الرأي

اكتشفت الشمس

شامة

اليوم الاثنين، سوف تستيقظ باكرا، عابس الوجه، والعقل، وسوف تتجه إلى مقر عملك، أو إلى مدرستك، أو ستظل في المنزل، ستستقبل يوم الاثنين بنفس النبرة التي يستقبل بها مواطنو العالم هذا اليوم من الأسبوع، ستفعل كل هذا لأنك اعتدت على فعله، ولأنك لا تعرف أن الإنسان بطبعه يصاب بالعدوى، العدوى من سلوك يكرره أمامه الكثيرون، لذلك أنت وهم، لا تعرف أنك وأنت تفعل كل هذا، لم تكتشف بعد عنصرا مهما في هذا الكون اسمه الشمس، حتى وإن كنت الآن تمشي، أو تجلس، تحت أشعتها.
هذا ما حدث لي وأنا أختار الاثنين من الأسبوع الماضي أن أكسر الروتين الذي عودت عليه نفسي منذ سنوات، منذ تلك السنوات التي قررت فيها أن أتوقف عن العمل موظفة تنتظر راتبها في آخر الشهر، وأن أصبح مديرة نفسي. أول قرار اتخذته هو أن أخصص يوم الاثنين، وبالذات صبيحته، يوم عطلة، نكاية في الرأسمالية والاشتراكية، وفي كل تلك الأنظمة التي تفرض علينا قوانينها، لكني لسبب لا أعرفه قررت أن أكسر هذا الروتين الذي كان لوقت قريب انتصارا لي ضد قوانين صاحب السلطة، وأن أغادر منزلي يوم الاثنين، وصباحا، ولم أكن أعرف أني وقتها سوف أكتشف اكتشافا مهما اسمه الشمس.
غادرت منزلي في العاشرة صباحا، لمحت من خلف زجاج نافذة غرفتي أن الطقس مشمس، وأنا لا أحب الشمس، ولدت في أواخر أيام الشتاء، لذلك أحببت دوما السماء وهي رمادية، وأحببتها أكثر وهي تذرف مطرا، ومع ذلك قررت أن أحقق رغبتي في أن أعيش يوم الاثنين بطعم مختلف. ركبت سيارتي، قدتها لبضعة أمتار، وأوقفتها في ذاك المرأب الشاسع الذي اعتدت أن أتركها فيه، وأن أبدأ منه المشي على ضفاف النهر. وضعت قبعة رياضية على رأسي ووجهي عابس لأني لا أحب الشمس، وأقول لنفسي لو أنها كانت تمطر لما غطيت رأسي، ولتركت المطر يبلل شعري وملابسي. حملت مفاتيح السيارة بين أصابعي ألهو بها، فقد قررت ترك هاتفي في السيارة، وألا أستعمله ولو من أجل سماع الموسيقى أثناء المشي، شيء ما داخلي كان يريد أن يثور على كل تلك التفاصيل الصغيرة التي اعتدت على القيام بها، وحين خطوت خطوات قليلة، شعرت بأشعة الشمس تداعب وجهي، وللحظة وجدت وجهي الذي كان عابسا متجهما تفتر شفتاه عن ابتسامة خفيفة، ثم باتت الابتسامة الخفيفة عريضة، ثم وجدت نفسي أنزع قبعتي عن رأسي، ووجدتني أحرر شعري من تلك الضفيرة الصغيرة التي قيدته فيها، ووجدت خطواتي التي كانت متثاقلة تراقص الأرض، ووجدتني أقاوم رغبة شديدة في الضحك، وفي الركض في أرجاء المكان، شعرت للحظة أن الشمس تلاعبني الغميضة، وقاومت الانجراف وراء هذا الإحساس، وحين استوقفني أحد الموظفين بالمكان الذي اعتاد إلقاء التحية علي كلما قابلني، قلت له وكأني أسر له بأمر خطير: «لقد اكتشفت الشمس»، قهقه الفتى، فقلت له: «سوف أكتب مقالا عن اكتشافي وستفهم ماذا أقصد»، وأكملت خطواتي، أو اكتشافي لهذا الكائن الذي نعيش معه ويعيش معنا، دون أن نكون فعلا قد تعرفنا عليه.
تقول الدراسات الطبية إن نساء المغرب يصبن بهشاشة العظام بسبب نقص الكالسيوم، وفيتامين دي في أجسامهن، وإنه مهما تناولن من أدوية لا شيء سيعوض قدرة الشمس في توفير هذا الفيتامين، وقدرته على حماية عظامهن من الهشاشة، وأن ربع إلى نصف ساعة من التعرض للشمس في ساعات الصباح، أو الساعات الأخيرة من العشية، كفيل بتزويدهن بما يكفي من فوائد الشمس التي لا تحصى.
وتقول الدراسات الطبية، أيضا، إن التعرض للشمس واحد من الأدوية الطبيعية لعلاج الاكتئاب الذي يعد مرضا عضويا ذا أعراض نفسية. وتقول الدراسات، أيضا، إن سكان المناطق المشمسة يكونون أقل عرضة للأمراض من سكان المناطق التي تفتقر للشمس.
الدراسات تقول الكثير، والأسفار أخبرتني بالكثير، في رحلة إلى بروكسيل قال لي سائق التاكسي وكان إيرانيا: «أنا لا أحب بروكسيل، السماء هنا رمادية، وقلوب الناس هنا أيضا رمادية». وفي برلين، قال لي صديق ألماني: «لقد زرت اليمن، الناس هناك فقراء، لكن الشمس تشرق في قلوبهم»، نفس الصديق قال لي مازحا: «إنه يريد من ميركل أن تعلن الحرب على المغرب من أجل الحصول على الشمس، وحملها إلى ألمانيا المعتمة». وفي واشنطن، كانت السماء تمطر ثلجا، وكانت قدماي ترتجفان بردا، حين اتصل بي أخي قلت له: «هلا أرسلت لي قليلا من الشمس أنا أموت بردا هنا، لقد اشتقت للشمس». وحين عدت من كندا من أول هجرة لي إليها، قلت لأصدقائي إن أكثر ما افتقدته وأنا هناك هو مشهد البائع وهو يقف بعربة الفواكه في الشارع تحت أشعة الشمس، قلت لهم في كندا كنت أشعر بالقرف من الدخول إلى متجر منار بالكثير من المصابيح لاقتناء قطعة بطيخ مغطاة بالبلاستيك. وفي استوكهولم، وأنا أدرس هناك، قررت مديرة البرنامج أن نتناول غداءنا خارج الجدران، وأن نهجم على الحديقة، ونفترش الأرض، ونستمتع بوجبتنا تحت أشعة الشمس، هناك تأملت بسعادة الشبان وهم يستلقون على ظهورهم، ويطالعون كتبا، ويستمتعون بالشمس.
اكتشفت أني طوال هذه السنوات، ووسط الدراسات، وخلال الرحلات، لم أكتشف الشمس كما اكتشفتها صبيحة الاثنين الماضي، وأن كل يوم من حياتنا نضيعه دون أن نستلقي تحت أشعة الشمس ولو لربع ساعة، وأن ندعها تداعب وجوهنا، وترسم الابتسامة على شفاهنا، وتلاعبنا الغميضة، هو يوم ضائع يجب استرجاعه، كما نضيع لحظات عمرنا في التذمر من يوم الاثنين، في حين أنه يكفي أن نستمتع بلحظات الشمس في ذاك اليوم، لنتذكر أنه ليس إلا يوم كباقي الأيام، وأن أيامنا الضائعة هي تلك التي نمضيها دون أن نكتشف الشمس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى