قصة العربي السامي يحكيها ابنه لـ«الأخبار» في ذكرى اغتياله
كواليس أشهر الاغتيالات بعد تسليم المقاومين سلاحهم في يوليوز 1956

يونس جنوحي
التاسع والعشرون من يوليوز 1956، لم يكن يوما عاديا. اهتزت الدار البيضاء على خبر اغتيال المقاوم الكبير العربي السامي، وابن أخته، متزعم تنظيم الهلال الأسود، وكان برفقتهما مقاوم آخر.
رصاصة أصابت العربي السامي وأردته فورا، بينما الحداوي لم يمت إلا بعد أن أفرغ فيه منفذو العملية المحسوبون على الدائرة الأمنية السابعة «الساتيام»، وابلا من الرصاص.
ظهيرة ذلك اليوم القائظ حملت الخبر فورا إلى الرباط.. تحركت الهواتف، خصوصا وأن الراحلين كانا قد حظيا باستقبال ملكي في الصباح، ساعات فقط قبل الاغتيال، وتناولا وجبة الغداء في منزل وزير الداخلية، الحسن اليوسي.
من كانت له مصلحة في إزالة رجل مثل العربي السامي، أحد أوائل الوطنيين المغاربة في الدار البيضاء؟ ابنه عبد الرحمن السامي يستعيد معنا مشاهد قوية من الذاكرة، رغم أنه ودع والده وهو لا يزال طفلا لم يتجاوز الثامنة.
+++++++++++++++++
اليوم الأسود الذي اغتيل فيه السامي والحداوي على طريقة «الأفلام»
لا يزال عبد الرحمن السامي، الإطار والخبير المتقاعد، يتذكر اليوم الذي اغتيل فيه والده، رغم أن سنه وقتها (29 يوليوز 1956) لم تكن تتجاوز ثماني سنوات.
فتح عبد الرحمن السامي عينيه في منزل كثير الأفراد. والده، الوطني والمقاوم المعروف العربي السامي، أحد أغنى أعيان الدار البيضاء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، متزوج من أربع نساء، ولديه 12 ابنا..
يحكي عبد الرحمن السامي عن يوم الاغتيال:
«في الليلة التي سبقت الاغتيال لم يكن والدي يقضي الليلة معنا، فقد ذهب إلى مدينة الرباط، بحكم أن لديه موعدا في القصر الملكي، ويُنتظر أن يستقبله الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن، بمعية ابن أخته عبد الله الحداوي، متزعم منظمة الهلال الأسود، لكي يسلما معا السلاح الذي يملكانه، في إطار حملة تسليم سلاح المقاومة وجيش التحرير..
في تلك الليلة، أي في الساعات الأولى من يوم 29 يوليوز، كنا نياما في منزلنا الكائن في زنقة صفرو، وكان يحمل رقم 8..
والدتي عائشة الزرهوني، لم تكن في المنزل ليلتها، وكنت رفقة إخوتي الصغار تحت رعاية زوجات الأب الأخريات.
لا زلت إلى اليوم أستعيد صوت وقع أقدام في الزقاق، استيقظت من نومي مذعورا على إثره. ومباشرة بعد ذلك الصوت المرعب، تناهى إلى أسماعنا صوت طرق عنيف على الباب. نهضت زوجة أبي فطومة بلفقيه، وسألت من الطارق، فأجابها أحدهم بأنه يرغب في لقاء والدي سي العربي.
أجابته زوجة أبي أنه ليس في المنزل، وسمعنا وقع أقدامهم وهم يبتعدون. لكن سرعان ما عاد واحد منهم، وأعاد طرق الباب مرة أخرى، وأخبر زوجة أبي أنه يحمل ظرفا مهما جدا يريد تسليمه إلى والدي يدا بيد.
أجابته زوجة والدي أن هناك علبة للبريد، وطلبت منه أن يضع الظرف هناك.. لكنه تعلل بأن الصندوق معطل ولا يمكن فتحه. وبدأ يؤكد على الحاجة فطومة بأن الطرد الذي يريد تسليمه كبير.. وما أن واربت الباب لكي تتسلمه منه، وفي غمرة هذا الحديث، حتى اقتحم علينا المنزل مجموعة من المسلحين، وطوقوا البيت سريعا وجعلونا نقف ووجوهنا إلى الحائط.
كنت طفلا في الثامنة، ولم يراعوا أننا أطفال صغار ونساء فقط.
عاشت العائلة – الزوجتان فطومة بلفقيه وحبيبة السلهامي، والأبناء الثمانية- ساعات من الرعب، حيث أجبرنا على الوقوف لساعات طويلة ووجوهنا للحائط وأيدينا مرفوعة، وتعرضنا للشتائم والإهانات. وتعرضت سيدة مسنة كانت تزورنا للضرب على ظهرها بكعب البندقية، عندما لم تستطع الوقوف.
صعد فريق من المسلحين إلى الأعلى، حيث كان يوجد مكتب الوالد، وبقينا نحن في الأسفل، وتوزع بقيتهم على أركان المنزل، تأهبا لدخول أي شخص من خارج المنزل لكي يردوه قتيلا في الحال. كانوا يسيرون وفق خطة مدروسة..
بعد ساعتين ونحن على تلك الحال، أمرني أحدهم أن أحضر له كوب ماء، وأصعد به إلى الطابق العلوي.. ولصغر سني، فقد كان يسيطر عليّ الخوف، وأستعيد مشهد صعودي الدرج بوضوح شديد وكأنه البارحة.. فقد كانت الكأس ترتعد في يدي، وأفرغت نصفها بسبب الخوف.
لكن الصدمة كانت تنتظرني عندما بلغت الدور العلوي، ووجدت المكان كله قد عبثت به أيادي المعتدين. فقد أتلفوا كل الصور ونهبوا كل الخزانات، ومزقوا الكتب، وكسروا إطارات الصور وأسقطوها أرضا. وسرقوا سجلا كان والدي يُدون فيه أسماء المقاومين من أعضاء الخلايا السرية بدقة.. هذا السجل كان يحمل أسماء وتواريخ تتعلق بعمليات المقاومة، وكان التخلص منه ضروريا بالنسبة إليهم.
ونحن على تلك الحال، رن هاتف مكتب والدي، قرابة الحادية عشرة صباحا تقريبا، وأجاب أحد المعتدين. لم تدم المكالمة إلا ثواني معدودات، وأخبر زملاءه أن «العملية قد تمت». لقد صفى زملاؤهم والدي في تلك اللحظة».
يحكي عبد الرحمن السامي قائلا إن المهاجمين انسحبوا، وتركوا وراءهم المنزل في حالة من الفوضى..
لم تدر النساء والأطفال المتبقون في المنزل، ما يفعلونه.. وفي خضم الحيرة، خرج الجميع إلى الشارع. يواصل عبد الرحمن السامي في حديثه الحصري لـ«الأخبار»:
«خرجنا لا نهيم على شيء. تفرقنا وكان همنا الابتعاد عن المنزل، مخافة أن يعودوا إلينا مرة أخرى..
لم أدر إلى أين أتجه أنا وإخوتي الأشقاء.. زوجات والدي الأخريات تفرقن بدورهن، وكل واحدة منهن اصطحبت أبناءها معها.
وأنا في تلك الحال، وسني لا تتعدى ثماني سنوات، أجر معي إخوتي الثلاثة، ولا توجد وسيلة لكي أتصل بأمي التي كانت في سفر إلى البادية. تذكرت خالتي «طامو» التي كانت تعيش في الحي المحمدي، واتجهت صوب گراج علال، وبحكم أنني لم أكن أحمل أي مال، فقد طلبت من رجل يسوق عربة «كارّو» أن يُقلنا معه.. وفعلا أوصلنا.
كنا نعرف أن والدي قد استشهد، فقد كانت زوجات والدي متأكدات بدورهن، وإلا لما غادرن المنزل».
مسرح الجريمة..
تم اللقاء مع الملك الراحل محمد الخامس، في صباح يوم 29 يوليوز 1956.
غادر العربي السامي، وعبد الله الحداوي، وشاب آخر كان يرافقهما، القصر الملكي في الرباط، واتجه الثلاثة إلى منزل اليوسي، وزير الداخلية، الذي كان صديقا حميما للعربي السامي، لتناول وجبة الغداء في منزل الوزير الواقع في بطانة بمدينة سلا.
عندما انتهت المأدبة، اتجه العربي السامي إلى مقهى «باليما»، وهناك تلقى تحذيرا من صديقه. هذا الأخير أخبره أنه لمح وجوها تراقبه وتتبع خطواته أولا بأول، وترجاه أن يصحبه إلى منزله في القنيطرة.. لكنه لم يفعل، وفضل مواصلة الطريق في اتجاه الدار البيضاء.
يحكي الابن عبد الرحمن السامي الذي جمع التفاصيل في ما بعدُ:
«لقد حكى لي الراحل بوبكر اجضاهيم، والذي كان حاضرا في مأدبة الغداء بمنزل الوزير اليوسي، أن والدي بمجرد أن غادر رفقة الحداوي، حتى تحرك الضيوف الآخرون، وهم «بارجو» والأخوان «سفيران»، وكانا معروفين بلقب سفيران 1 وسفيران 2، وأحمد الطويل الشهير، والمهدي الناموسي.
يحكي لي أبو بكر اجضاهيم رحمه الله، أن سيارة هؤلاء كانت تتبع العربي السامي طيلة الطريق إلى الدار البيضاء، وأكد للعائلة أنه نزل في المحمدية، بحكم التزام عائلي، وترك الآخرين يواصلون الرحلة إلى الدار البيضاء.
عندما وصل العربي السامي إلى منطقة عين السبع، بالضبط في قلب الزنقة القريبة من حديقة الحيوانات، باغتوه بكمين محكم، وأطلقوا النار بشكل عشوائي. تعرض والدي، الذي كان يجلس في كرسي السائق، لإصابة مباشرة في العين، وقتل الراكب الخلفي، بينما أصيب الحداوي بجروح بالغة، وحاول مقاومتهم، لكنه لم يكن يحمل سلاحا يُسعفه.. وصُفي لاحقا بعد أن أفرغوا فيه وابلا من الرصاص عن طريق رشاش».
يقول عبد الرحمن السامي، استنادا إلى المحاضر الرسمية، إن الجريمة كانت شنعاء، وخلفت استياء واسعا. ويؤكد أن ابن عمته الحداوي، ما كان ليستسلم نهائيا، فقد ذكرت تقارير البوليس الفرنسي أيام الحماية، أن «عبد الله الحداوي من نخبة الرماة». وكان المهاجمون يعرفون هذا الأمر جيدا. ولولا أن الحداوي لم يسلم رشاشه في إطار تسليم سلاح الخلايا السرية، لربما أصاب الذين هاجموه وتبادل معهم إطلاق النار.
الملك استقبل العائلة بعد الاغتيال.. وهذه قصة صفة «أبناء الشهداء»
يقول عبد الرحمن السامي: «بعد أيام من الجريمة، استقبل مدير الديوان الملكي، سي أحمد بناني، أرملة الشهيد وابنه، وقدم إليهما تعازي الملك الشخصية، مؤكدا أن الأمة كلها فقدت مناضلا كبيرا، كان يدافع عن الوطن والملكية حتى النفس الأخير، وغرس هذه الروح في أبنائه.
كما تلقت الأرملة تعازي القائد اليوسي وإدريس السلاوي، عامل الدار البيضاء، خلال تسليمهم أغراض الشهيد، مع الإشارة إلى أنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
وقد تم تكريمه بعد وفاته بوسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الأولى، وقلده إياه أحد أفراد الأسرة الملكية».
الأرملة المقصودة هنا، هي عائشة الزرهوني، والتي كانت متعلمة وعلى درجة عالية من الثقافة، بحكم أنها تلقت تكوينا عصريا على يد «الأخوات» الفرنسيات، قبل زواجها من العربي السامي.
يصفها ابنها عبد الرحمن السامي قائلا: «نحن خمسة أبناء أنجبهم العربي السامي مع والدتي رحمهما الله. كانت تلبس الحايك وتغطي وجهها، لكنها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، حتى أنها كانت تتولى شرح مضامين مقالات صحيفة «لاكسيون»، التي كان يصدرها بن الحسن الوزاني، لوالدي وتناقشها معه.
ولعل أقوى ما حكته لنا الوالدة، أنها عندما كانت برفقة والدي داخل سيارته في الدار البيضاء، توقف والدي عند الإشارة، وكان في الاتجاه المقابل مواطن فرنسي ينتظر في سيارته.. لكنه لم يتحمل مدة الانتظار، ونزل من سيارته واتجه نحو والدي وخاطبه بالفرنسية، قائلا ما معناه إنه سئم من انتظار والدي لكي يتقدم في الطريق. فما كان من والدتي رحمها الله إلا أن أجابته بفرنسية أنيقة خالية من الأخطاء: – وأنتم يا سيدي، متى سوف تتحركون من بلادنا وتغادرونها؟ لقد مرت 32 سنة ونحن ننتظركم لتغادروا!».
يقول عبد الرحمن السامي إن والدته، بهذه الشخصية المميزة، عاشت مع العربي السامي محن السجن والاختطاف والنفي أيام الحماية، قبل أن تعيش محنة استشهاده وترك أطفاله الصغار يتامى..
استجمعت الأرملة قواها، بعد علمها بخبر استشهاد الزوج، وحضنت أبناءها وحافظت على ذكرى الوالد الشهيد.
يحكي عبد الرحمن السامي، عن سياق تأسيس جمعية أبناء وأسر شهداء الاستقلال، قائلا إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يخصهم بعناية خاصة. يقول: «عندما توفي الملك الراحل الحسن الثاني في يوليوز 1999، توجهنا إلى القصر الملكي لتقديم واجب العزاء إلى الملك محمد السادس حفظه الله. وكنا:
عبد الرحمن السامي، ابن الشهيد العربي السامي، الكاتب العام للجمعية. أحمد الزرقطوني، أخ الشهيد الزرقطوني. وابن الشهيد حمان الفطواكي، وفريد الزيراوي، وفؤاد السلاوي، ابن بن الراضي السلاوي، ثم الراحل أبو بكر اجضاهيم، ابن المقاوم محمد اجضاهيم الذي قُتل بدوره.
كان جلالة الملك محمد السادس يوجد في مدينة وجدة عندما خصنا باستقبال، وقد أوصى جلالته المندوب السامي للمقاومة، السيد مصطفى الكثيري، بأن يحافظ على الذاكرة الوطنية، وسألنا جلالته عن واقع أسر المقاومين وأرامل الشهداء والأيتام.. وحفنا حفظه الله بعنايته الكريمة».
يتساءل عبد الرحمن السامي الآن عن مآل الذاكرة الوطنية، وذكرى أبطال المقاومة وجيش التحرير، خصوصا وأن كتابات كثيرة يتهمها المعنيون بـ«تقويض الحقائق»، وتغييب عدد من الأسماء التي بذلت أرواحها في معركة التحرير.
+++++++++++++++++
«الهراوية».. أمّ الشهيد تزعمت أول مظاهرة نسائية مغربية سنة 1907
لا يمكن معرفة المقاوم العربي السامي، دون التعرف على ملامح والدته، الشهيرة في الدار البيضاء باسم «فاطنة الهراوية»، بحكم أنها تنحدر من منطقة الهروايين، وتزوجت والد العربي السامي في فترة مبكرة من حياتها، وانتقلت إلى الدار البيضاء، قبل القصف الفرنسي الشهير لسنة 1907 بسنوات.
كانت «فاطنة الهراوية» تقيم في قلب المدينة القديمة، في المنزل الملاصق لـ«المگانة» الشهيرة التي تؤثث قلب الدار البيضاء.
عندما هاجمت القبائل مدينة الدار البيضاء، قبل الحماية الفرنسية، كادت أن تُرتكب مجزرة على يد قطاع الطرق الذين استغلوا الحدث. إذ تعرض اليهود المغاربة من أبناء المدينة القديمة لهجوم على يد بعض المحسوبين على القبائل الثائرة، زمن السيبة.. وخرجت فاطنة الهرواية لكي تدافع عن النساء اليهوديات اللواتي تعرضن لهجوم في قلب منازلهن، وكانت تصرخ مستنكرة ما يقع..
لكن أقوى المحطات النضالية في حياة والدة العربي السامي، تلك التي تتعلق بأحداث 1907، التي سبقت القصف الفرنسي الشهير للمدينة، بشهر تقريبا.
يحكي عبد الرحمن بن العربي السامي، في حديث خاص لـ«الأخبار»، وهو يستعيد هذه اللحظات من تاريخ العائلة: «كانت جدتي الحاجة فاطنة الهراوية تتمتع بشخصية قوية، ومؤثرة، كانت معروفة في أوساط سكان الدار البيضاء القدامى..
فتحت الحاجة فاطنة الهراوية أبواب منزلها بـ«باب مراكش»، شارع «سافيتري» حاليا، «خراز البالي» في شارع مولاي الطاهر العلوي، لعلاج الجرحى. كما دافعت عن الجيران من الديانة اليهودية الذين تعرضوا لهجوم من بعض البدو القادمين من منطقة الشاوية.
ومن أقوى المحطات في حياتها، تلك التي تتعلق بأحداث صيف سنة 1907.. إذ بعكس ما روج له بعض الباحثين، كون الدار البيضاء لم تعرف أي عمل مقاومة ضد الوجود الفرنسي في المغرب، إلا في أربعينيات القرن الماضي، فإن أول عمل حقيقي عبر فيه سكان الدار البيضاء عن رفضهم لفرنسا، يعود إلى بداية صيف سنة 1907. وكانت «فاطنة الهراوية»، بحكم مكانتها بين سكان المدينة القديمة، خصوصا من النساء، تزعمت أول مظاهرة نسائية خرجت للتنديد بـ«ريح» الاستعمار التي بدأت تهب صوب المغرب من ناحية مدينة وجدة.
اندلعت الأحداث أولا بشن هجوم على عمال السكة الحديدية، التي كانت فرنسا تُنشئها في بداية مشروع الخط السككي.
المثير أن جدتي رحمها الله كانت في عز تزعمها لمسيرة النساء والمساعدة في علاج الجرحى والمصابين من الأزواج بعد الاشتباك، حاملا بوالدي العربي السامي، الذي أنجبته يوم 16 يوليوز 1907.
عُرفت جدتي بانتمائها إلى منطقة الهراويين، إحدى المناطق الأولى التي شكلت نواة سكان الدار البيضاء خلال القرن الماضي، إلى جانب قبيلة «لهجاجمة».
بفضل جدتي رحمها الله، حافظ والدي على علاقة وطيدة بأصوله في العالم القروي. وذلك لسببين: أولهما أن والدته الحاجة فاطنة الهراوية كانت تمتلك ضيعة كبيرة في تيط مليل، قرب معمل صوماكا، وأتذكر أننا كنا نقضي فيها وباستمرار يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع. والسبب الثاني أن أعمام والدتي كانوا قد استقروا بأحواز مدينة الجديدة بالقرب من مكان سجن العاذر، حيث كانوا يربون الخيول والماشية ويعملون على تسمين العجول، وبالتالي كان والدي بعد أن صاهرهم سنة 1946، يقضي وقتا طويلا بهذه المنطقة، أو بمنطقة لهيالمة بجوار الولي الصالح سيدي عبد العزيز، حيث كانت تقيم والدة زوجته. وكانت تلك فرصة سانحة لربط اتصالات بفلاحي المنطقة. وكان يشرف على توعيتهم ويوزع عليهم صور السلطان سيدي محمد بن يوسف لتعليقها في مكان بادٍ للعيان. وحيث كانت المساكن عبارة عن خيام فقد صار أعضاء القبيلة يعلقون هذه الصور في ما يعرف بالخالفة».
لقاءات مع «السلطان» بالبيضاء والنشاط الوطني قاد «العربي» إلى سجن اغبيلة
كان امتلاك أول مدرسة لتعليم السياقة في الدار البيضاء – تتوفر العائلة على وثائق تثبت أن ترخيص تأسيس مدرسة السياقة أول ترخيص يُمنح لمغربي- وفي المغرب، غطاء مناسبا للتغطية على النشاط الوطني. فقد كان العربي السامي يستغل امتلاك سيارة تعليم السياقة، لكي ينفرد بعدد من الشخصيات في إطار التعبئة والتجييش الوطني، وتنظيم الأنشطة الوطنية، خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
حتى أن الملك الراحل محمد الخامس، عندما كان يحل في الدار البيضاء في أربعينيات القرن الماضي، كان العربي السامي من بين الأشخاص الذين يلتقيهم الملك الراحل في قلب القصر الملكي بالدار البيضاء. وكان السامي يحضر إلى القصر بسيارة تعليم السياقة التي كانت تشكل تمويها حول النشاط الحقيقي الذي يمارسه، ويستقبله الملك الراحل رفقة شخصيات أخرى من الدار البيضاء، دون إثارة انتباه المخبرين الفرنسيين ومسؤولي الإقامة العامة، الذين كانوا يراقبون اتصالات الملك الراحل ويمارسون نوعا من التضييق على علاقته بالوطنيين.
يحكي الابن عبد الرحمن السامي عن والده: «وقد اعتُقل الشهيد العربي السامي عدة مرات حتى ألف السجن. فكانت عدته لذلك لبدة الصلاة والسبحة والمصحف الكريم، إضافة إلى جلباب من الصوف وطربوش وطني فاقع اللون وأتذكر، وأنا طفل، بعض المشاهد من عدة اعتقالات بداية من اعتقاله بعد تزعمه للمظاهرة مع الشعب التونسي، بعد اغتيال النقابي فرحات حشاد.
..وقبع في مخافر البوليس الفرنسي، وفي سجن «غبيّلة» سيئ السمعة. وتروي أرملته الحاجة عائشة الزرهونية أن الشرطة الفرنسية استدعتها رفقة أبنائها للحضور إلى المخفر لاستلام جثمان الشهيد، الذي تُرك مُلقى فوق الأرض، بعد انتهاء حصص التعذيب. لكنها عندما وصلت، وجدت جسده ما زال يتحرك قليلا، كان يحرك سبابته ويتمتم بالشهادة.
استفاق لاحقا في منزله، وأول ما فعله هو قراءة الفاتحة على روح صديقه المقاوم حميدو الوطني، فقد كان يعتقد أنه توفي تحت التعذيب. لكنه عندما علم بأن صديقه نجا، شعر بالارتياح».
علاقة العربي السامي بالمقاوم احميدو الوطني بلغت أوجها، عندما شاركا معا في تأسيس أول شركة مغربية في الدار البيضاء، مملوكة للمغاربة، وهي شركة «شعاع الدار البيضاء» التي كانت متخصصة في صناعة القطع الحديدية للمحركات والآلات الميكانيكية. كما أن العربي السامي كان أيضا شريكا للمقاوم الكبير إبراهيم الروداني، وكانوا يشكلون جميعا نخبة الأعيان الذين مولوا الحركة الوطنية والأنشطة التي تدعو علنا إلى رفض سياسة فرنسا في المغرب.
يواصل عبد الرحمن السامي تسليط الضوء على جوانب خفية من شخصية والده: «وكان الشهيد يعتني بالعلم والمعرفة، حريصا على أن ينال الشباب المغربي أعلى الدرجات المعرفية، وكان يشجعهم على المشاركة في كل ما من شأنه أن يظهر نوابغهم.. سيما وقد كان مكلفا من لدن الحزب – حزب الاستقلال- بالمنح المدرسية. وكم من شاب مغربي تمكن من استكمال دراسته خارج المملكة، إما بالشرق العربي أو بأوروبا.
نذكر منهم الأديب والصحافي المقتدر أحمد زياد الذي يتساءل الكل عن مذكراته التي سلمها أبناؤه إلى مندوب المقاومة، واختفت دون يجدوا لها أثرا. والمعطي بوعبيد، المحامي والوزير الأول في الثمانينيات، والذي ساعده لكي يدرس في مدينة بوردو الفرنسية، والسي عبد اللطيف السرغيني الذي ساعده للدراسة في إنجلترا، وسي محمد البدوي الذي كان من أوائل ربابنة الطائرات التجارية بالخطوط الملكية المغربية، بعد أن تَكَوَّنَ بسوريا على الطائرات الحربية، وانتقل بتوجيه من الشهيد إلى مدينة تولوز بفرنسا للتدرب على الطائرات التجارية».
إمام بالمسجد المحمدي.. تأسيس أول مدرسة لتعليم السياقة والمنفى
كان العربي السامي الابن الأكبر بين إخوته. اضطر إلى مغادرة جامع القرويين مبكرا، حيث كان يتم تعليمه، لكي يتفرغ لرعاية شؤون الأسرة، بعد وفاة الوالد.
«مشروع عالم»، هكذا كان العربي السامي عندما غادر إلى القرويين في فاس، بداية عشرينيات القرن الماضي. وهذه الجزئية سوف تلعب دورا مهما في حياته، إذ إنه اشتغل إماما في المسجد المحمدي – مسجد الأحباس- وحافظ على صداقة متينة جدا، واستثنائية مع شيخ الإسلام، مولاي العربي العلوي.
عندما عاد العربي السامي إلى الدار البيضاء، توجه نحو المقاومة، مستغلا مشاريع العائلة التي تركها والده الراحل، لتجنيد التجار والحرفيين والعمال ونشر الوعي الوطني بينهم، وكان نشاطه هذا في أوجه، بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
يحكي عبد الرحمن السامي، مسترجعا بعض ملامح بدايات والده في المقاومة: «استثمر الشهيد كل مهنة أو نشاط في سبيل استقطاب المقاومين، فأنشأ أول مدرسة لتعليم السياقة بالمغرب، مما مكنه من استقطاب شباب من الجنسين وتدريبهم على استعمال السلاح في غابة «لارميطاج» بالدار البيضاء، بمساعدة ابني أخته، الشهيدين محمد حداوي وعبد الله حداوي، اللذين تلقيا بدورهما تدريبات على الأسلحة من المقاوم سيدي عبد القادر بوزار، الذي تولى لاحقا مهمة تدريب المقاومين في شمال المملكة».
يستعيد عبد الرحمن السامي بعض الذكريات التي يتذكرها وهو طفل، والتي تعود إلى منتصف الخمسينيات – كان في عمر الثامنة عندما اغتيل والده سنة 1956- والمتعلقة بأجواء منزل الأسرة، حيث رأى النور في كنف والده العربي السامي، المتزوج من أربع نساء:
«بصفته مسؤولا عن أول دائرة لحزب الاستقلال بدرب البلدية في الدار البيضاء، كان الشهيد العربي السامي يتكفل بعائلات الشهداء والمعتقلين، حيث كانوا يتسلمون قفف المواد الأساسية يوميا من منزله رقم 8، زنقة صفرو، بالدار البيضاء.
كان الشهيد العربي السامي أول من نظم احتفالا بعيد العرش بمدينة سطات إلى جانب الوطنيين العربي الزوانات ومحمد سربوت، ما أدى إلى اعتقاله ونفيه من الدار البيضاء أولا إلى آزمور، ثم إلى «البروج» قرب سطات، فبني مسكين، حيث بقي هناك إلى أن عاد الملك محمد الخامس إلى عرشه».
يواصل عبد الرحمن السامي: «كنت طفلا في السادسة من عمري، عندما ذهبت والدتي رحمها الله للبحث عن والدي، بعد اختفائه. إذ لم نكن نعلم أنه معتقل لدى الفرنسيين. توجهت والدتي إلى ما كان يعرف وقتها بـ«بيرو عرب»، واحتجت لدى الموظف الفرنسي الذي صُدم عندما اكتشف أنها تتحدث الفرنسية بطلاقة، فوالدتي رحمها الله قبل أن يتزوجها الوالد، تتلمذت على يد الراهبات «الأخوات»، الفرنسيات، وهناك تعلمت الفرنسية.
وعد الموظف المسؤول عن المكتب والدتي بإبلاغها عن مكان والدي، لكي تتسنى لها زيارته، وانتهت المقابلة.
وفعلا ذهبنا إلى زيارته في المكان الذي نُفي إليه، في أزمور.
ومن حسن حظه أن المسؤول آنذاك على هذا المعتقل كان أحد الوطنيين الأفذاذ وكان يناصر الفدائيين. وهو الحاج بوشعيب السلهامي الأزموري، وكان يضمن الوالد عند الحاكم الفرنسي ليستضيفه ببيته بين أفراد عائلته إلى أن تم الإفراج عنه..
لا زلت أذكر الرحلة إلى اليوم. فقد وجدناه يقيم في بناية شبه مهجورة، في ظروف عصيبة، واستقبلنا رحمه الله بتأثر، وقضينا معه اليوم كاملا، وفي المساء ودعناه وعدنا أدراجنا إلى الدار البيضاء. وأتذكر صورته جيدا وهو يقف ليشيعنا، وكنت أنظر إليه من المرآة الجانبية للسيارة، ولم يتحرك من مكانه، إلا عندما ابتعدت بنا السيارة تماما».
من يحفظ ذكرى شهداء تصفيات 1956؟
رغم مرور قرابة سبعة عقود على الأحداث، لا يزال ملف المقاومين والوطنيين الذين جرت تصفيتهم على يد «بوليس» الدائرة السابعة المعروفة بـ«الساتيام»، شائكا، ويحيط به اللبس والغموض.
ليس ملف العربي السامي، الحالة الوحيدة لاغتيالات قياديي الصف الأول من الوطنيين مباشرة بعد تسليم سلاح الخلايا التي كانوا يشرفون عليها، إلى القصر الملكي مباشرة، وليس إلى أقطاب جيش التحرير المتصارعين في إطار صراع الأجنحة، بل هناك ملفات أخرى لا يزال يحيط بها الغموض.
تقول بعض «المصادر» التي تحدثنا إليها، إن الملك الراحل محمد الخامس أمر بفتح تحقيق جاد في الموضوع، وحث مسؤولي الداخلية والأمن على إعداد تقرير مفصل وجرد بالمشتبه فيهم، وملخص شامل لأسباب الصراع بين الأقطاب. لكن الأحداث المتسارعة، والتي كادت تخرج عن السيطرة بإجماع الشهود، كانت أسرع من محاولات وقف النزيف..
إلى حدود سنة 1960، كانت شظايا صراع الأجنحة ما زالت تصيب بعض المقاومين والوطنيين، بسبب علاقاتهم مع من صاروا منبوذين بعد الاستقلال.
في حالة العربي السامي مثلا، كان الرجل يوجد في المكان الخطأ، لكن في التوقيت الصحيح. فجل المصادر تؤكد أن المقصود من وراء الاغتيال كان هو ابن أخته الحداوي، مؤسس المنظمة السرية الهلال الأسود، والذي كان فريق «الساتيام» يرى أنه يجب أن يُزال بأي طريقة من المشهد..
حتى أن بعض الذين عاشوا تلك الأحداث، أكدوا لاحقا للعائلة أن «بوليس الساتيام»، الذين لم يكن لأغلبهم أي علاقة بالمقاومة، كانوا يتربصون لأشهر بعبد الله الحداوي، ويهرعون إلى رشاشاتهم كلما وصل إليهم خبر وجوده في محيط الدائرة السابعة.
اغتيال الحداوي كان متوقعا.. لكن اغتيال العربي السامي خلف استياء واسعا، سيما وأن الرجل كان من «أصحاب اليد البيضاء» على عدد من مقاومي الدار البيضاء.
كان الهدف من وراء الاغتيالات، إتلاف كل ما من شأنه أن يوثق لأنشطة المقاومة التي ارتبطت بها أسماء الضحايا. وقد اكتشفت العائلات هذا الأمر لاحقا، عندما جرى إحصاء المقاومين وأسر الشهداء. وكم كانت صدمة أغلبهم كبيرة، عندما اكتشفوا أن العمليات الفدائية التي يعرف جميع من عاشوا الأحداث ارتباطها بهؤلاء الشهداء، صارت فجأة مسجلة بأسماء «مقاومين» طارئين. حتى أن بعض العمليات الفدائية الشهيرة ما بين سنتي 1954 و1955، يدعي أكثر من شخص أنه كان وراءها، أو «هندس» لتنفيذها، وهو ما جعل هذه الروايات متضاربة.. ويتضح في الأخير أن الاغتيالات كان الهدف منها إزالة الأسماء التي قد تُفشل مخطط «سرقة الذاكرة الجماعية»، وليس «ذاكرة العائلات» فحسب.





