
شامة درشول
حين اندلعت الموجة الأولى من الاحتجاجات في المنطقة العربية، بدءا من تونس، مرورا بمصر، ثم سوريا، وليبيا واليمن، والتي تحولت فيها الاحتجاجات إلى حروب، سميت هذه الموجة بـ«الربيع العربي». وما أغفلناه ونحن نتناقل طوال هذه السنوات الحديث عن هذا المنعطف التاريخي، ومازلنا نغفله ونحن نتابع ما يقع بلبنان، والعراق والجزائر، وقبلها السودان، أن ما يحدث هو مجرد موجة ثانية مما يسمى بـ«الربيع العربي»، في حين أنها في الحقيقة هي موجة ثالثة وليست ثانية، أي أنه ربيع ثالث وليس ربيعا ثانيا، وأنه ليس بـ«ربيع عربي».
شهورا بعد اندلاع موجات الربيع الأولى قبل ثماني سنوات، انتقلت هذه الاحتجاجات إلى أمريكا نفسها، تحت اسم «حركة احتلوا وول ستريت». هذه الحركة التي انطلقت بالاعتصام أمام مقر بورصة «وول ستريت» في نيويورك، ونادت بإسقاط النظام الرأسمالي، ولجم جشع البنوك والمصارف، ووقف هذا الجمع بين المال والسلطة. ووجهت هذه الحركة بقمع شديد من الشرطة الأمريكية، واعتقالات بالعشرات، مما أدى بمنظمي الحركة إلى الإعلان عن نشر روح الحركة في العالم بأسره، فانتشرت بكل مدن العالم مظاهرات واحتجاجات تطالب بإسقاط الوحش الرأسمالي، وهو ما جعل أمريكا، وبريطانيا وعددا من الدول الغربية، بما فيها القريبة منا مثل إسبانيا، لا تتردد في مواجهة هذه الاحتجاجات بكل أشكال قوى الردع، حتى أن بريطانيا قامت بقطع الأنترنيت بحجة منع المتظاهرين من التواصل، وجعلهم يوقفون ما وصف بـ«الأعمال التخريبية»، الحجة نفسها التي لجأ إليها الرئيس المصري حسني مبارك حين قام بدوره بقطع الأنترنيت على المتظاهرين.
منذ سنتين، عادت رياح الرغبة في التغيير لتضرب من جديد، وهذه المرة بأوروبا، ما حدث في فرنسا ودول في غرب أوروبا ما هو إلا موجة ثانية من الربيع، ربيع يسعى لإنهاء فصول سنة باتت خريفية، وأنهكت جيوب المواطنين، وجعلتهم يشعرون بأن هذا النظام الذي يقايض حريتهم بأداء الضرائب، ويقنعهم بأن توفير الخدمات الأساسية رهين بخصم الضرائب من مداخيلهم، ما هو إلا نظام يقوم بإفقار المواطن وإغناء المصارف.
هذا وتطورت الأوضاع في فرنسا، والدول الغربية المجاورة التي «تمرد» مواطنوها، لكن فرنسا، عنوان أوروبا، أصابها الإنهاك، حتى وهي تستند على ألمانيا، ولا تزال غير قادرة على النهوض والسير بعنفوان كما اعتادت، بل حتى ألمانيا نفسها أنهكت بجيش المهاجرين واللاجئين، الذين فتحت لهم أوروبا مرغمة أراضيها، واختارت من بينهم الأصلح لها. فأوروبا ترزح تحت خطر ضعف المواليد، وارتفاع نسبة الشيوخ، وباتت أضعف وهي تواجه أمريكا ترامب، الرجل الذي يرى في نفسه، حسب وصفه، أنه «اختاره الله»، ليجعل أمريكا هي الأولى.
قبل اندلاع موجة الربيع في فرنسا، كانت جحافل من اليهود الذين أقاموا فيها لسنوات طويلة تهاجر إلى أمريكا، وإسرائيل وكندا، وحتى إلى المغرب، وكان دافعها هو الخوف من هذا الظلام الذي يسود فرنسا وأوروبا، الظلام نفسه استشعره البريطانيون، وما قرار «بريكسيت» إلا محاولة بريطانية للقفز خارج القارب قبل أن يغرق.
قبل سنتين، وحين كان المغرب يواجه حراك الريف، كان في الحقيقة يواجه الموجة الثانية من الربيع، الموجة التي كانت ستنطلق من سيدي إفني في ألفين وثمانية، لكن المغرب أفلت منها، وكان متوقعا أن تنطلق من مصر، لكن تونس كانت الأكثر هشاشة. فالثورات والحركات الاحتجاجية تنطلق دائما من المناطق المتوترة، وتنطلق لسبب لم يكن متوقعا، مثلما حدث بمقتل محسن فكري، إذ خرج المغاربة في مظاهرات في كل مناطق البلاد، وبكلمة واحدة أطفأ والده الحريق الذي أشعلته عبارة «طحن مو». كانت سنة قاسية، كانت السنة التي كان متوقعا فيها انطلاق الموجة الثانية من الربيع، هذه المرة ضد الملكيات، عزلت السعودية عن العالم، أدخلت في حرب اليمن ولا تزال عاجزة عن الخروج، تحولت الإمارات من بلد مسالم يتباهى بنظامه الرأسمالي المرفه إلى ذراع للبطش في حرب غريزة بقاء لا يعرف كيف تنتهي، انكمش الأردن على نفسه، وخاض المغرب حرب إطفاء ضد الموجات الاحتجاجية التي لا تفتأ تنطفئ في مكان حتى تنطلق في مكان آخر. كانت الملكيات العربية ترزح تحت الموجة الثانية من الربيع، مثلما كانت ترزح تحتها فرنسا ودول من أوروبا، لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل هي محاولة لهدم النظام السائد، وإنشاء نظام عالمي جديد. أمريكا، التي تعتبر أنها أنقذت أوروبا الخارجة من حرب عالمية، وهي من شكل الاتحاد الأوروبي، هي نفسها الآن تحاول صنع أوروبا جديدة، كما إعادة تشكيل خارطة جديدة في منطقتنا المنكوبة.
الربيع الثالث الذي تعيشه اليوم هونغ كونغ والشيلي، والجزائر، والعراق ولبنان، هو ربيع يحمل نفس الشعارات، نفس الممارسات، المتظاهرون يخرجون إلى الشارع بسبب خطأ صغير من صانع قرار، يرفعون مطالب بإسقاط النظام، يوزعون الورود على الجيش، يتناقل الإعلام صور الجنود وهم يبكون، المتظاهرين وهم يعانقون الجنود، بعد أيام قليلة نفس الجندي ينهال ضربا على المتظاهر، فقد تلقى الأوامر بأن المتظاهرين انسحبوا، وأن هؤلاء الذين في الساحة مجرد مندسين. المتظاهرون يرددون أن النظام أطلق عليهم «البلطجية، والشبيحة والزعران» من أجل تفريقهم، ويخوض البلد بعدها حرب قوى، إما تنتهي بانتخابات تعيد نفس الأخطاء، أو تكتمل بحرب أهلية، أو لا يعود الجميع إلى منازلهم لأن عليهم فواتير وضرائب يجب دفعها، الفرق بين الربيع الأول، والربيع الثاني والربيع الثالث، أن المظاهرات لم تعد تقبل بأيقونات لها، أو متحدثين عنها، أو مفاوضين باسمها مع النظام، وهو ما يعني أن الربيع بات فصلا طويلا، فالكل ينتظر حلول الصيف، موسم الحصاد.
إشارة العاهل المغربي في خطابه إلى ضرورة إدماج الأبناك في برنامج التنمية الجديدة، لم يكن محض صدفة، كان محاولة لاستباق الأمور، لكن ما يجب على صناع القرار في هذا البلد الانتباه إليه، هو ما جاء في مقال للصحفي سمير عطا الله نشر له بجريدة «الشرق الأوسط»، قال فيه «رجال الدولة يصححون الأخطاء التي يرتكبها رجال السياسة».
هذا البلد لا يحتاج إنقاذ المشهد السياسي، هذا البلد يحتاج مزيدا من رجال الدولة الذين يصححون أخطاء السياسي، حتى لا نجد أنفسنا في الربيع الثالث.



