شوف تشوف

الرئيسية

أستوديو تطوان السينمائي الذي اندثر

توقف المخرج العنيد عبد الله المصباحي أمام ساحة عند منحدر هضبة في تطوان، بمحاذاة الطريق المؤدية إلى الساحل، وقرر أن يحولها من ركام رمي الأزبال إلى تحفة فنية. راودته فكرة إنشاء أستوديو للإنتاج السينمائي، يكون بمثابة مركب للدراسة والتأهيل الفني.
لم تكن معاهد دراسة السينما والمسرح انتشرت بعد. واحتفظ معهد الموسيقى إلى جانب تجارب في تلقين أصول الطرب الأندلسي بصدارة المشهد. فيما كان على المولعين بالفن السابع أن يغامروا في اتجاه روسيا وبولونيا وفرنسا وإيطاليا، لمن استطاع إلى ذلك القدرة.
ورأى عبد الله المصباحي أن تطوان، التي كانت رائدة في الصحافة والانفتاح على ثقافة المشرق، جديرة بأن تتوفر على أستوديو سينمائي بمواصفات حديثة. فقد راودته الفكرة قبل أن يعمد إلى دراسة الجدوى، لكنه مثل كل الحالمين لم يتردد في وضع الحجر الأساس.
لم تكن ورزازات بدأت تتلمس معالم «هوليود» صغيرة، وسط الإقبال المتزايد على تصوير أعمال سينمائية في المغرب. وردد مع نفسه: إذا كانت طبيعة الجنوب تسحر بشمسها وقصباتها وواحاتها ووديانها التي تشق الجبال إلى نصفين، فإن شمال المغرب في إمكانه استقطاب روائع سينمائية، تتخذ من مناظره الحية ديكورات يعجز عن إنجازها كبار الرسامين. كل شيء متوفر الشمس والجبال والمسالك الوعرة وتقاليد الضيافة. وماذا عسى يتمنى أي مخرج غير بيئة ملائمة، يتطلع فيها السكان لأن ينافسوا الإسبان في اكتساب اللغة والمهارات والقدرة على المغامرة.
بين تصوير مشاهد شريطه السينمائي «أفغانستان.. لماذا؟» والانكباب على إحداث أستوديو في الموقع نفسه، استغرقت المخرج المصباحي انشغالات لا تنتهي. وعندما حطت قوافل ممثلين مغاربة وعرب وأجانب في تطوان للمشاركة في عمل سينمائي كان يريده بمواصفات دولية، تصور أن حلمه في طريقه لأن يتحقق. أحضر رأسمالا عربيا وتقنيين أجانب وممثلين مغاربة، وشرع في الترويج لمشروع الأستوديو الذي كان يعول على أن ينافس صنواتها في بلاد المشرق ومصر تحديدا. إذ لم تكن السينما العربية وقتها أكملت شروط الصناعة الدرامية.
لم يفارق المصباحي رهان الانفتاح على ثقافة وفنون المشرق، فقد خصم من مأكله ومشربه ما ساعده على إصدار أول مجلة فنية شاملة. وكان من الأوائل الذين فاتحوا رجال أعمال في إمكان تمويل أفلام سينمائية. ثم جاء الدور ليباشر بنفسه تأسيس مشروعه. وعندما وضع موازنة «أفغانستان… لماذا؟» في حساب مصرفي، لم يفكر في اقتناء فيلا أو سيارة فارهة أو ضيعة زراعية. بل صرفها قرشا بعد الآخر في إنجاز مشروعه الذي لم يكتمل. مثل تجارب أخرى أرادها عالمية، لكنها لم تغادر مساحة الحلم والترقب.
بدأت قوات الدب الأحمر تغوص في المستنقع الأفغاني وفطن المصباحي بحدس سياسي مبكر، إلى أن وقائع ذلك الغزو تستحق تخليدها في شريط سينمائي يضم نجوما من مشاهير السينما العالمية والعربية، مثل الإيطالي جوليانوجيا والمصرية الدلوعة سعاد حسني ومغاربة موهوبين. حمل سيناريو الفيلم وطاف بعواصم خليجية يعرض فكرة جذابة مفادها أن الحرب على السوفيات الغزاة لا تتطلب دعم حركات المجاهدين الأفغان والمتطوعين العرب فقط، بل تحتاج بلورة خطة ثقافية وإعلامية للتعريف بالقضية.
جلت برفقته تضاريس وجبال المنطقة التي ضربت طوق حماية على تطوان البيضاء. وكان يستوحي من طبيعة الإقليم صورا بعيدة للعاصمة الأفغانية كابول وجبالها ووديانها التي عرفت أوج معارك التحرر، قبل أن ينقلب السحر على الساحر. تحدث عن الصعوبات التي اعترضته في حيازة تمويل في حجم ذلك المشروع الضخم. وبدا مصرا على أن السينما المغربية لن تنهض إلا بدمج الرأسمال والكفاءات العربية والدولية والمحلية. إذ لم يكن دعم الإنتاج المحلي سينمائيا تبلور في شكل إجراءات ودفاتر تحملات. وقلة من المحظوظين وجدوا تفهما من المركز السينمائي الذي كان ينتقي مشروعاته على قدر الصداقات والمعارف والعلاقات.
أستوديو تطوان كان يريده مشروعا متكاملا، وبدا أنه استفاد من تعثر إنتاجات عديدة، حاول تأمين شروط إقلاعها ماديا ومعنويا. لذلك أجرى اتصالات إدارية لضمان انطلاق مشروعه الذي كان يرغب في أن يشكل منعطفا سينمائيا في المنطقة الشمالية. كان يراهن على سمعة طنجة التي ارتبطت بإقامة روائيين ومبدعين كبار. واختيرت لتصوير كثير من الأفلام السينمائية، ويرغب في إحياء بريق تطوان وإشعاعها الثقافي. إلا أن مشروعه تعرض للانتكاس جراء صعوبات إدارية ومالية. ومع مرور الأيام وتزايد منسوب العراقيل تهاوت البناية التي كان يريدها نواة للمشروع، ثم عادت الساحة إلى طبيعتها مجرد خلاء عند منحدر الهضبة. ولا علامة توحي بأن مشروعا سينمائيا كان في طريقه لأن يرى النور.
لم يقعده الإحباط، وفي أي لقاء عابر يكون المصباحي متأبطا أوراق مشروع أو فكرة جذابة. أخذت منه قضية الصحراء حيزا كبيرا من الاهتمام وكان يرغب في إخراج شريط حول الأوضاع المزرية في مخيمات تيندوف. وأسرته فكرة «باب المغاربة» في القدس الشريف، حيث اشتغل طويلا على مشروع شريط حول القدس الشريف وارتباط المغاربة بالقضية المقدسة. ولم يلذ إلى استراحة المحارب إلا عندما ظهرت مخرجة تدعى إيمان المصباحي حملت المشعل نيابة عن الوالد، بعد أن تمرست على دراسة الفن السينمائي في معاهد القاهرة.
قد لا يكون المصباحي مخرجا كبيرا، لكنه بالتأكيد مبدع كبير يغمره الإحساس الدائم بأنه إن لم يبدع فكرة لا يستطيع الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى