
ليست الرسائل المتبادلة بين الحكام والقادة في ما بينهم وليدة الديبلوماسية الحديثة، بل هي وليدة زمن بعيد، فعلى امتداد التاريخ الإسلامي، تبادل الحكام والأمراء المسلمون مع أعدائهم أو أصدقائهم من الملوك الأجانب رسائل كثيرة، بل إن الموفدين كانت لهم قصص ذاع صيتها خاصة حين يتعرضون لمصاعب وإكراهات قد تصل إلى حد التصفية.
لكن مع مرور الأيام تغير نمط التواصل عبر المراسلات الرسمية بين الحكام، وأصبح الموفد الرسمي شخصية وازنة، بعد أن ظل لقرون مجرد ساعي بريد من درجة أولى، يقتصر دوره على تبليغ خطاب مكتوب وانتظار جواب دون أن يكون على بينة بفحوى ومضمون الخطاب.
الآن تغيرت الأمور، وأصبحت المراسلة آلية من آليات العمل الديبلوماسي، لها رجالاتها الذين يتم انتقاؤهم بعناية وغالبا ما تكون لهم خيوط رفيعة مع الحاكم المرسل إليه، ولها أيضا محرروها الذين يجيدون صناعة الكلمات ويختارون العبارات التي تنوب عن الكلام الشفوي.
في تاريخ المغرب الحديث لقاءات تاريخية بين الرباط والجزائر، تخللتها رسائل خالدة لا تزال حاضرة في أدبيات العمل السياسي والديبلوماسي، ليس لقوة كلماتها وعباراتها أو لأسلوبها البلاغي الراقي، بل لأثرها المباشر على العلاقات بين البلدين، ورد فعلها السريع ومساهمتها في تغيير مسار التاريخ، بل إن كثيرا من الموفدين ساهموا في تلطيف الأجواء بين بلدين كانا على فوهة بركان.
في خطاب العرش، جدد الملك محمد السادس التأكيد على موقف المغرب الداعي إلى حوار أخوي وصادق مع الجزائر، مؤكدا في خطاب العرش الذي ألقاه على أن الشعب الجزائري شعب شقيق، وأن المغرب سيظل دائما يمد يده لتجاوز الوضع الحالي.
وأكد الملك أن الالتزام باليد الممدودة ينبع من “الإيمان بوحدة شعوبنا، وقدرتنا على تجاوز هذا الوضع المؤسف”.
في هذا الملف تتوقف “الأخبار” عند أبرز مبادرات تذويب جليد الخلاف بين المغرب وجارته الشرقية، والرسائل التي حملها موفدو الملوك الثلاث لقادة الجزائر.
بوعلام بالسايح سفير جزائري بالرباط.. وشهد شاهد من أهلها
كشف إبراهيم روماني المستشار السياسي للسفير الجزائري السابق بالمغرب بوعلام بالسايح في كتابه: “عشر سنوات مع الديبلوماسي والسياسي المثقف”، عن حقائق تاريخية تتعلق بالعلاقات المغربية الجزائرية، بحكم اشتغاله في سفارة الجزائر في الرباط ولقاءاته مع كثير من السياسيين المغاربة.
وقال إبراهيم إن السفير بوعلام كان معجبا بشخصية الملك الحسن الثاني، وأنه ظل على امتداد فترة عمله كسفير للجزائر في المغرب حريصا على تليين المواقف بين البلدين، وتلطيف مناخ العلاقات بين الرباط والجزائر، كما كان يقول لموظفي السفارة “إننا هنا في مهمة سياسية وليست ديبلوماسية”. وأشار روماني من خلال لقاء جمعه بإدريس البصري وزير الداخلية الأسبق بمنزل هذا الأخير، إلى رضى الملك على تعيين بوعلام سفيرا للجزائر، خاصة وأن هذا الأخير يعد من المقربين جدا للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
وفي موضوع اختطاف طائرة القادة الخمسة الجزائريين في أكتوبر 1956 ودور الراحل الحسن الثاني، في هذه الواقعة، أوضح روماني في كتابه، أنه التقى القيادي المغربي عبد الكريم الخطيب ودار بينهما حديث حول دور ملك المغرب الحسن الثاني، الذي كان آنذاك وليا للعهد في اختطاف طائرة القادة الجزائريين إبان الثورة.
وقال روماني إن عبد الكريم الخطيب برأ الملك الحسن الثاني رغم أنه كان واسع الاطلاع بشؤون الدولة وكان على علاقة وطيدة بمسؤولي أجهزة الاستخبارات في الرباط، مضيفا أن الخطيب ذكر أن الملك “تألم كثيرا لحادث اختطاف فرنسا للطائرة التي كان على متنها عدد من قادة الثورة ورأى فيها مساسا بسيادة المغرب وكرامة ضيوفه الجزائريين.
وأضاف الخطيب بحسب ما جاء في كتاب روماني، أن رد فعل الملك الراحل الحسن الثاني كان قويا وشجاعا إذ هدد بقطع العلاقات مع فرنسا لكنه لم يستطع تنفيذ تهديده في ظل ظروف داخلية صعبة، كان أنصار فرنسا متحكمين في زمام الدولة ولديه حكومة يتعاطف بعض أعضائها مع باريس.
يذكر أن اسم السفير الجزائري قد أطلق بعد رحيله على أكبر دار للثقافة في الجزائر، على اعتبار أن الرجل كان من أكبر مثقفي الجارة الشرقية.
الحسن الثاني يهدي حكومة بن بلة سيارات ألمانية الصنع
في أول زيارة للملك الحسن الثاني إلى الجزائر عقب حصولها على الاستقلال، وتحديدا ما بين 13 و15 مارس 1963، سلم العاهل المغربي لنظيره الجزائري مجموعة من السيارات، لكن تم تأويل هذه المساعدة التي قدمها المغرب للبلد الحديث الاستقلال، على نحو آخر.
روى عبد الهادي بوطالب في حوارات “نصف قرن تحت مجهر السياسة” خص بها صحيفة “الشرق الأوسط”، تفاصيل الاجتماع والأجواء الباردة التي ميزته وانقباض الرئيس بن بلة، رغم أن هذا الأخير هو من وجه الدعوة للملك الذي كان قد أعلن عن زيارة وشيكة إلى الولايات المتحدة تلبية لدعوة الرئيس الأمريكي، لكنه أخرها وأعطى الأسبقية لزيارة الجزائر.
يقول بوطالب: “رافقته بوصفي وزير الإعلام والشباب والرياضة. وأتاحت لي هذه المرافقة أن أتعرف على الجزائر لأول مرة. أعد الملك الحسن الثاني كل ما يلزم لتعكس زيارته مشاعر المودة والأخوة والتعاطف المتأصلة بين شعبي المغرب والجزائر، وحرص على أن يحس القادة الجزائريون بدفء حرارة العواطف المخلصة التي يكنها لهم ملك المغرب، ففجر منها شحنات دافقة بالعطف، وأطلق للإعراب عنها يده سخية مِعطاءة حيث حمل معه متنوع الهدايا، وكان من بينها 23 سيارة مرسيدس من النوع الكبير جاءت من مصانعها بألمانيا إلى المغرب ليلة الزيارة، فوضعها في خدمة الوزراء الجزائريين الثلاثة والعشرين الذين كانوا يشكلون حكومة بن بلة.
تقبل الرئيس الجزائري الهدية على مضض، “لم يضحك بن بلة قط ولا ابتسم، إلا مرة واحدة خلال لقاء لم يحضره الملك الحسن الثاني تحلَق فيه حوله الوفد المغربي والوفد الجزائري في جلسة استراحة واسترخاء، حين بادر عبد الكريم الخطيب وزير الدولة في الشؤون الأفريقية، الذي رافق الملك إلى ارتجال نكتة حين قال: “ألا تفكرون فخامة الرئيس في إدخال تعديل على حكومتكم أعتبره منطقيا، إذ به تضعون الرجل الصالح في المكان الصالح، فتسندون وزارة تربية المواشي إلى الوزير بومعزة، ووزارة التموين إلى الوزير بوخبزة، وتضعون الوزير بومنجل في وزارة الفلاحة، والوزير بوتفليقة على رأس الأمن. وكانوا جميعهم على رأس وزارات أخرى. فتوزعت مشاعر الرئيس، بين كبح الغضب وفهم بلاغة النكتة، فاحمر وجهه، وتزحزحت شفتاه في مشروع ابتسامة لم تقو على شق طريقها”.
لكن الساعة التي ضحك فيها بن بلة، هي التي جمعته بالحسن الثاني في ملعب 20 غشت 1955، حين تابعا سويا مباراة لكرة القدم، حيث كان أحمد سعيدا بلقاء ملك يتقاسم معه عشق كرة القدم، علما أن الرئيس الجزائري الراحل حمل قميص مارسيليا الفرنسي.
محمد السادس يساهم في إصلاح ميناء الجزائر
أشعرت الخارجية المغربية نظيرتها الجزائرية بموافقة الملك محمد السادس حضور قمة الدول العربية في الجزائر سنة 2005 عبر الباخرة، وهو ما استنفر السلطات الجزائرية التي شرعت في تهيئة ميناء الجزائر الذي لم يكن جاهزا لاستقبال البواخر الناقلة للمسافرين إذ اقتصر على رصيف البواخر التجارية.
كان عامة الجزائريين ممنوعين من دخول الميناء منذ أكثر من عشر سنوات، لكن حين علم المسؤولون بإصرار ملك المغرب على الحضور إلى القمة على متن باخرة استنفروا كل إمكانياتهم في أشغال تهيئة جديدة للأرصفة وتزيين لمرافقه الخدماتية، حتى يكون في مستوى ضيف الجزائر الذي كان المتتبعون للشأن المغاربي يعلقون على حضوره القمة العربية آمالا كبيرة، خاصة في ظل في حالة التشنج بين البلدين على خلفية النزاع حول ملف الصحراء، بالأخص ما يتعلق بنتائج القمة الثنائية التي لم يحدد مكان انعقادها، التي من المنتظر أن تجمع الرئيس بوتفليقة والملك محمد السادس على هامش أشغال القمة العربية، والتي كتب لها أن تعقد بدون جدول أعمال.
فوجئ المنظمون بالإقبال الجماهيري على الميناء، إذ اصطف جموع المواطنين الجزائريين من سكان العاصمة، غير بعيد عن ميناء الجزائر في انتظار مراسيم استقبال العاهل المغربي الملك محمد السادس، في لحظات اعتبروها تاريخية، واعتقدوا أنها قد تفتح عهدا سياسيا جديدا من التقارب بين الجارتين الشقيقتين.
وشجعت عطلة الربيع المدرسية والطقس الجميل الذي تزامن مع أول أيام الربيع، العائلات الجزائرية للتوجه بقوة نحو ميناء الجزائر، وهم يتذكرون الملك المغربي الحسن الثاني الذي حلّ ذات يوم من عام 1988 بالجزائر عبر البحر بباخرته الملكية الفاخرة بهدف المشاركة في قمة زرالدة التي أسست لدعائم اتحاد المغرب العربي المجمدة هياكله، لكن العاهل المغربي محمد السادس فضل في آخر لحظة السفر جوا إلى الجزائر مباشرة من باريس، بعدما كان منتظرا أن يحل بالعاصمة الجزائر عبر بوابة الميناء بسفينته الملكية مثلما تردد قبيل القمة.
الحسن الثاني يرسل كتيبة عسكرية للمشاركة في عيد استقلال الجزائر
قامت كتيبة من مدرسة أهرمومو باستعراض عسكري في العاصمة الجزائرية، بدعوة من الجزائر وموافقة من الحسن الثاني.
في مطلع سنة 1970، أغلب المشاركين في الاستعراض الذي شهدته العاصمة الجزائرية بمناسبة عيد الاستقلال، شاركوا في انقلاب الصخيرات بعد سنة أي في 1971، ونالت التجريدة المغربية تصفيقات الجماهير الجزائرية التي حضرت الاستعراض الحاشد.
يقول محمد متقي الله، رئيس جمعية ضحايا أهرمومو: “لقد قمنا بتدريب قبل الاستعراض وقمنا بمعاينة مكان الاستعراض الذين كان قريبا من كورنيش المدينة، ونلنا تصفيقات الحاضرين بعد الأداء الرائع للكتيبة المغربية التي كانت مدربة في مدرسة أهرمومو التي كان يشرف عليها حينها الضابط أمقران”.
حمل أمقران هدايا إلى القيادة العسكرية الجزائرية، عبارة عن مجسم لمدفع، وقال أمين وزارة الدفاع الجزائرية ساخرا وهو يتسلم الهدية: “هذه هدية ملغومة لاحظوا أن فوهة المدفع مصوبة نحو الشرق أي الجزائر”، فضحك الجميع.
يقول الشادلي بن جديد في مذكراته إن هذه المرحلة تميزت بالاحترام المتبادل وحسن الجوار وتجنب الطرفين لهجة التصعيد. من مظاهر هذه السياسة الجدية تكليف بومدين كبار ضباطه بالمشاركة في الاستعراض العسكري الضخم الذي أقيم في الرباط: “كنت جالسا إلى يمين الملك الحسن الثاني داخل قمريته، وكان شقيقه مولاي عبد الله إلى يساره. اندهشت الوفود الأجنبية الأخرى لحفاوة الاستقبال والمقام الرفيع الذي خصنا به الملك. فلم يكن مألوفا أن يجلس أي وفد أجنبي جنب الملك، مهما عظم مقامه وسمت صفة تمثيله. وكان أحد الجنرالات واقفا إلى يميني إلى الخلف قليلا. كلفه الملك بأن يشرح لي ويعلق على مجريات الاستعراض الذي شاركت فيه تشكيلة عسكرية جزائرية. خلال تلك الزيارة قلدني الملك وساما ملكيا. ومن أطرف ما حدث خلالها هو أن حامل العلم الوطني، ضابط الصف شقيقي عبد المالك بن جديد. رفض تنكيس العلم الوطني لدى مرور الملك أمام التشكيلة العسكرية الجزائرية، وحين سئل عن سبب ذلك أجاب: “العلم الذي ضحى من أجله مليون ونصف المليون شهيد لا ينكس”.
يرصد الشادلي جوانب من هذه الظرفية في مذكراته حين يقول: “عاد التوتر إلى العلاقات الجزائرية المغربية، إلا أن البلدين تجاوزا حالة الحرب رغم الحملات الإعلامية المتبادلة. لا غالب ولا مغلوب ديبلوماسيا. ولم يتم اللقاء الذي كان مرتقبا في بروكسيل بين الرئيس هواري بومدين والملك الحسن الثاني. وفي نهاية شتنبر علمنا بمرض الرئيس بومدين بعد عودته من اجتماع جبهة الصمود والتصدي في دمشق. وفي 27 من الشهر نفسه، توفي الرجل. وظلت الوضعية متأزمة إلى أن التقيت الملك الحسن الثاني على الحدود في 26 فبراير 1983 وقررنا إعادة فتح الحدود بين البلدين التي ظلت مغلقة منذ 1975”.
حين طلب الحسن الثاني من وفد مغربي العودة من الجزائر
قال عبد العزيز المسيوي، أحد أبرز الوجوه السياسية التي ارتبط اسمها بحزب الاتحاد الدستوري، والموفد من الملك الحسن الثاني إلى الجزائر للتحضير لقمة عربية، حين كان مساعدا لكاتب الدولة مكلفا بالعلاقات مع اتحاد المغرب العربي:
“كنت مكلفا بملف المغرب العربي، إلا أن الأجواء لم تكن مساعدة لتحريك الأطراف. أذكر أنني كنت في الجزائر في إطار اجتماع اللجنة التحضيرية لعقد قمة بين القادة سنة 1996، وألقيت كلمة ركزت فيها على أننا على استعداد لتحريك المغرب العربي، وكلنا آفاق لتغيير الوضع داخل المغرب العربي. شاركنا في اللجنة التحضيرية إلى أن جاءني عبد الكريم السمار، السفير المغربي الذي كان معتمدا لدى الجزائر، ووضعني في موقف حرج، عندما قال لي: يجب أن تسافر إلى المغرب على متن أول طائرة. هذه أوامر الرباط. سألته عن موعد إقلاع أول طائرة من مطار بومدين في العاصمة الجزائرية، فقال السفير المغربي إنها تقلع في الساعة الثالثة بعد الظهر، فقلت له: كيف يمكن تبرير غيابي واللجنة التحضيرية تختتم أشغالها في العاشرة من مساء نفس اليوم؟ فقال لي: تظاهر أنك مريض. قلت له إذا تظاهرت أنني مريض فالوفود كلها ستزورني، فقال لي السفير: تصرف.. أنا أنقل إليك تعليمات الرباط. قلت له: من سيحضر في الاختتام؟ فقال إنه سيحضر بصفته سفيرا، وقد كلف من الرباط بالحضور”.
يضيف لمسيوي أنه قضى الليل كله يفكر في الحل لمغادرة اللجنة التحضيرية المجتمعة في إقامة تؤوي الجميع في المبيت والاجتماعات، وفي الصباح الباكر جمع حقائبه وأخبر السفير برغبته في الذهاب إلى السفارة إلى حين موعد مغادرة الطائرة.
حطت الطائرة في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، ومن داخل سيارته اتصل المسيوي بالطيب الفاسي الفهري، كاتب الدولة في الخارجية آنذاك، فأخبره بعودته وسألته إن كانوا في حاجة إليه، فنفى ذلك.
في اليوم الموالي علم بأن وزير الخارجية الجزائري قد أساء إلى المغرب في مؤتمر انعقد في نيروبي، ولما بلغ إلى علم الملك الراحل ما قاله السفير الجزائري سأل عن المسيوي، فقيل له إنه في اللجنة التحضيرية، فقال لهم الملك “قولوا له أن يدخل”، وهكذا عاد ممثل المغرب من الجزائر على عجل.
السنوسي: بومدين تلقى خبر المسيرة الخضراء بانزعاج
عاش أحمد السنوسي سفير المغرب في الجزائر ، في منتصف السبعينات، حالة استنفار قصوى، بل إن الوزير أحمد باحنيني زار الجزائر والتقى رفقة السفير بالرئيس الجزائري الهواري بومدين وأشعراه بعزم المغرب على الزحف السلمي نحو الصحراء. “رافقت الحاج باحنيني ولاحظت أن الجزائريين استقبلوا قرار المسيرة الخضراء بـ”الزعف”، إذ غضب منا الرئيس بومدين، كان عنيفا وتساءل كيف ستواجهون 350 ألف نسمة نحو الصحراء؟ وبأي طريقة؟ وما معنى ذلك؟ ققلنا له إن كل الترتيبات تم اتخاذها والاستراتيجية مدروسة ونحن متيقنون بأن المسيرة ستمر في أحسن الظروف”. لكن الجزائريين لم يكونوا متحمسين لقرار المسيرة الخضراء.
وتحدث الصحفي الفرنسي، جون دانييل، مدير مجلة “لونوفيل أو بسرفاتور” عن قلق الجزائر من موفدي الملك الحسن الثاني، وعن الفترة الحرجة في العلاقات المغربية الجزائرية، وهو الذي كان بصدد إجراء حوار مع بومدين، في نفس اللحظة التي كان فيها الحسن الثاني يعطي إشارة انطلاق المسيرة الخضراء.
“لم يكن بومدين يخفي غضبه دون أن يظهره بشكل حاد. كان متحكما في نفسه إلى أن ظهر الحسن الثاني على الشاشة وهو يلقي الخطاب، تغيرت ملامح بومدين وامتزجت على وجهه ابتسامة عصبية بتوتر شديد. في لحظة تحدث الحسن الثاني عن الجزائر بود، فأرسل بومدين شتيمة باللغة العربية، وأمام ذهولي رفع يده اليمنى نحو صورة الحسن الثاني على الشاشة في حركة غير لائقة”.
وفي اليوم الموالي دعي السفير المغربي إلى خارجية بوتفليقة لتقديم استفسارات تافهة.
الحسن الثاني يعيد بوضياف للجزائر على طائرة مغربية
تسببت عودة محمد بوضياف إلى الجزائر على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية المغربية في احتقان داخلي لمعارضي عودته، واعتبروا الأمر رسالة مشفرة للجزائريين، تقول إن الجزائر ستصبح ملحقة شرقية للمغرب.
بعد اعتقاله في الجنوب الجزائري لمدة ثلاثة أشهر، اختار محمد بوضياف المنفى في المغرب حيث واصل نشاطا معارضا ضد نظامي الرئيسين بن بلة وبومدين. وبعد أن استحوذ الإسلاميون على الحكم قررت القيادات السياسية في الجزائر اللجوء إلى بوضياف ودعوته للمساهمة في إنقاذ البلاد من الفراغ السياسي. إثر إيقاف المسار الانتخابي وتقرر استدعاؤه ومنحه شرف رئاسة البلاد. كان الرجل يقيم في مدينة القنيطرة شمال العاصمة الرباط، حيث يشرف على إدارة مصنعه المختص في إنتاج الآجور، وكان مترددا في تلبية مقترح رفاق دربه، ولكن ضغوطات عائلية شجعته على قبول ما كان قد رفضه في 1962. توجه إلى المغرب قائدان جزائريان لإقناعه بجدوى العودة ومسك خيوط الحكم وهما علي هارون وأبو بكر بلقايد وكانا من أعز أصدقائه، قالوا له أنت “الرجل الذي تحتاجه وتنتظره الجزائر، كل الجزائر”. كان من الصعب إقناع بوضياف الذي قضى 28 سنة، معارضا لحكم بن بلة ثم بومدين، وبعد وفاة هذا الأخير خفت صوته تماما، وحل حزب الشعب الذي كان يرأسه، وقرر التفرغ والاعتناء بأسرته وإدارة مصنعه.
استقدم بوضياف إلى الجزائر العاصمة، سرا وعلى عجل، للقاء كبار الجنرالات. قبل أن يستقبل رسميا في 16 يناير، استقبال الرؤساء، كان الجنرالات قد استقدموه لكسر شوكة الإسلاميين الذين فازوا بالانتخابات لكنه خرج عن طوعهم، لكنه فاجأ الجميع في أول تصريح له بالمطار، حين قال إنه جاء لمحاربة المفسدين كيفما كانت انتماءاتهم.
اغتيل بوضياف في 29 يونيو 1992، بقصر الثقافة وهو في تجمع خطابي، صنفت القضية في خانة جرائم التصفية السياسية، وسجلت ضد ملازم عسكري، لكن النخب الجزائرية أجمعت أن القتل كان مدبرا، وأن القياديين الذين جاؤوا ببوضياف هم الذين قتلوه.
حسب تصريحات أحمد عصمان فإن زوجة الرئيس الراحل محمد بوضياف، كانت تتصل به بشكل مستمر قبل عودة زوجها إلى الجزائر، وكانت تترجاه أن يطلب من الملك الحسن الثاني ثنيه عن العودة إلى بلاده، لأنها كانت متأكدة أنهم سيقتلونه بمجرد عودته وذلك ما حدث بالفعل. لكن كثيرا من القيادات الجزائرية عبأت مناوئيه حين اعتبرت وصوله إلى الجزائر على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية الجوية المغربية رسالة إلى من يهمه الأمر تقول مضامينها إن الحسن الثاني هو المحتضن الرسمي للرئيس الجديد وأن الرباط عثرت على الرئيس المناسب للمنصب المناسب للظرف السياسي المناسب.
بوطالب يفشل في نزع الفتيل قبل حرب الرمال
يعد المستشار الملكي عبد الهادي بوطالب شاهدا على مجموعة من محطات محاولات ترسيم الحدود بين الجارين، وشاهدا أيضا على أكثر من مبادرة الأيدي الممدودة.
في حوار أجرته صحيفة الشرق الأوسط مع بوطالب، حول أزمة الحدود ما بين المغرب والجزائر، قال موفد الملك للزميل حاتم بطيوي: إن مشكل الحدود بين البلدين كأن أول أزمة بين المغرب والجزائر بعد إلحاق فرنسا لأجزاء من تراب المغرب بالجزائر، في عملية حسابية سياسية استعمارية عندما كانت تراهن على إدامة احتلالها للجزائر كجزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي، فتقتطع من المغرب أرض الحماية المؤقتة لتضيفها للجزائر.
وفي الاجتماع الذي جرى على انفراد بين الملك الحسن الثاني والرئيس أحمد بن بلة أثناء الزيارة طلب هذا الأخير من الملك أن يؤخر بحث موضوع الحدود إلى حين استكمال الجزائر إقامة المؤسسات الدستورية، وتسلمه مقاليد السلطة بوصفه رئيس الدولة الجزائرية المنتخب، مخاطبا بالأخص الملك بعبارة حافلة بالدلالات: “ثقوا أن الجزائريين لن يكونوا بطبيعة الحال مجرد وارثين للتركة الاستعمارية في موضوع الحدود المغربية. ومباشرة بعد نهاية زيارة الحسن الثاني شنت الصحافة الجزائرية حملة إعلامية على المغرب تتهم فيها المخزن المغربي بالوقوف وراء الإضرابات التي شهدتها منطقة القبائل”.
استيقظنا على دوي أنباء عن مهاجمة الجيش الجزائري غدرا لمركزي “حاسي بيضا” و”تينجوب” على الحدود المغربية الجزائرية ولم يكن حولها نزاع، بل كانا أثناء الهجوم خاضعين للسلطة المغربية وتحت الحراسة المغربية.
تلاحقت الأحداث بسلوك الجزائر سبيل التصعيد. فلم يمر إلا يوم واحد على لقاء وزيري خارجية المغرب والجزائر بوجدة وصدور بلاغ الوفاق، حتى عرف إقليم وجدة الممتد شرقا إلى التراب الجزائري هجوما مباغتا قام به الجيش الجزائري، هذه المرة بكيفية سافرة.
بعث الحسن الثاني ببرقية احتجاج للرئيس بن بلة يدين فيها الهجوم الجزائري ويستفسر عن الأسباب لكن البرقية ظلت بدون رد.
ظل الحسن الثاني متمسكا بالحوار، ومستنفدا وسائل التفاهم بالحسنى، فبعث إلى الرئيس بن بلة وفدا يتكون من أحمد بلافريج وعبد الهادي بوطالب، “لم نجد من الرئيس استعدادا لحوار بناء. وعدنا لنخبر الحسن الثاني بفشل مسعانا فالرئيس كان يعتبر المغرب المسؤول وحده عن تطور أحداث الحدود، ثم عاد الملك فأرسلني مرة أخرى إلى الرئيس بن بلة وبرفقتي مدير ديوانه العسكري الكومندان محمد المذبوح، في مهمة تستهدف تحسيس الرئيس الجزائري بخطورة الموقف، وحمله على إيقاف مسلسل الاعتداءات والتحديات”.
وعن هذه الواقعة، قال الحسن الثاني في مؤتمره الصحافي: “استدعيت وزيري في الإعلام عبد الهادي بوطالب ومدير ديواني العسكري وقلت لهما: اذهبا للتحدث باسمي لدى الرئيس بن بلة وأطلعاه على الخريطة. قولا له إن حاسي بيضا وتينجوب كانتا دائما ترابين مغربيين لا نزاع عليهما”.
انتظر بوطالب فتح أقفال الرئيس وأن يقدم تطمينات عن نوايا الجزائر والوعد باحترام التزاماتها في المستقبل، “لم يسعفني الرئيس ببارقة مهدئة لجو التشنج الذي كانت تبدو ملامحه فوق وجهه، واندفع يطلق لسانه بما يفضح طوايا صدره”.





