تراث ذهب مع الريح
من يذكر «باب العرفان» عند مدخل المعاهد الجامعية في الرباط، تتملكه الحسرة على مآله وهدمه، رغم أنه أصبح من معالم العاصمة التي بدأت تنقرض تحت ضربات زحف الإسمنت. ولئن كانت ضرورات توسيع المدخل، في نطاق شبكة مواصلات عصرية اقتضت هدم تلك البوابة ذات الطراز المعماري التقليدي، فلا أقل من تنفيذ الالتزام بمعاودة بنائها.
تكون ذاكرة المكان أقوى، وفيما تتنافس مؤسسات ثقافية على حفظ المآثر والمعالم، بما في ذلك الأماكن التي كان يرتادها رواد الفكر والسياسة والإبداع، أو كان يقيم بها من أسهموا في إغناء التراث الحضاري للدول والشعوب، يبدو الأمر أحيانا أقرب إلى عناد لإزالة الإشارات المضيئة.
أثناء اجتماعات مجلس بلدي في فترة التفكير في استحداث معلمة تميز مدخل المدينة الجامعية، أثير جدل عاصف حول مسؤوليات الوزارة الوصية على المآثر والموروث الثقافي، ودور البلديات في صيانتها واستغلالها بطرق ناجعة. وبين من رأى أن تلك المدينة ينبغي تسييجها بالأسوار، بارتباط مع حركات الاحتجاجات المتنامية، ومن اقترح إقامة بوابة تليق بمكانتها العلمية، غلب الرأي الأخير، من دون اللجوء إلى تحكيم.
لكن الرسالة التي لم تخطئ العنوان حضت المجلس البلدي على أن يكون البناء مكتمل الجوانب، وفق الطراز التقليدي، على أن تليه خطة لاحقة لناحية بناء أسوار بنفس المواصفات، لولا أن الموازنة المالية كانت أقل من كلفة المشروع. بيد أن البناء وفق هذا الأسلوب لا يشفع دائما، وفي تفاصيل أن أوامر صدرت ذات ليلة لهدم محطة حافلات أقيمت قبالة محطة القطار في وسط العاصمة، لضمان إركاب الزوار في اتجاه مطار محمد الخامس، فقد اعتبر اختيار المكان مجانبا للصواب.
وقتذاك، لم يفكر أحد أنه سيأتي وقت ستهوي فيها معاول الهدم على «باب العرفان»، فالتاريخ يحفظ للمدن العتيقة والمآثر العمرانية والمظاهر الثقافية أنها تكون ضحية للغزو والسلب والإتلاف، حين تتعرض البلدان إلى غزوات وحشية. مضى ذلك الزمن إلى أن عاد أحفاد هولاكو بأسماء ونعوت جديدة.
أعاثوا الخراب والفساد في منشآت حيوية وملاجئ مدنية وحدائق معلقة وقصور كانت حصينة، فكل ما يرمز للعمران يكون في وارد القصف والتدمير، لأن بعض الحروب تكون ثقافية قبل أن تتبلور خططها العسكرية. فلا شيء يبرر الإجهاز على المدنيين ومظاهر التراث الحضاري غير الأحقاد الدفينة التي يتعذر سترها، بمبرر توزيع وعود الإعمار الذي لا يأتي أبدا.
صار نهب المتاحف تجارة وتهريب المآثر صناعة يتفنن فيها الغزاة الجدد. ويا للمفارقة فبينما قصفت الطائرات والصواريخ معالم تاريخية في العراق وسوريا، ابتدع شيوخ التدمير أعرافا جديدة تقضي بالإجهاز على الأضرحة وأماكن العبادة والمعالم الحضارية، من أفغانستان إلى مالي، ومن الصومال إلى سوريا والعراق.
لا مجال للمقارنة هنا، غير أن عدم الوفاء بالتزامات من مستوى إعادة بناء «باب العرفان»، لا يشجع على الاطمئنان إلى أن أوضاع المآثر بخير، ولولا الحرص على حفظ معلمة «باب الرواح» التي خضعت في وقت سابق إلى عملية توسيع لتنفيس حركة السير والمواصلات، لأصبحت بدورها في خبر كان.
أذكر بهذا الصدد أن مهندسين مختصين في علم الآثار، جرت استشارتهم قبل البدء بتوسيع تلك الباب، على أساس أن يكون إعادة بنائها خاضعا لنفس المواصفات التي شيدت بها الأسوار المحيطة بالمدينة العتيقة في الرباط. وفرض دفتر التحملات أكثر تشددا على المقاول الذي أنعش ذلك المشروع تجارته التي كانت مهددة بالإفلاس، غير أن «باب الرواح» لم تكن الوحيدة، وحين تأسست أكاديمية المملكة المغربية كمعلمة ثقافية، جرى اختيار إقامة الزعيم المفكر علال الفاسي لتكون مركزها الأول، قبل الانتقال إلى بناية فسيحة، وكانت الإشارة موحية إلى صون إقامة مفكر وسياسي مغربي، انضافت بدورها إلى المعالم. غير أن أحدا لم يفكر في تجديد وترميم أماكن إقامة شعراء ومفكرين في عصر الأندلس اختاروا الانزواء إلى أزقة فاس القديمة. ولا أدري فعلا إن كان صحيحا أن العلامة ابن خلدون، مؤسس الاجتماع، أقام بعض الوقت في بيت في فاس، يتردد أنه تعرض للإتلاف.
عندما أراد ورثة الباشا التازي تحويل قصره التاريخي في الرباط إلى منشآت سياحية، تم الاعتراض على المشروع، لأن الأماكن ذات الموروث الإنساني يتعين الحفاظ عليها، وآخر ما تناهى بهذا الصدد أن البرلمان المغربي أقر خطة لنزع الملكية من ورثته، بمبرر استغلال فناء القصر لأهداف المنفعة العامة.
هكذا يقول القانون، وإذا ظهر السبب بطل العجب، فالمنفعة العامة إياها، إنما تتمثل في تحويل ذلك الفضاء إلى مرأب سيارات للسادة النواب. عجبا كيف يتم الإجهاز على مآثر من هذا النوع، بمبررات تتنكر لأهميتها التاريخية؟
من يذكر كيف نبتت أسوار ذات يوم سيجت جزءا كبيرا من حديقة تحتل موقعا متميزا عند نهاية شارع محمد الخامس في الرباط. قيل إنها ستصبح مقر سفارة أجنبية، وقيل أيضا إنها ستتحول إلى فندق فخم، إلا أن أوامر صارمة صدرت بالإبقاء على فسحتها الخضراء.
ربما لا تعلم وزارة الثقافة أن قصر التازي أصبح مهددا بأن يصبح مرأبا. لكنه الاستهتار بالتاريخ والمشاعر والأمكنة الدالة، يحيل على تصرفات أقل ما توصف به أنها لا تقيم وزنا للتراث الثقافي الذي سينطبق عليه القول يوما: أنه ذهب مع الريح.