
بقلم: خالص جلبي
(26) فلسفة الخير والشر
وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. (رواه مسلم).
هذا الحديث قمة في التربية وضبط النفس، وفي الآية من سورة «الحديد» أيضا إضاءة جميلة، أنه «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم». ويتكرر هذا المعنى على نحو عجيب أن لا يكون الإنسان حبيس أصعب شعورين، أي الماضي والمستقبل، وأن يعيش الإنسان يومه فلا تدري نفس ما خفي من الأقدار. التحرر من الحزن، أي مربع الماضي، والتحرر من الخوف، أي مربع المستقبل المرعب. هذا الفهم يدفعنا إلى الاستشهاد بفيلسوف الخير العبد إبكتيتوس (كان بالأصل عبدا وحرر، وكان من فلاسفة المدرسة الرواقية)، فماذا يقول الرجل؟
فلسفة الخير والشر وفيلسوف الخير إبكتيتوس
«ليس في العالم شر ..! هات لي أي شيء وسوف أحوله لك بعصا هرمز إلى خير !.. ـ وهرمز في الأساطير اليونانية هو إله الحظ والرحلات والقمار ـ
سم لي ما تشاء؟ العوز؟ الفقر؟ المرض؟ بل حتى الموت؟ إن نظرة بسيطة إلى عمق المسألة تظهر لك جانب الخير فيه!
إن الحياة يا أصدقائي مائدة عامرة بأطيب الطعام؛ يقدمها رجل خير عظيم؛ فإذا انقضى الأجل، وانتهت الحفلة علينا أن نغادرها؛ ونحن نشكر من دعا وعزم وأطعم بكل سرور.
إن الألم يأتي من عدم الانسجام والاندماج مع هذه الحقائق الكبيرة، فإذا أردنا لأنفسنا أن نسعد، فعلينا أن نستسلم لهذه الحقيقة الراسخة بيقين».
يعد إبكتيتوس أهم فلاسفة المدرسة الرواقية، ولد عبدا، ومات حرا، وطرد مع فلاسفة روما المشاغبين، في القرن الثاني الميلادي، في لحظة غضب إمبراطور حانق، يكره أهل الفكر والثقافة، كما يفر أهل الفكر من جمهوريات الخوف والفقر والبطالة، فنراهم في «الدياسبورا» يبدعون فكرا وقولا وكتابة، وينشرون فكرهم في مواقع إلكترونية، بعد أن كسر العلم الجغرافيا فلم يبق حدود، وأصبح البشر في كل مكان خارج قبضة الديكتاتوريات، عباد الله إخوانا.
ومدرسة الرواقية هي تلك الطريقة في فهم الحياة وتبادل الأفكار في (الأروقة)؛ حيث يتم تبادل الأفكار في الهواء الطلق، مشيا على الأقدام، وهي طريقة محببة إلى قلبي، أفعلها كل يوم مع من أحب المشي والتحدث بحرية. والكثير من مفاهيمي جاءت من تلك اللحظات السنية، مثل برق في ظلمات من الإحباط العربي. وهذا هو عمل الفلسفة.
ولعل أهم أفكار فيلسوف التنوير «إيمانويل كانط» جاءته من «نزهة الفيلسوف»، حيث كان الناس في كونيغسبرغ يربطون ساعاتهم على ساعة الفيلسوف التي ما كانت تخطئ بعد الظهر، يرافقه خادمه المخلص «لامبيه»، ومن هذه الخطوات المباركات ولد كتابه «نقد العقل الخالص»، ومن توسلات خادمه «لامبيه» ولد كتاب «نقد العقل العملي».
وإبكتيتوس كان عبدا، ولكن الفلسفة حررته، والرجل يقول إن الفلسفة إذا انقطعت عن الحياة لم تعد فلسفة، بل وجب أن تحرر الإنسان من ضغوطات الحياة وظلمها وتناقضها، فتقدم تفسيرا وراحة؛ وإلا كيف سنفسر طوابير القتلى في العراق ورواندا والبوسنة؟ كما رواها لي صديقي سالم البوسني في مونتريال، الذي هرب من تيتو، ثم لحقه ابن أخته بعد ثلاثين سنة هربا من الصرب! وإذا كان إبكتيتوس علما في التفاؤل، فإن الفلسفة بؤس عند ماركس وتشاؤم عند «شوبنهاور»؛ فالطبيعة تسحق الفرد ولا تأبه، في الوقت الذي تحافظ على النوع بكل عناد وإصرار.
ومشكلة الشر والخير أعيت عباس العقاد، ومن قبل ابن سينا كيف يفهم العالم؟ فخرجوا بنظرية «ملح العالم»، وفي اللحظة التي تختلط علينا فيها الأمور، يجب فهم الشر والحرب والمرض والموت «ملحا» في تجديد الحياة، فلولا الشر ما عرفنا الخير. وكما كان الملح لوحده سما، فإذا فككنا مركبه عرفنا أنه كلور وصوديوم؛ يعتبر كلا منهما لوحده سما زعافا، كذلك كان الشر في العالم حين ينفرد أو يختلط،. وهكذا يجب فهم العالم وتحمله، لحين دخول عالم آخر ليس فيه هذا التناقض، كما قال القرآن «لا ظلم اليوم».
وعند هذه النقطة يسعفنا «محمد كامل حسين» في كتابه «وحدة المعرفة»، أن هناك ثلاثة أخطاء رئيسية في التفكير عن «العلة» و«السببية» و«الثنائية»، يعتبر كلا منها خطأ قاتلا معيقا في التفكير، و«الثنائية» تشكل ضلالا مبينا، فوجب رؤية العالم على شكل طيف متدرج، كل درجة في سلمه تعتبر خيرا في حد ذاتها، ولعلها شر لما قبلها أو بعدها.
وحسب التحدي الأرسطي، أن الغضب جيد إذا جاء في مكانه، شر إذا اختلف. وحسب عالم النفس «هدفيلد»، «أن الاندفاعات إن جاءت في موضعها كانت خيرا، فإذا اختلفت كانت شرا»، فليس هناك من شر خالص بذاته، ولكنها فضيلة في غير مكانها. كما يقول الشاعر العربي إن وضع السيف في موضع الندى مثل عكسه.
وهذه المسألة وضع لها الفلاسفة منذ زمن بعيد قانون الوسط الذهبي، أن الفضيلة هي وسط بين رذيلتين؛ فوجب فهم العالم على هذه الشاكلة، مثل الشجاعة بين التهور والجبن، والكرم بين البخل والتبذير، والعفة بين الجمود والشره، وهكذا.
ومنبع الخطأ أننا نجعل من أنفسنا محور العالم، مثل قولنا إن الجو حار، لأن درجة حرارة الجو أصبحت 30، والطيور تتمتع بدرجة الحرارة 40. ودماغنا يحترق إذا وصل إلى درجة الحرارة 42، فوجب خفض حرارة الرأس بكل سبيل ممكن، بما فيها وضع الثلج مباشرة على الرأس، وهي إزعاج كبير للطيور.
وكذلك في البرودة حين تنزل إلى الصفر. وفي كندا يكون الجو ربيعا، حين تصبح درجة الحرارة صفرا عند الناس، فيستبشرون بنزول الثلج.
وكالفن أنزل درجة الحرارة إلى 273,15 تحت الصفر، وسماها الصفر المطلق.
وصل إلى ذلك رياضيا وليس تجريبيا، لأن كل جزيء للمادة يجمد عن الحركة في هذا الصفر الذي ما بعده صفر.
أما الحرارة فلا يعرف لها حدودا؛ فهي على سطح الشمس ستة آلاف درجة وفي باطنها تقفز إلى مليون، وهو ما فعله الأشرار من الناس حين أشعلوا القنبلة الهيدروجينية على وجه الأرض بحرارة باطن الشمس؛ أو هكذا خيل إلينا، فلولا قنبلة هيروشيما لم يولد السلام العالمي، ولولا الأشرار من رجال البنتاغون؛ أو هكذا يخيل
إلينا؛ ما كتبنا مقالاتنا في الإنترنت، وأرسلناها بومض البصر أو هو أقرب إلى مراكز نشرها.
وفلسفة القرآن تحيل إلى أفكار من هذا النوع، فتقول عن الكوارث الاجتماعية أحيانا «لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم».
فوجب الانتفاع من هذه الفلسفة كي تصبح الحياة مقبولة ومتحملة، وإلا فمقابلها الحيرة والألم.
(27) ميزان القلة والكثرة أم الحق والباطل والصدق والكذب
يأتي النبي وليس معه أحد
كان هدفي من هذه الأحاديث أو تأسيس قناة لي بعنوان «رحلتي في عالم الطب والفكر»، هو أن أدخل القبر وقد فرغت ما في رأسي. بالمناسبة اطلعت على كتاب لكاتب فرنسي بهذا المعنى، أرسله لي صديقي المغربي (عبد الرحيم طوط) من مدينة الجديدة، وأسميه رجل الحضارة لفعاليته ونشاطه وتنظيمه ونظافته وسعيه. سألته عن اسم العائلة؟ قال: طوط، تعجبت! قال: والدي كان يقاتل مع الفرنسيين فوقع أسيرا في يد الألمان، وحين تمكن من الفرار تحت زخات الرصاص، أخذ اسمه! قلت له: كلمة «طوط Tot» بالألمانية معناها ميت، فلربما اعتبروه يومها في عداد الأموات ومنها أخذ اسمه.
وحين أمر أحيانا على أوقيانوس «اليوتيوب» أتذكر حديث «الجمعة لمن سبق»، فمن ركب عباب هذا البحر مبكرا، قبل سنوات، لربما حاز على جماهير هائلة تعد بالملايين. قالت لي زوجتي: الأمر أكثر من ذلك، هناك دفوعات مالية لمن حقق أرقاما معينة؛ فهناك إذن ما يسيل لعاب من يعمل في هذا (اليانصيب = toto loto).
وأحيانا أرى أرقاما مذهلة مثلا لشيخ يتحدث عن لعق الأعضاء التناسلية، فيحقق عدد من المشاهدين مليون ومائة ألف. وثمة سياسي كذاب من نموذج أبو طلالة، تنبأ بحرب بين أمريكا والصين مع نهاية عام 2020م، ولم يحدث شيء بالطبع، ولكن جمهور المشاهدين كان يحملق وهو يسمع التخاريف، بل إن صديقا لي أبو فراس المطوع من السعودية، أرسل لي عن هذا الرجل وآخر من دجالي الهند اسمه عمران لسن، متقن للسان ريتشارد قلب الأسد، يتوقع نهاية العالم، والناس يحملقون مفتوحي الفم يجد الذباب طريقا للدخول إليه من شدة الاتساع! أو فيديو أرسله لي أخ فاضل من البحرين لفتاة تتعرى وتتبول مثل خنزير بري، وقد استهوى الملايين من التافهين، مؤشرا لحضارة ودعت الحياء والإنسانية معا. وما يأتيني من هذه القمامات أكثر من رمال صحراء تندوف والربع الخالي.
المهم في القرآن ثمة آية في آخر سورة «المائدة» تقول: «لايستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث». (المائدة الآية: 100). وهذا يفيد أن الطبيعة لا تعتمد على الوفرة فقط؛ فالعناصر النادرة مثل اليورانيوم قليل نادر، ولكن تصنع منه القنابل الذرية، أو توليد طاقة تكفي مدينة بقبضة من ترابها. وجهنم تقول هل من مزيد، وفي الإنجيل ما أرحب الطريق الذي يقود إلى الهلاك، وكثيرون الذين يسلكونه. لذا فإن الحديث الذي نسوقه عن منظر يفلج، وهو حضور نبي إلى مشهد يوم القيامة ولا مرافقين له من قومه، فكان غريبا بينهم.
بالمقابل علينا أن ننتبه جدا إلى هذا القانون، فهو يصدق لأن البذرة لم تجد أرضها المناسبة، ولكن الكثير من الأفكار الضالة تجد طريقها وتنتشر. مثل البعثية العبثية، أو زحوف ملالي طهران باللطم والشتيمة للصحابة، أو النازية والفاشية والشيوعية الصفراء.
هنا ينطبق على قانون هام، هو أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. أو القانون الموجود في سورة «إبراهيم»، عن مثل الكلمة الطيبة والخبيثة، وأن الثانية تصبح أيضا شجرة كبيرة، ولكن نهايتها أن يخسف بها فلا تدوم، لوجود عناصر الموت داخلها، كما في النظام البعثي العبثي في سوريا والعراق، الذي أصبح في مزبلة التاريخ، أو الشيوعية الصفراء مع ربها لينين ونبيها ستالين وحوارييها خروتشوف، أما الكلمة الطيبة فتبقى مثمرة إلى أبعد الآجال. وهكذا يجب فهم قانون الحديث عن قانون الكثرة والقلة.
عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لي سَوادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فقِيلَ لِي: هذا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقَوْمُهُ، ولَكِنِ انْظُرْ إلى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فإذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقِيلَ لِي: انْظُرْ إلى الأُفُقِ الآخَرِ، فإذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقِيلَ لِي: هذِه أُمَّتُكَ ومعهُمْ سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخاضَ النَّاسُ في أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، فقالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ ولَمْ يُشْرِكُوا باللَّهِ، وذَكَرُوا أشْياءَ فَخَرَجَ عليهم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: ما الذي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فأخْبَرُوهُ، فقالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقامَ عُكّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، فقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فقالَ: أنْتَ منهمْ؟ ثُمَّ قامَ رَجُلٌ آخَرُ، فقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فقالَ: سَبَقَكَ بها عُكّاشَةُ. (صحيح مسلم وأخرجه البخاري).
نافذة:
الفلسفة إذا انقطعت عن الحياة لم تعد فلسفة بل وجب أن تحرر الإنسان من ضغوطات الحياة وظلمها وتناقضها فتقدم تفسيرا وراحة



