حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

موسم الجرأة الانتخابية

 

 

نعيمة لحروري

 

 

في السياسة عندنا، هناك لحظة تتكرر بإلحاح مثير للريبة، لحظة اكتشاف الحقيقة بعد فوات الأوان.

يكون السياسي الكبير في أوج عطائه، يتنقل بين المكاتب المكيفة، يوقع القوانين، يصوت على الميزانيات، يشرح للناس معنى «الاختيار الديمقراطي»، ويؤكد أن الأمور تسير في إطار المؤسسات. لا شكوى، لا اعتراض، لا حتى تلميح. ثم، فجأة، حين يُغلق القوس، ويبرد المقعد، ويصبح الهاتف أقل رنينا، يخرج علينا بالاكتشاف العظيم: يتحدث عن قيود لم يرها من قبل، وعن دولة اكتشف فجأة أنها كانت تحكم، وعن قرار لم يكن يوما بيده، رغم أنه أمضى سنوات يشرحه ويدافع عنه.

هذا الاكتشاف لا يأتي من الهامش، بل من قلب السلطة. من أشخاص كانوا في صلب القرار الوطني، امتلكوا سلطة التشريع، والتأثير، والتوجيه، وقادوا أحزابا، وشاركوا في الحكومات، وراكموا سنوات من النفوذ. لم نسمع منهم آنذاك حديثا عن القيود، ولا معركة سياسية حقيقية من داخل المؤسسات، ولا رفضا علنيا للاختلالات التي يتباكون عليها اليوم. كانوا منسجمين، متصالحين، مستفيدين، وصامتين.

ما يحدث اليوم لا يمكن قراءته كصحوة ضمير متأخرة، بل كابتزاز سياسي بلباس نقدي.

خطاب محسوب، اعترافات بالتقسيط، ورسائل مبطنة مفادها: نحن نعرف كيف تُدار الأمور، وصمتنا لم يكن جهلا، بل خيارا. هذا الكلام لا يقال دفاعا عن الديمقراطية، بل تفاوضا على موقع، أو احتجاجا على تهميش، أو محاولة للعودة إلى الواجهة بعد أن أُغلقت الأبواب.

وقبيل الانتخابات، تتحول الظاهرة إلى طقس موسمي. فجأة، يصبح الجميع معارضا. وزراء سابقون يشتكون من الحكومة التي كانوا جزءا منها، قادة أحزاب يكتشفون أن القرار لم يكن بيدهم وهم من صادقوا عليه، وبرلمانيون يتحدثون عن التقييد وكأنهم لم يرفعوا أيديهم يوما داخل القبة. الكل يعارض، الكل يحتج، الكل يشتكي من القيود، الكل يتبرأ من القرار، الكل يغسل يديه من سنوات شارك فيها طوعا في صناعة السياسات العمومية.

المشكلة هنا ليست في نقد الدولة ولا في مساءلة الإدارة، فذلك حق مشروع وضروري. المشكلة في الازدواجية. في أن يصبح النقد مرتبطا بانتهاء المنفعة، وأن تتحول الشجاعة إلى رد فعل على فقدان الامتياز، لا إلى موقف مبدئي. حينها، لا يعود الخطاب إصلاحيا، بل مساومة. ولا يصبح النقاش عموميا، بل ورقة ضغط تلوح بها نخب تعرف متى تصمت ومتى تتكلم.

المواطن، الذي تابع هذه المسرحية أكثر من مرة، لم يعد ساذجا. يعرف أن بعض الحقائق لا تقال حين يكون قولها مكلفا، بل حين يصبح الصمت بلا فائدة. ويعرف أيضا أن من صمت وهو في قلب القرار، لا يمكنه أن يتقمص دور الضحية خارجه.

في النهاية، ليست المشكلة في قوة الدولة ولا في تعقيد النظام، بل في سياسيين لا يكتشفون القيود إلا حين تقيد أيديهم هم، ولا يتحدثون عن الحقيقة إلا حين تصبح بلا ثمن. أما قبل ذلك، فكل شيء كان «يسير في إطار المؤسسات»!

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى