شوف تشوف

دين و فكر

ضريبة الموقف 40

أصبحت مثل الخائن داخل الكاريان.. والسبب هو أني عارضت ترشح «حسن».. لأنه شخص غير مؤهل لهذا المنصب.. الجميع احتفل بهذا الفوز المظفر للإسلاميين.. إلا أنا فقد أصبحت منعزلا.. متواريا.. خائفا.. لم ينس «أبو أيمن» صنيعي هذا.. اعتبرني متساقطا.. متخاذلا.. متمردا على أوامر «الجماعة»..
دعت «فاطمة» إلى لقاء جماهيري أمام مقر جمعية العمل الاجتماعي.. لم توجه إلي الدعوة.. ولم يتصل بي أخوها «أبو أيمن».. بقيت وحيدا في المنزل.. الأهالي نزلوا جميعهم إلى الساحة الموجودة أمام المسجد.. بما فيهم أختي «زينب».. لأن باب الجمعية كان هو أيضا ينظر إلى الساحة.. حيث مربط الخيول.. ومرأب العربات الخشبية (الجميل في هذا أنهم نظفوا تلك الزبالة المتعفنة)
خطب الزعيم السياسي الكبير «أبو أيمن» مرة أخرى في أهل الكاريان.. أبان عن موهبته السياسية.. أعلن عن فوز «الإخوان» بالمقعد الانتخابي.. هنَّأ المواطنين على حسن تجاوبهم مع التوجه الجديد للإسلاميين بالدخول إلى عالم السياسة من بابها الواسع.. وتغنَّى بدحر الاشتراكيين.. واختراق قلعتهم الحصينة.. أوحى إلى الناس بأن العالم يتغير من حولهم.. وأن عصر الإسلاميين قد بزغ في نهاية التاريخ..
لم أحضر هذا الاحتفال بالنصر.. «زينب» هي من حكت لي بعض ما جرى.. شعرت بغبن شديد.. وهمٍّ لا يطاق.. أغيب يوم ينبغي أن أكون أول الحاضرين.. لم أتصور أبدا أن تكون نهايتي هكذا.. وحيدا.. منزويا في ركن البيت أفكر في مصيري بعد أن اعتقدت أني اهتديت إلى الصراط المستقيم.. مرة أخرى أجد نفسي تائها وسط بحر من الحيرة.. والتساؤلات التي تتوالد.. ثم تتوالد.. فلا تتوقف عن التناسل أبدا..
حضر «البودالي» هذه التظاهرة الاحتفالية.. هذا الفقيه الذي حاربني بسبب انتمائي إلى الحركة الإسلامية.. رماني بالتشيع.. وبمناصرة «الخميني».. ووشى بي أكثر من مرة عند «القايد».. توارى إلى الخلف سنوات عديدة بعد أن سيطر «الإسلاميون» على الكاريان وبسطوا نفوذهم على مسجده.. وهو الآن يعود إلى الواجهة.. في زمن السياسة..
طردناه من المسجد.. ومن كل المناسبات.. طردنا الإمام الراتب، فقام «السلفيون» بتعيين إمام آخر.. سلفيُّ العقيدة.. بل وهابيٌ متشددٌ.. هكذا اختار أهالي الكاريان إمامهم.. أحبوا أن تكون لحيته طويلة جدا.. وأن يكون سرواله قصيرا أكثر من المطلوب..
رفضت مطلقا هذا الإمام الذي يعيش في الكاريان وعقله في شبه الجزيرة العربية.. لكن لم يكن لي سلطان على السكان لأغير قناعاتهم.. «السلفيون» تقاسموا مع «جماعتنا» النفوذ على المكان.. أصبح لأتباع «السلف الصالح» رأي في تدبير الشأن الديني بدائرتنا.. فرضوا الإمام الذي يرغبون فيه.. كنت أكره هذا الإمام لتعصبه الشديد للمذهب «السلفي».. احتقرته لأنه كان يفني وقتا من عمره في حفظ كتب «ابن تيمية».. وفتاواه التي لا علاقة للأهالي بها.. كان يصلي بنا وهو لا يحفظ القرآن كاملا.. ترك كتاب الله المحفوظ من التحريف.. وعكف على حفظ كلام بشر.. الذي يخطئ ويصيب..
أمقت هذا الإمام أيضا لأنه يطيل بنا الصلاة إلى حد بت أكره القيام خلفه.. انتقدت السلفيين على صنيعهم هذا.. ورأيت أن أمثال هذا الإمام شر على البلاد.. وكان «أبو أيمن» يشاطرني الرأي..
قال لي ذات يوم «القائد الإسلامي» أو «المخزني» لا فرق:
ـ إن هؤلاء هم أشد المنافسين لنا (يقصد السلفيين).. يؤثرون على الشباب أكثر منا.. بسبب خطابهم المتواضع.. وإعلانهم للناس أنهم يتبعون السلف الصالح.. ويعتمدون منهج أهل السنة والجماعة.. يتواصلون بشكل فعال مع المواطنين.. ووجدوا أخيرا ضالتهم في الكاريان.. انتشروا في غفلة من الجميع.. وهم على كل حال «إخواننا».. وعلينا أن نحسن التحاور معهم..
كان «أبو أيمن» بارعا في التواصل مع السلفيين.. والدليل على ذلك أنه أقنعهم بالتصويت لفائدته في الانتخابات.. وهم الذين يحرمون الانتخابات.. والبرلمان.. والديمقراطية.. ولم يتخل بعضهم عن ذلك إلا بعدما دخلوا السجون.. وذاقوا مرارة العذاب.. فبدلوا من معتقداتهم ما بدلوا.. ودوام الحال من المحال.. اكتشف بعضهم داخل المعتقلات أنهم كانوا على ضلال..
نبت «السلفيون» في كل مكان مثل أشجار الزيتون.. استقطبوا الشباب الفقير.. امتهنوا بيع الخضر والفواكه.. والكتب.. والعطور.. والبخور.. وعصير الفواكه.. يتحركون صباحا بعرباتهم في كل اتجاه.. وفي المساء يصلون في المسجد.. يجتمعون كل مرة عند من يؤمن بعقيدتهم.. كان أحد شيوخهم يأتيهم كل شهر من مدينة بعيدة.. يجتمعون لديه.. ويفتي في كل أمور دينهم..
«السلفيون» لا يؤمنون بحركتنا.. يعتبرون ما نقوم به من نشاط دعوي بدعة.. يستنكرون علينا لباس سراويل «الجين» والأقمصة الضيقة.. والملابس الطويلة.. يطعنون في تدين زوجاتنا.. يعتبرونهن متبرجات لعدم ارتدائهن «النقاب».. كنت أرد عليهم بقوة، فأقول لهم:
ـ إن «السلفية» ليست من الدين.. ابتدعتموها أيها السلفيون.. ما كتبها الله عليكم.. واللحية ليست واجبا.. والنقاب عادة.. ولا وجود في ديننا الحنيف لشيء اسمه «أهل السنة والجماعة»..
ضيقوا علي الخناق داخل الكاريان.. لعنوا والدَيَّ.. طعنوا في عرض أختي «زينب» لأنها لا ترتدي الحجاب.. واجهتهم بكل قوة انتصارا لحركتي الإسلامية.. وكان «أبو أيمن» يشجعني ويدفعني دفعا إلى مقارعتهم ومنازلتهم (مع أنه لا يشاطرني مثل هذه الأفكار.. وهي تتعارض كليا مع مبادئ وأهداف حركته التي نهلت بدورها من السلفية).. يوسوس إلي بذلك في جنح الظلام..
يقول لي:
ـ إذا لم نقف بالمرصاد لهؤلاء فسيرحلوننا.. ويقضون على وجودنا بالكاريان.. ولن تقوم لحركتنا قائمة هنا..
لكن عندما اقترب موعد الانتخابات تغير كل شيء.. لم يعد يقبل «أبو أيمن» أن أطعن في السلفيين.. وجدت نفسي أني كنت أقوم بحرب بالوكالة.. كم كنت مغفلا.. كذب علي «أستاذ العلوم».. خدعني «أبو أيمن»..
قال لي بعد أن اشتد النزال وحميت المعركة مع الاشتراكيين:
ـ لا بأس.. لنلطف الأجواء هذه الأيام مع إخواننا السلفيين.. فهم على الأقل أقرب إلينا من العلمانيين.. واليساريين.. والاشتراكيين.. لنلين لهم الجانب.. نحن في حاجة إليهم.. علينا أن نقنعهم بضرورة مناصرتنا في الانتخابات.. لأن عدونا واحد.. ونحن نوجد في جبهة واحدة..
هكذا أصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم عند القائد الإسلامي الكبير «أبو أيمن».. تحالف معهم.. وتحالفوا معه.. ووجدت نفسي أنا في حالة شرود.. لا أنا مع «الحركيين».. ولا أنا مع «السلفيين».. هل هناك أسوأ مما أنا عليه اليوم.. أسير وحيدا في الكاريان.. أترقب خائفا.. وأستطلع من حولي.. ولا أحد يخبرني بما جرى.. وبما يجري.. وبما سيجري..
«حليمة» التي أشفقت لحالها.. وعطفت عليها.. وآوتني في بيتها عندما قدمت إلى الكاريان.. وكدت أن أتزوجها في لحظات ضعف نفسي.. بعد وقعة الانتخابات، هجرتني، ولم تعد تسأل عني حينما علمت أني عارضت ترشيح أخيها «حسن»..
«عبد الرزاق» استقر بعيدا عن الكاريان.. لكنه ساند أخاه في الحملة الانتخابية.. بدوره قلَّل من الحديث معي بسبب موقفي من أخيه..
بقي شيء من الود يجمعني بمستشارنا الجماعي الجديد «حسن»، بالرغم من أني كنت من أشد المعارضين له.. وعصيت أوامر «الجماعة» في ذلك.. حافظ على قدر كبير من الدبلوماسية معي.. هكذا طبع السياسيين.. ولولا تطبعهم على ذلك لما صوَّت لهم أحد..
كانت المفاجأة أعظم عندما أصبح جارنا «حسن» رئيسا للمجلس الجماعي.. أخيرا «الإخوان» يحصلون على رئاسة البلدية.. لعب «أبو أيمن» دورا كبيرا في تحقيق هذا الإنجاز «العظيم».. الطامة الكبرى بالنسبة إلي هي أن «القائد الكبير» تحالف مع «الاشتراكيين» و«اليمينيين» في تشكيل الأغلبية لتدبير الشأن العام.. كيف يحصل هذا؟؟
بالأمس لعن «أبو أيمن» الاشتراكيين.. وسبهم.. وأخرجهم من الملة.. ووصفهم بالاستئصاليين.. لعن «ماركس».. و«لينين».. و«ماو».. قال فيهم ما لم يقله «جرير» في هجاء «الفرزدق».. ولا «الفرزدق» في ذم «جرير».. في جلساتنا التربوية لا نفتأ نطعن في اليسار وأهله.. وأنهم أعداء الدين.. الآن نتحالف معهم.. ونشكل معهم الأغلبية.. على أي «فتوى» استند «أبو أيمن» في تحالفه مع أعداء الأمس الذين أصبحوا أقرب المقربين إليه..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى