
بقلم: خالص جلبي
افتتح القرن الخامس عشر الهجري بحادثين مزلزلين؛ ففي الأول من محرم عام 1400 هـ اقتحمت مجموعة مسلحة الكعبة، وفي العام نفسه انفجرت الثورة الإيرانية. الحدث الأول كرر المسلسل التاريخي المتواصل من الغدر والانقلابات الدموية والإيمان بالقوة سبيلا لتغيير الأوضاع، ولو بسفك الدماء في البيت الحرام. وهو يذكر بشعر امرئ القيس وهو يصف السيف: أيقتلني والمشرفي مضاجعي … وسنونه زرق كأنياب أغوال.
أما الحدث الثاني فكان ثورة سلمية لم يحصل نظيرها في كل التاريخ الإسلامي، باعتماد الكلمة في وجه القوة. كما قال خاتمي في جمعية الأمم المتحدة: إنني جئتكم من أمة انتصرت بقوة الكلمة على أكبر قوة مدججة بالسلاح والتكنولوجيا. ويروي صحافي عن أيام الثورة أنه في إحدى المظاهرات أطلق جندي النار على شاب فصرعه، فتقدم رجل مسن فكشف صدره، وقال: لو أبقيت على حياة الشاب لربما نفع إيران، ولكنني شيخ لا أنفع لشيء، فاقتلني إن شئت. فاضطرب الجندي وقال: ماذا أفعل؟ قال: ألق سلاحك واتبعني.
وفي يوم واجهت طائرات الهليكوبتر مظاهرة مليونية، ففتحت النار عليها فقتل 4650 إنسانا في ضربة واحدة، منهم 600 امرأة. وكانت الجموع الثائرة تأتي إلى الجنود فتضع الورد في فوهات البنادق، ولم تقتل جنديا واحدا. وكان الناس يموتون ولا يتراجعون. وفي النهاية هرب الشاه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ومات مدحورا مذؤوما.
غير أن هذه الظاهرة التي تشبه انفجار السوبرنوفا لم يستفد منها أحد، بمن فيهم الخميني، فتورط في الحرب، كما لم ينتبه إليها المجتمع السني، بسبب الحاجز السيكولوجي الطائفي، ولم يتفطن إليها الوسط الشيعي واعتبرها أمرا خارقا وشيئا خاصا بقيادة الخميني، ومن انتبه إليها كان أمريكا.
وعندما تورطت إيران في الحرب مع العراق، هدأت خواطر الغرب ووضع قدميه في ماء باردة. وكانت ثلاثون دولة تمول الحرب بالسلاح، ومرت ثماني سنوات عجاف أطول من الحرب العالمية الثانية نحرت على مذبحها مليونا من القرابين البشرية وخسارة 400 مليار دولار ودمار في البنية التحتية تحتاج إلى ثمانين سنة للإصلاح.
ليس هذا فقط، بل تمددت إيران ودعمت الطاغية في سوريا وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهذا يقول إن الثورات تبدأ بالحرية لتنتهي بالظلمات، سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.
وفي العدد النهائي من مجلة «اليونسكو»، نقلت مقابلة مع الزعيم التشيكي «فاتسلاف هافيل» قوله عن المثقفين: إن الكلمة الصادقة أفضل من فرقة جنود على أن (لا يشركوا) بها قوة أخرى. وهي تكرار لفكرة القرآن بلغة مختلفة: لئن (أشركت) ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. ولكننا نؤمن أن السيف أصدق أنباء من الفكر وعبدنا القوة وما زلنا مشركين بها. وهذا يوضح لنا التحرر السلمي لبلده، وكذلك الانفصال السلمي بدون دماء.
وهذا الكلام ينفعنا عما يحدث في فلسطين، وأن هذا الأسلوب كان من الممكن تطبيقه في الصراع هناك. إن ساسة بني صهيون يحلمون بتفريغ الأرض من سكانها، ولكن هذا لن يتم لعدة اعتبارات أن الفلسطينيين ارتفع وعيهم عن عام 1948 م، فلن يتركوا الأرض. وهم لن يخرجوا من ديارهم ألوفا حذر الموت.
ومن ينتحر بتفجير نفسه بين العدو لم يعد يخاف، ولن يتمكن بنو صهيون من تدجين أمة بهذه النفسية، كما أن العالم كله يتفرج والشاشة تنقل الخبر لزوايا الأرض الأربع. ولو دُفع الفلسطينيون قسرا باتجاه الحدود، لأغلقت البلاد العربية حدودها، مكررة قصة مرج الزهور مضروبة بحجم مائة ألف مرة.
ولذا فإن بنو صهيون يعملون ضد التاريخ. إن إسرائيل والصهيونية هي هندسة وبناء العلمانيين اليهود أكثر من المتدينين. وسيكونون في النهاية مع فريق أبي سفيان فيقولون: هلك الكراع والخف وفلسطين ليست بأرض مقام فإني مرتحل فارتحلوا.
إنني أزعم أن الدولة الفلسطينية ولدت وهي تنزف كما تنزف المرأة الحامل مع الوضع، ولكن كل المشكلة هي بعد الولادة، وليس مع المخاض الذي هو قانون طبيعي. ومن الغريب أن إدوارد سعيد من مربع الحداثيين، وخاتمي من فريق المتدينين، اتفقا على فكرة دولة شرق أوسطية علمانية تضم كل الأديان.
بكلمة أخرى، عدم التفكير بولادة دولة فلسطينية، لتصبح الدولة العربية رقم 23 بــ23 جهازا أمنيا. ويودع أطفال الحجارة المرقاع والحجر، وتنتهي طموحات الحركات الإسلامية في المعتقلات. وتقول النخبة الحاكمة لا مظاهرات بعد اليوم، ونحن سنفكر عنكم بالنيابة، وسلموا لنا عقولكم بالبريد المسجل، وكبلوا إرادتكم في أقبية المخابرات. إن الدليل على هذا الكلام أن العالم العربي ليس فيه استعمار غربي، ولكنه في حالة استعمار داخلي أدهى وأمر.
ولو خسف الله الأرض بإسرائيل وأمريكا فلن تحل مشاكل العرب، لأن المرض ناشئ عن انهيار الجهاز المناعي أكثر من هجوم الجراثيم الصهيونية. ولم تكن إسرائيل لتوجد أصلا، لولا الاستعداد والقابلية العربية لمرض خبيث من هذا النوع، ولكن قطع الأنف بالمقص وبدون تخدير أسهل من استيعاب هذه الحقيقة.
نافذة:
لو خسف الله الأرض بإسرائيل وأمريكا فلن تحل مشاكل العرب لأن المرض ناشئ عن انهيار الجهاز المناعي أكثر من هجوم الجراثيم الصهيونية





