
كشفت بعض ارتسامات التلاميذ حول أجواء امتحان البكالوريا، مؤشرات خطيرة عن صناعة جيل تائه يعتقد أن جريمة الغش حق مكتسب، مع تحول من يمارس الغش إلى بطل يصفق له الجميع بالمنصات الاجتماعية، في حين تحول من يجتهد ويثابر إلى متهم بـ«الجدية».
لقد تحدثت تقارير صحفية وحقوقية عن استفحال ظاهرة الغش في الامتحانات، وتم دق ناقوس الخطر أكثر من مرة والمطالبة بتدخل جميع المؤسسات المعنية لتصحيح المفاهيم وتقويم السلوك، وبحث إجراء امتحانات تعتمد الفهم وليس الحفظ والاستظهار.
من نتابعهم الآن على الصفحات الفيسبوكية المشبوهة، وهم يسخرون من زملائهم المجتهدين، ويفتخرون بجرائم الغش، ويهددون التلاميذ المجتهدين، ويجاهرون بتحدي الإجراءات الأمنية لزجر الغش والتحايل على تطبيق القانون، ويعترضون سبيل الأساتذة الذين يتشددون في الحراسة لضمان تكافؤ الفرص، هم من سيحملون المشعل خلال وقت قريب ويشكلون المجتمع المغربي ويتزوجون ويربون الأطفال، وهذه في حد ذاتها كارثة ما بعدها كارثة تتطلب تحرك الجميع لتدارك ما يمكن تداركه.
لقد كانت شهادة البكالوريا بمثابة تحد حقيقي يرفعه التلاميذ في الزمن الجميل، وكان من يتم ضبطه في حالة غش، يتوارى عن الأنظار ويحس بالخزي والعار لأنه خدع زملاءه وخرق قواعد التنافس الشريف ولم يعر اعتبارا لقيمة القيم التي تربى عليها المغاربة الأحرار، لكن ما نعاينه الآن من المرور بسرعة قصوى من إدانة جريمة الغش إلى الافتخار بها أمام الجميع، والتطبيع معها والسخرية وتهديد من يختار الاجتهاد والمثابرة والجدية، يجعلنا نفكر بعمق في معنى هذه الامتحانات بالشكل الحالي من الأصل، وضرورة البحث عن طرق جديدة في الاختبار تحول أو تحد على الأقل من نسبة استعمال الغش وتعتمد الفهم وما استوعبه التلميذ وقدرته على تحليل الأحداث والثقافة العامة.
ولعشقنا الموسمية في كل شيء، فنحن نتحرك للتباكي واللطم والعويل عند كل امتحانات بكالوريا ومشاهدة نزول عينة من التلاميذ إلى الحضيض، وجيل لا يعترف بالقانون ولا القيم ولا التربية ولا تكافؤ الفرص ولا قيمة العلم، وبعدها يعود كل إلى عمله بشكل روتيني وسط تقاذف المسؤوليات وهدهدة الضمير ليستمر في نومه، في انتظار ذاك المجهول الذي لن يأتي طبعا ليخلصنا من أزمة التربية والتعليم التي نعيشها وتسير بنا نحو الهاوية.
علينا تصحيح مجموعة من المفاهيم المغلوطة، حول شهادة البكالوريا ولهث الأسر خلف النقط ومعها المؤسسات التعليمية والإدارات لإظهار النجاح المزيف، كما علينا العودة إلى غرس القيم النبيلة في نفوس التلاميذ عند مستويات الابتدائي والتركيز على ذلك، ناهيك عن التشريعات القانونية المواكبة، والتفكير في مشروع مجتمعي شامل لدعم إصلاح التربية والتعليم.
وعندما نقول إصلاح التعليم، فإنه لا يمكن أن يكون نشازا بين القطاعات الأخرى التي تتطلب بدورها الإصلاح الجدي بروح وطنية عالية وتقدير المسؤولية أمام الله والوطن والملك، غير أن تركيزنا على التعليم ينبني على كونه حاضنة تكوين الأجيال التي ستقود الوطن إلى بر الأمان، ويرتبط بصناعة الإنسان التي تعتبر من أعقد الصناعات بالعالم وكل هفوة فيها أو خطأ أو عدم اهتمام تكون نتائجه كارثية على مستوى جيل كامل والعكس صحيح بالنسبة للنجاح وما تليه من خيرات تعم الكل، وتكفينا في الموضوع مقولة أن «الاستثمار في الإنسان أعظم استثمار» فهل من آذان تسمع أو قلوب ترق لحال هذا الجيل التائه، وسواعد تبادر إلى التغيير الآن وليس غدا.





