حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

وميض العبقرية

بقلم: خالص جلبي

الدماغ ثلاث طبقات الوعي، ويشكل 5 في المائة من التفكير، وما تبقى من 95 في المائة من الإدراك كان من عالم اللاوعي، ولكن الطبقة العلوية والرقيقة جدا فهي طبقة الإبداع وليست عند كل واحد، والوحي هو صنف من ذلك التجلي المجهول، فالقرآن يقول وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. والمهم في عالم الإدراك، أن هناك لمعات عجيبة تأتي للكثير من العباد، وحتى الوحي كما يقول المفكر إقبال إنه ظاهرة كونية أتت لأم موسى، وهي للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومما يعرشون.
ومن فتح الله عليه في تاريخ مغامرات الأفكار كثيرون، وهناك من جاءهم وميض عجيب، فأوحى إليهم بأفكار، غيرت التفكير الإنساني، وتركت بصمات عملهم في أثر لا يمحى، وهم عينة من تيار من العلماء، وصل معظمهم إلى أفكار وقوانين جديدة تحت تأثير وميض العبقرية، في لحظة مباركة.
وفي هذا الصدد ينصح بقراءة كتاب «ساعات القدر في تاريخ البشرية» للنمساوي ستيفان تسفايغ، الذي عرض 13 قصة عجيبة، منها هزيمة واترلو وفتح القسطنطينية، وأفكر أن أخصص كل قصة بمقالة، أو فكرة عرض الكتاب كله بقصصه في مقالة، فائدة للقارئ والمتتبع.
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، ومنها مثلا سقوط التفاحة عند (إسحاق نيوتن) الذي أوحى له بفكرة الجاذبية، وكان أبوه يأكلها أو يطعمها الحمار.
وتراقص غطاء إبريق الشاي، الذي يغلي أوحى للعالم (دينيس بابان) بفكرة ضغط البخار، فتم استخدامه قبل مائتي سنة، وسيرت على القضبان القطارات، تحت تأثير ضغط الماء المغلي المحبوس، وكان كل الناس يرون تراقص غطاء إبريق الماء الذي يغلي، فلم يفهموا منه سوى همهمة ودمدمة، وعليهم أن يقوموا فينزلوا الإبريق عن النار.
أما (آرخميدس) فقد جاءته الفكرة في حوض الماء، عندما انزاح الماء عن جسمه فأوحت له تلك اللحظة بقانون الطفو، والوزن النوعي للذهب، فركض من الحمام عاريا يصيح أوريكا أوريكا، أي وجدتها وجدتها. ويعني أنه عثر على الحل والتفسير لتاج الملك، هل هو ذهب حقيقي أم مغشوش؟ ومن قانون آرخميدس في الطفو، تمشي اليوم سفن الحديد العملاقة، في المحيطات وكأنها الأعلام.
وفكرة اختراع ماكينة الطباعة جاءت لـ(يوهان جوتنبرغ) وكأنها أشعة شمس نافذة، تقول له ماذا يفعل؟ وكانت قبله فكرة بسيطة، من أي خاتم عليه نقش، يكفي أن يكبر سطح الخاتم إلى صفحة، ويوضع عليه حبر، ويطبع فوق صفحة ورق. وهذه الفكرة البسيطة لو انقدحت وطبقت في العصر العباسي، لأراحت نساخ الورق في بغداد بشكل خرافي، ولكن وميض العبقرية يحتاج إلى شروط، من وسط وذكاء ومال وحظ وتراكم معرفي.
أما (ابن خلدون) فقد انتبه الى قوانين الاجتماع، خلال هدأة من الفكر استمرت خمسة أشهر، في حياته الصاخبة، التي استمرت 75 سنة بين تونس والأندلس ومصر، ولولا هذه الأشهر المباركة في (قلعة عريف) لما وصل إلى يدنا هذا الإنتاج الفذ، الذي وصفه صاحبه بالحكم القريبة المحجوبة، التي جاءته على نحو مفاجئ، ولا يكاد يتفطن إليها إلا الآحاد من الخليقة. ووصفه المؤرخ البريطاني توينبي أنه أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل، في أي زمان ومكان.
أما (شامبليون) الذي فك أسرار اللغة الهيروغليفية، فجاءته أيضا في ليلة ليلاء، بعد جهد مكثف لأكثر من 14 سنة، ثم التمعت في لحظة واحدة من وميض العبقرية، فخر على الأرض مغشيا عليه، لأن الفراعنة وكهنتهم خرجوا عليه دفعة واحدة، يتحدثون ويروون له حياة كاملة، كانت ميتة مغيبة، في ضمير العدم لمدة ثلاثة آلاف سنة ويزيد.
أما (آينشتاين) فقد ولدت في ذهنه (النظرية النسبية)، وهو يتصور نفسه معتليا شعاعا من الضوء، وخيل إليه في لحظة، أنه ثابت، فقال بثبات سرعة الضوء، ومن أسرار الضوء ولدت النظرية النسبية الخاصة بكل تطبيقاتها، ومنها تفجير الذرة والسلاح النووي.
أما (أوغست كيكول) فقد فهم (حلقة البنزين) في الكيمياء العضوية، بمنام خرج عليه ثعبان بفحيح، قام بالتقام ذيله. وكانت مشكلة ذرة الفحم هي أساس الكيمياء العضوية، ولكن كيف تشكلت العضويات من فحم فإذا حرقناها اسودت؟ كان السر في التفاف الذرات على بعضها فكانت قاعدة لبناء الأحياء.
وفي ليلة تاريخية وصل الفيلسوف (ريني ديكارت) عام 1630 جنوب مدينة أولم في ألمانيا، إلى منهجه التحليلي المشهور فكتب «المقال على المنهج»، وحرب الثلاثين عاما الضروس تأكل الأخضر واليابس في الأرض الألمانية، ووصف تلك الليلة أن دماغه كاد أن يحترق. ولكنه خرج بالمنهج الرباعي التحليلي، وقال بالشك، حتى أنه يشك في ما شك به. هنا وقف وقال: «كل شيء أشك به، ولكن الشيء الثابت أنني أشك، فأنا موجود لأنني أشك». فوقف على أرض صلبة.
أما (باسكال) فقد خرج بأجمل نظرياته، في ليلة محمومة، كاد أن يغشى عليه من الألم فكتب «الخواطر».
وفي غابات الأمازون كان (ألفرد راسل والاس) يهذي من الحمى بعد لسع البعوض، وفي ضرامها انقدحت نظرية (انتخاب الأنواع). ويروى عن ابن سينا أن المسائل كان يأتيه حلها في المنام، فيقوم ويكتب.
مشكلة العبقرية أن كل واحد منا، يمكن أن تنقدح عنده ويصل إليها، ولكننا بطريقة ما نطفئ هذا النور الفطري فينا، فيعيش أحدنا في ظلمات ليس بخارج منها.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى