الرأي

بنية الدولة وعمودها الفقري من الآلة العسكرية

بقلم: خالص جلبي

أحدثت النتائج التي خرج بها علم النفس من المدرسة الأمريكية في الستينات من القرن الماضي، ذعرا بين المطلعين عن أثر الانصياع للأوامر في إمكانية ممارسة التعذيب ضد الإنسان، وعرضت السينما الفرنسية التجربة في فيلم «اغتيال رئيس». حيث وضع رجلان في التجربة، يمتحن الأول آخر مربوطا على كرسي ومتصلا بأسلاك كهربائية، فإذا فشل في الإجابة عن السؤال عاقبه الممتحِن بلسعة كهربائية قابلة للزيادة، مع تكرار الخطأ. لقد أظهرت التجربة أمرين في غاية الخطورة: إمكانية أن يتحول الإنسان السائل إلى وحش تعذيب حقيقي يرفع الفولتاج إلى 450 فولتا، والثاني أن تكرار التجربة على شرائح شتى من الناس، أثبت أن 60 في المائة منهم قابلون للسقوط في هذه الوهدة من الانحطاط الإنساني.
والواقع يروي كيف أن كل جيوش العالم مختزلة بإرادة الأفراد، وأن الجندي عليه أن ينفذ أولا قبل الاعتراض، في استباحة أي شيء، في مخالفة جوهرية لتعاليم الأنبياء (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). إن الجندي عنده استعداد أن يفعل كل محرم وآثم وإجرامي، تحت مبرر «هكذا جاءت الأوامر».
وفي الحرب العالمية الثانية كرر عتاة الغستابو من النظام النازي المسوغ نفسه في محاكمات (نورمبرغ) لمجرمي الحرب: (كانت أوامر علينا تنفيذها). في الواقع لا يبقى جيش من جيوش العالم الحديثة متماسكا لو طبق تعاليم الأنبياء، لأن سر الانضباط والتماسك في البنى العسكرية هو في إلغاء (الإرادة الفردية) و (الاستقلالية) و(التفكير) و(الاعتراض). إن بنية الفرقة العسكرية تتلاشى عندما (يفكر) الأفراد على نحو (مستقل)، أو يعلنوا (عدم الطاعة) في الحملات العسكرية اللاأخلاقية. إن الانضباط العسكري يقوم على تحويل المجموعة من البشر إلى كتلة لحمية منضدة جاهزة للضرب كالمطرقة في أي اتجاه وضد أي كائن. ويعتبر (روجي غارودي) في كتابه «نحو رقي المرأة»، أن هذا الانحراف في مسيرة البشرية كان خلف بناء المؤسسات العسكرية (الذكورية)، ودفع المرأة إلى شريحة دونية مستضعفة، طالما كان الحكم للعضلات والسيف وليس الفهم والرحمة، بل وبناء كل نمط الحياة على شكل ثكنات و(هيراركي) مثل الجيش يقوم على التراتبية وتلقي الأوامر التي لا مرد لها ولا اعتراض. ومهمة الأنبياء كانت في تحرير إرادة الإنسان من (علاقات القوة)، وهذا هو لب التوحيد. وهذا يفتح عيوننا على بنية الدولة وعمودها الفقري من الآلة العسكرية.
إن (علم النفس الاجتماعي) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) حاولا فهم عدة ظواهر إنسانية مثل (الدولة) و(المجتمع) و( الحضارة)، وكيف ولدت ومتى حدث هذا في التاريخ؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحياة بدأت قبل 3,8 مليارات سنة، فإن سفر الوجود يظهر لنا الإنسان في الصفحة الأخيرة من كتاب مكون من ألف صفحة، كما أظهرت الكشوفات الأخيرة في الحبشة على يد (تيم وايت)، عن أقدم إنسان أخذ اسم (أرديبيثيكوس راميدوس ARDIPITHICUS RAMIDUS) قبل 4,6 ملايين سنة. وإذا كانت رحلة الإنسان على ظهر الكوكب قد بدأت قبل خمسة ملايين من السنين، فإن الحضارة بدورها لا تظهر إلا في الصفحة الأخيرة من مجلد ضخم مكون من ألف صفحة؛ فقد بزغت أولى الحضارت قبل ستة آلاف سنة، في جنوب العراق، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ (توينبي) في كتابه «الإنسانية من أين؟ وإلى أين؟». أما الكتابة فقد اخترعت قبل خمسة آلاف سنة، وبدأ (جوتنبرغ) في استخدام مطبعته قبل 500 سنة. وسخر الناس البخار قبل 200 سنة والكهرباء قبل 120 سنة، أما كل التقنيات الإلكترونية الحديثة فعمرها لا يتجاوز عقودا قليلة. أما ثورة الاتصالات والمعلومات فعمرها عشر سنوات. وينفعنا هذا التسلسل للإطلال على بانوراما من التطور الإنساني واكتشاف مكان (الدولة) ضمن تعاقب الأحداث، وأن عمرها قصير فهي مؤسسة سياسية ولدت مع مجتمع المدينة وتقسيم العمل.
إن اختراع (الدولة) كان تتويجا لولادة المجتمع الإنساني، بعد بزوغ ما لا يقل عن ثلاثين حضارة من رحم 600 مجتمع بدائي. ويرى (ابن خلدون) أن المجتمع الإنساني يشكل (ضرورة) انطلاقا من حجتين (تأمين الغذاء) و(نظام الحماية)، وتحت المبرر الثاني نشأت مؤسسة العنف بكل أذرعها من الجيش والبوليس والاستخبارات. كذلك يفيدنا علم (الأنثروبولوجيا)، كما جاء في كتاب «بنو الإنسان» لمؤلفه (بيتر فارب)، بأن الثورة الزراعية حررت الإنسان من الجوع للمرة الأولى في تاريخه، وكان ذلك قبل تسعة آلاف سنة. فمع اكتشاف المرأة للشجرة ونظام الزراعة كما أشار إلى ذلك (ديورانت) في «قصة الحضارة» حصلت وفرة في الغذاء، وبدأت أعداد البشر تتزايد والمدن تعمر والأنظمة السياسية في الولادة. ومع ولادة النظام السياسي ولد (عنف الدولة). فبقدر ما كان إشباع حاجات الإنسان (الاقتصادية) من السلع والخدمات يتم بطرق سلمية، فإن الفعالية السياسية هي على النقيض من ذلك، وتمارس بالضغط على الآخرين. وبتعبير عالم الاجتماع (ماكس فيبر) في كتابه «الاقتصاد والمجتمع» في وصفه للدولة أنها: «تحتكر العنف الجسدي الشرعي». ومع احتكار الدولة (آلة العنف) ظهرت (القوانين) التي تنظم علاقات الأفراد. يرى (بيير فيو): «أن الإضاءة التي تسلطها العلوم الإنسانية على العنف غنية بالعبر، لأن العنف ليس حادثا عابرا، بل هو وضع مألوف من التوترات والمجابهات. ولأن العلاقات الإنسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات، وبذلك يكمن العنف كتهديد دائم قابل للانفجار دوما». إن مشكلة وجود الإنسان في المجتمع كما يقول (لالاند) في كتاب «المجتمع والعنف»: «إن الإنسان شخص مستقل يحدد بنفسه القوانين التي يخضع لها، وإن المجتمع جماعة منظمة تطالب أعضاءها باحترام عدد معين من القواعد والإكراهات، وإن وضع الإنسان النزاعي يلخص بالتوازن غير المستقر والضروري لهذين المطلبين المتضاربين».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى