكاتب: «تشبه هذه الخوارزمية طريقة عمل غوغل، ما يجعلها أشبه بمنصّة نتفليكس السينمائية، لكن الأمر هنا يتعلق بتفريخ الأحزاب وليس الأفلام».

هذا ما حدث في أماكن أخرى من أوروبا وأمريكا، حيث تأسست قوى تتحدث باسم الشعوب وغضبها من النخب السياسية التقليدية، التي تُتهم بأنها خانت مصالح الأغلبية لصالح أقليات متسلطة ومتواطئة في ما بينها.

 

فُقاعة محكمة الإغلاق

الغريب أن هذه القوى لا تقدّم حلولاً واقعية، أو تقترح برامج سياسية واضحة، بقدر ما تمنح فرصة للناخبين للانتقام من السلطة وإذلالها. كما أن الغضب الشعبي، يلاحظ الكاتب، لا يأتي دوماً من الفئات الاجتماعية الأضعف، بل كثيراً ما يصدر عن طبقات ميسورة نسبياً.

يردّ الكاتب ذلك إلى وجود معنى جديد لا يجرؤ الكثيرون على الاعتراف به، وهو أن «الأمر لا يقتصر فقط على تغيّر النخب، بل على أن الشعب نفسه قد تغيّر».

لقد تغيّر سلوك الناس والمجتمعات بفعل تأثير التكنولوجيا، وخصوصاً الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي. صاروا يعتمدون على الإشباع الفوري لرغباتهم، وميلهم للاعتراف الاجتماعي، وإدمانهم على الإعجابات والتعليقات، ما بدّل من طبيعة العلاقات الاجتماعية.

لكن التفاعل الرقمي الدائم يجبر الكل على تقاسم البيانات والانشغالات والاهتمامات والأهواء. وهو ما يمنح بنك معطيات هائلا «Big Data».  ويمنح في الوقت نفسه بعض العلماء والخبراء الأداة لتغيير طبيعة الحملات السياسية المعاصرة. وأصبح بالإمكان توجيه رسائل سياسية مخصّصة لكل ناخب بناءً على خصائصه الفردية، بدلاً من الاكتفاء باستهداف فئات اجتماعية عامة، كما كان يحدث في السابق. هذا الأسلوب يجعل التواصل فعالاً أكثر، ويمكن استخدامه لتقديم رسائل خفية إلى جمهور محدّد، من دون علم باقي الناخبين أو وسائل الإعلام.

هذا الأمر يسمح بالتأثير في الرأي العام وتوجيهه، وبالتأثير على كل فرد على حدة. وهو ما حدث في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن تمّ إرسال نحو مليار رسالة شخصية عبر الإنترنت. ويدلّ ذلك كله على عدم وجود حقيقة موضوعية واحدة، بل أصبحت لكل فرد «حقيقته» الخاصة التي تُبنى على ما تقدّمه له الخوارزميات من محتوى شخصي. إنه واقع جديد، تتحكم فيه شركات التكنولوجيا الكبرى، ما يجعل التفاهم بين الناس صعباً، لأن كل فرد يعيش داخل فقاعة إعلامية لا يرى منها سوى ما يؤكّد أفكاره ومشاعره.

هنا يظهر النقاش السياسي العام فاقداً معناه، ما دام الاختلاف لا يتبدى في الآراء بل في الحقائق نفسها، فيصعب تبيّن الصواب من الخطأ. هكذا لم تعد قواعد السياسة التقليدية هي السائدة، بل ظهر نمط جديد من السياسيين يتناقضون في خطاباتهم باستمرار، من دون محاسبة. هنا يدعو الكاتب إلى بناء قواعد سياسة جديدة لها دراية بالعالم المعقّد الذي فرضته الثورة الرقمية.

وكما قال إريك شميت، الرئيس السابق لشركة غوغل، «أصبح من النادر الوصول إلى محتوى لا يكون مصمماً خصيصاً لنا. فخوارزميات آبل وفيسبوك وغوغل تضمن أن يتلقى كل واحد منا المعلومات التي تهمه فقط».

ويقول مؤسس فيسبوك في هذا السياق، «إذا كنا نهتم أكثر بسنجاب يتسلق شجرة أمام منزلنا، أكثر من اهتمامنا بالجوع في أفريقيا، فهناك خوارزمية ستتكفل بإخبارنا عن الفئران في حيّنا، مع حذف كامل لأي إشارة لما يحدث على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط».

 

الشعبوية الجارفة

لنفهم الموجة الشعبوية، علينا أن نبدأ بتحليلها، وألا نقتصر على إدانتها أو تصفيتها. من هذه المسلمة ينطلق الكاتب في محاولة استكشاف من يقف وراء هذا المرض الذي أصاب الديموقراطية الغربية. ومن زاوية الآليات التي تحرك المد الشعبوي، يحلل ذا إمبولي دور النخبة الاتصالية الدعائية التي صممت آلة اتصال فائقة القوة. بدايةً من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تقوم على توجيه الرأي العام من خلال استعمال خوارزميات الإنترنت، بدايةً من المدونات والمواقع، ثم في عصر الانفجار الهائل لمنصات التواصل الاجتماعي. ويستعرض الكتاب العديد من العمليات التي تمت بهذا الأسلوب في الولايات المتحدة والبرازيل والمملكة المتحدة وحتى في المجر. ويتناول أيضاً التفاصيل حول كيفية تعامل دونالد ترامب وفريقه مع مفاهيم الحقيقة البديلة ونظريات المؤامرة والأخبار المزيفة، والتي يتم خلطها جميعاً بواسطة الخوارزميات المسؤولة عن صدى ما يعتقده الناس من دون مرشح ومن دون إدراك متأخر، على وجه الخصوص من خلال المجتمعات الرقمية التي تعبر عن نفسها على وسائل التواصل. هذا هو المكان الذي نرى فيه مثلاً، روح ستيف بانون اللعينة وموقعه الإخباري، يكافحان من أجل تشكيل رأي عام مؤيد لدونالد ترامب وتحسين التأثير وصوغ الرسائل لمصلحته باستمرار.

يذهب الكاتب إلى وجود استثمار قوي في توليف الغضب النفسي، المتأتي من الظروف التي خلقتها السياقات الاقتصادية والاجتماعية للعولمة والنيولبريالية، مع التطور التقني في توظيف الخوارزميات لتشكيل رأي عامٍ متوافق مع السرد السياسي للحركات الشعبوية وقادتها. بالنسبة إلى مهندسي الفوضى الجدد، لم تعد اللعبة تتمثل في توحيد الناس حول القاسم المشترك الأدنى، بل على العكس من ذلك، تأجيج مشاعر أكبر عدد ممكن من المجموعات الصغيرة ثم جمعها معاً، كالقطيع.

ويحذر الباحث الإيطالي من إغراء رؤية انتصار اللاعقلانية على العقل في المسيرة الأمامية للشعبويين. فهذا الكرنفال المعاصر يتغذى على عنصرين ليسا غير معقولين: أولاً غضب بعض الدوائر الشعبية التي تقوم على أسباب اجتماعية واقتصادية حقيقية؛ وثانياً آلة اتصال طاغية تريد استثمار الاستخدام المكثف للشبكات الاجتماعية، لإحداث تأثيرات غير عقلانية وغير قابلة للتنبؤ بها في العالم السياسي.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى