شوف تشوف

دين و فكر

اضطراب في حضرة الجماعة 25

تأكد «أبو أيمن» أني أسير في الاتجاه الذي يسير فيه.. وضع يده على كتفي بعد خروجنا من المسجد، ثم قال وكأنه يخفي شيئا:
ـ هل تعلم أنك لا تحيا وحدك في هذه الدنيا!! هناك ـ والحمد لله ـ فئة من المؤمنين مثلك يعيشون في كل مكان على الأرض.. فئة لن ينقطع دابرها حتى تقوم الساعة.. فئة صابرة تزداد يوما عن يوم.. ستقيم الدين في أرجاء الأرض كلها.. فالله تعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمور دينها.. نحن الآن نعيش صحوة إسلامية تاريخية ستعلو فيها راية الإسلام.. وسيعود كما بدأ أول مرة.. انظر من حولك ألا ترى الشباب الملتزم يعمرون مساجد الله.. والمحجبات في كل مكان.. في الجامعة والإدارة والكاريان أيضا…
قاطعت «الأخ» متحمسا:
ـ أظن أن هذه الفئة قليلة جدا في بلادنا.. ولم أر مثلها في الكاريان.. عكس ما يوجد مثلا في مصر.. فـ«الإخوان» كادوا أن يصلوا إلى الحكم.. إلا أن هذه الفئة المؤمنة تعرضت للإبادة الوحشية على يد الطاغية «عبد الناصر»..
ـ لا يا أخي الكريم.. هذه الفئة موجودة أيضا في المغرب.. تعبد الله وتعمل في هدوء تام تنتظر اليوم الموعود لها بالنصر.. هل تعلم أننا نعيش غرباء في هذا العالم أمام تنامي مظاهر الكفر والانحلال.. نحتاج إلى «أم» تجمعنا وترعانا حتى نكبر ونستطيع أن نقود هذه «الأمة» نحو الريادة من جديد..
أجبت «أبو أيمن» وأنا كلي شوق إلى التعرف على الفرقة الناجية:
ـ بالفعل أشعر بالوحدة والغربة وسط هذا الكاريان.. بل حتى داخل منزلنا.. أحمد الله كثيرا أنه سخرك لي لكي أعرف ديني وأعي الواقع الذي أعيشه.. أريد أن أتعرف على هذه الفئة المؤمنة وأعمل معها على رفع راية الإسلام ليحكم هذا المجتمع الذي زاغ عن طريق الله..
انشرح فؤاد «الأخ» وضرب بقوة على كتفي وقد بدأ الخيط الأبيض ينجلي في أفق الغسق.. انتهى الوالد لتوه من الاستماع إلى حزب الصبح.. مرَّ بجانبنا ولم يسلم علينا.. نظر إلي «الأخ» مبتسما.. كاد أن يهمس في أذني من جهة اليسار:
ـ ستحضر معي مساء اليوم «جلسة» دينية نقيمها كل أسبوع عند أحد إخواننا في «المدينة» (يعني وسط المدينة أما الكاريان فيوجد على هامشها).. نتدارس فيها أمور الدين.. وتجعل عملنا أكثر تنظيما.. إن في الجماعة بركة.. وفي الوحدة قوة.. وهكذا سنة التغيير.. تبدأ بالفرد الواحد حتى تتكون الجماعة ثم بعدها الأمة.. ولن تجد لسنة الله تبديلا.. هكذا كانت دعوة رسولنا الكريم في البداية.. يجتمعون في دار الأرقم بن الأرقم.. فأصبحوا كثرة بعد قلة.. وازدادوا قوة بعض ضعف..
دخل «أبو أيمن» إلى «براكة» أمه.. تركني شاردا أمام باب «براكتنا».. فتحت الباب، فوجدت «زينب» تستعد للذهاب إلى العمل والوالدة تعد لها الفطور.. لم أسلم عليهما ولم أعرهما اهتماما.. قلت في نفسي إن المهمة التي تنتظرني في الحياة أهم بكثير منهما.. انتابني شعور قوي بأني أصبحت الآن رجلا هاما.. وأني سأنال، أخيرا، شرف حمل لواء تغيير الأمة وإخراجها من الضلال إلى الهداية (أشبه هنا الدون كيشوت تماما).. لم يغمض لي جفن ذلك الصبح.. وقضيت اليوم كله وأنا أنتظر المساء للقاء «أمي» الحقيقية.. و«إخواني» الحقيقيين..
طرحت على نفسي أسئلة كثيرة.. كم عدد «الإخوان» في المغرب؟ هل لهم زعيم مثل «البنا» أو «قطب»؟ كيف يتحركون في المجتمع؟
رأيت «لحى» كثيرة «تتحرك» في الكاريان لكني أجهل طريقة عملها.. تمنيت أكثر من مرة لو انتميت إلى جماعة إسلامية.. انتظرت مثل هذا اليوم بفارغ الصبر.. تذكرت أيضا ما فعله «المخزن» بوالدي.. هل تسنح لي الفرصة في المستقبل لأنتقم لأبي الذي سجن ظلما؟؟ هل يأتي ذلك اليوم الذي نحاسب فيه «الوزير» الذي لا يزال يسرق ماء «الدولة»؟؟ قضيت اليوم كله في أحلام النهار التي لا نهاية لها.. أرخيت العنان لنفسي لتعيش لحظات استمتاع وأنا أحاسب «الوزير» على أكله السحت وتطاوله على المال الحرام.. لماذا الملك عندنا وراثي؟؟ هل يمكن أن ننشئ دولة إسلامية ننتخب فيها الخليفة الذي سيحكمنا بشرع الله وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم).. أظن أنها أحلام يقظة راودت أغلب «الإسلاميين» في فترة السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات..
عشت اليوم كله شريطا متواصلا من الأماني التي تسيطر على عقل كل مراهق «ملتح»، أو مراهقة «متحجبة».. أحلام ضحيت فيها بوالدي ووالدتي وأخي ولم تتحقق في يوم من الأيام.. أحلام ضيعت فيها عمرا من أجل مناصرة فئة اعتقدت أنها ستقيم الدين على الأرض.. حركة اكتشفت في نهاية المطاف أن أغلب قادتها تجار مناصب.. استفادوا في الحياة الدنيا بالدعوة إلى الله.. وتسلقوا المناصب على أكتاف المغفلين من الإسلاميين.. أناس استغلوا أمثالي باسم الدين وحولوهم إلى أصوات انتخابية لدخول «مجالس» الشعب.. عندما استيقظت من الحلم وجدتني عشت وهما اسمه «الحركة الإسلامية»..
صليت العشاء مع «أبو أيمن».. أخذ بيدي ومشينا خارج الكاريان.. خرجنا من عالم البراريك والأقبية والأزقة الضيقة والرائحة المقرفة لقنوات صرف المياه المكشوفة.. تركنا الظلام الموحش إلى عالم الأضواء والسيارات المتحركة والحوانيت المصطفة.. بالرغم من أننا في قلب المغرب إلا أن حياتنا وسط الكاريان جعلتنا خارج التغطية الحضرية بالكامل.. عندما تجولت ذات يوم وسط الشارع الكبير والفنادق الضخمة والمقاهي الفارهة اعتقدت أني أزور مدينة جديدة.. الكاريان كان هو «المدينة» أما باقي الأحياء الجميلة بالنسبة إلي، فهي مدن أخرى بعيدة عنا.. تناقض ظالم ما بين حياة الكاريان و«المدينة» مثل الفرق بين الجنة والنار..
ـ أكيد أنك ستكون سعيدا بلقاء الإخوان اليوم..
خطفني «الأخ» بسرعة فائقة من جولة فكرية في عالم التناقضات بين الكاريان والأحياء الجميلة للمدينة.. أجبته دون أن ألتفت إليه:
ـ نعم أخي.. هذا معروف لن أنساه لك أبدا.. سيجازيك عنه الله أوفر الجزاء.. لكني أشعر بنوع من الخوف أو الدهشة.. هذا عالم أتعرف إليه لأول مرة في حياتي..
ـ لا تخشى شيئا.. هؤلاء إخوانك في الدين سيحرصون على لقائك ومساعدتك والتعاون معك في عبادة الله والتقرب إليه وتخليص الناس من الجهالة وعبادة الأوثان..
سبق أن قرأت في أدبيات «الإخوان» أن الأصنام ليست هي تلك التي كان يعبدها الكفار في الجاهلية الأولى.. هناك أوثان جديدة أخرى يعتكف حولها أهل الجاهلية الجديدة مثل حب المال والسلطة والأشخاص والنساء وغيرها كثير..
أما «أدبيات» الحياة، فعلمتني في ما بعد، أن الحركات والتنظيمات الإسلامية وأحزابها السياسية وزعماءها وقادتها تحولت هي أيضا إلى أصنام تُعبد.. وأضرحة يُتمسح بعتباتها ويُتبرك بها.. وأوثان يَطلب ودَّها المتملقون والمنافقون والمأجورون..
طرق «أبو أيمن» الباب.. استقبلنا «أبو إيمان» بالعناق والضرب على الأكتاف.. شاب متوسط القامة.. لحيته كثة.. يلبس الهندام الإداري.. مع قميص شديد البياض.. نظر إلي مبتسما:
ـ مرحبا بالأخ فلان.. تفضل..
ـ الله يزيد فضلك..
أجبته ونحن نتتبع خطاه نحو صالة ضيقة وسط الدار.. استقبلنا كل أعضاء «الجلسة» بالضم على الصدر والضرب على الظهر.. جلست بجانب «أبو أيمن» في صدر المجلس.. يبدو من جلسته وطريقة كلامه أنه هو رئيس هذه الجلسة.. أو أنه يترأسها عندما يحضرها..
قدمني «الأخ» للحاضرين:
ـ هذا أخوكم في الله «فلان» يسكن بجوار أمي في الكاريان.. شاب يحب المسجد.. يكره الظلم.. يغار على دينه غيرة شديدة.. يحمل هموم أمتنا.. ومتحمس جدا ليكون المؤمنون هم «الأعلون» في هذه الأرض.. سأتركه يعرفكم هو بنفسه..
شعرت باضطراب نفسي شديد.. ارتفع ضغط الدم في عروقي.. تسارعت دقات قلبي حتى خلت أنها ستنفلت من بين ضلوعي.. جفَّ اللعاب.. وبدأ حديثي متقطعا لا أتحكم في مخارج الحروف ولا أضبط الكلمات.. انقطعت عن الدراسة في مستهل الثانوي.. ودراساتي كلها عصامية.. قرأت كل شيء دون ترتيب أو منهج.. ماذا أقول؟؟ أنظر إلى أعضاء «الجلسة»، فأجدهم تقريبا على هيئة واحدة.. يبدو من ملامحهم أنهم نخبة مثقفة وحاصلة على دبلومات عليا.. شعرت بسخونة شديدة في أذني.. وأخيرا نطقت:
ـ أخوكم في الله فلان.. أسكن بالكاريان.. أنا لست من سكان المدينة.. قدمت أنا وأسرتي من الضواحي.. أتمنى أن أكون عونا لكم على تحمل مسؤولية إقامة الدين ونصرة المظلومين..
استفدت كثيرا من أدبيات الإخوان المسلمين.. تعلمت الحديث واستعرت الفكر منهم.. فكر «اجتره» الإسلاميون في كل أنحاء العالم في فترة من الفترات.. فمرشدهم هو «البنا» وقبله رشيد رضا وجاء من بعدهما آخرون.. فكر مستنسخ تحفظه القلوب وتلوكه الألسنة.. ولم يفكر «الإسلاميون» في تغيير أفكارهم إلا بعد أحداث 11 شتنبر بأمريكا وأحداث 16 ماي بالمغرب.. حينها تعالت الأصوات أنه لا بد من المراجعة وتجديد الفكر.. ولم يحدث شيء من ذلك.. كانت مجرد مراجعات وهمية لم تخرج عن الأصول المرجعية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى