طهران والرباط قبل الثورة.. بعيون مسؤولين إيرانيين ومغاربة
بين سطور الوثائق السرية الأمريكية قبل نصف قرن

يونس جنوحي
«سقط الشاه، وقامت الجمهورية الإسلامية. بين الحدثين هوت ذكريات كاملة وبُنيت أخرى.. انتقل المغرب وإيران في فبراير 1979 من مرحلة الصداقة بين كبار المسؤولين، وبين الملك والشاه، وتبادل الزيارات إلى مرحلة القطيعة، ثم استقبال إيران لبعض الشبان من مؤسسي البوليساريو.
طهران والرباط، بعيون تقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية.. شهدتا تاريخا حافلا بالأحداث، والتقلبات..».
+++++++++++++++
عندما زار شباب صحراويون الخميني.. وطلبوا التمويل
في 11 فبراير 1979، أعلن رسميا عن قيام الثورة الإسلامية في إيران، ووصول الخميني إلى السلطة.
كان النظام الجزائري أحد أوائل الأنظمة التي هنأت بنجاح الثورة، رغم أن نظامه لم يكن عسكريا، ورغم أن الجمهورية التي أعلن عنها كانت بمرجعية دينية شيعية واضحة. إلا أن الجزائر سارعت إلى تهنئة النظام الجديد، إدراكا من أيتام «هواري بومدين»، الذي لم يُكتب له أن يعيش لكي يرى بعينيه سقوط نظام الشاه – بومدين توفي يوم 27 دجنبر 1978-، أن المغرب بالتأكيد لن يكون مؤيدا للثورة ضد الشاه.
عندما أعلن عن قيام الثورة الإسلامية في إيران، كانت ليبيا والجزائر تمولان علنا الشباب الذين أعلنوا تأسيس البوليساريو منذ ماي 1973.
الرحلة كانت من الجزائر، وصولا إلى باريس. ومن باريس ركب ممثلو البوليساريو طائرة أخرى أقلتهم إلى طهران.
لم تكتب الصحافة الإيرانية عن استقبال الخميني لوفد الشباب الصحراوي، لكن أولئك الشبان كانوا حريصين على التقاط صورة للذكرى لتوثيق لقائهم مع الخميني.
بحسب التقرير الأمريكي الذي رصد هذا اللقاء، الذي جرى في ربيع سنة 1980، فإن شبان البوليساريو انتظروا يومين قبل أن يُسمح لهم بلقاء الخميني. وجرى إبلاغهم أن اللقاء لن يتجاوز نصف ساعة، بسبب انشغالات آية الله وكثرة المواعد المجدولة لديه.
لكن اللقاء استمر ساعة كاملة، سأل فيها الخميني الشباب الصحراويين عن طموحهم، ورؤيتهم للمستقبل.
كان واضحا أن الخميني استحسن فكرة تقسيم المغرب وزرع جمهورية جديدة في الصحراء.
تقدم الإيرانيون في موقفهم بعد سنوات أخرى، خصوصا عندما جمعوا ما يكفي من معطيات لكي يعلموا أن البوليساريو تحظى بتمويل رئيسي من الجزائر والعقيد القذافي.
وفي الوقت الذي كانت فيه إيران الثورة الإسلامية منشغلة بالحرب ضد صدام حسين في العراق، كان الجزائريون يرغبون في تطوير الصداقة مع الخميني.
تقول التقارير الأمريكية إن التقارب الفعلي بين النظام الجزائري ونظام الثورة الإسلامية في إيران لم يتحقق عند انطلاق الثورة الإسلامية، وإنما بعد سنوات على تطوير الجيش الإيراني وإطلاق مخططات تطوير الأسلحة والصواريخ. فقد كان الجزائريون يرغبون في المزاوجة بين الترسانة الروسية – بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات- والترسانة الإيرانية التي أعجب بها الجزائريون، خلال الحرب بين إيران والعراق.
لم ينس الإيرانيون زيارة الشبان الذين أسسوا جماعة البوليساريو المقاتلة، وهكذا فقد استفاد التنظيم من دعم إيراني معلن، في السنوات الأخيرة فقط، عن طريق الجزائر التي لعبت دور الوسيط، وتفجرت قضية حصول البوليساريو على طائرات مُسيرة بدون طيار. ورغم أن النظام الدفاعي المغربي أسقط تلك «الدرونات» إيرانية الصنع، إلا أن الواقعة كانت تعرية لتمويل إيراني للبوليساريو، استمر لسنوات، بغطاء جزائري.
إيرانيون من زمن الشاه.. أصدقاء المغرب المُعدَمون والمنفيون
الجنرال نعمة الله نصيري، كان صديقا للجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي. وقد التقى الثلاثة في أكثر من مناسبة، بحكم أنهم كانوا يشرفون على الاستخبارات والأمن. الجنرال نصيري كان يحظى بثقة الشاه المطلقة، بينما كل من أوفقير والدليمي كانا يعتبران ركيزة أمنية اعتمد عليها الملك الراحل الحسن الثاني، لتدبير المؤسستين الأمنية والعسكرية.
كان مصير الجنرال «نعمت نصيري» «تُكتب هكذا بالفارسية»، الذي ترأس جهاز الاستخبارات لدى الشاه، الإعدام رميا بالرصاص، بعد قيام الثورة التي تأسست بموجبها الجمهورية الإسلامية في فبراير 1979.
كان هناك جنرال آخر هو الجنرال زاهدي، الذي كان صديقا للكولونيل المذبوح، وكان الاثنان معا قد التقيا في الولايات المتحدة الأمريكية. الجنرال رضا زاهدي زار المغرب في إطار زيارة صداقة، نهاية الستينيات، وأعطى الملك الراحل الحسن الثاني أمرا للكولونيل المذبوح لكي يعتني بضيف المغرب الكبير، ونظمت له زيارة حافلة إلى المدن التاريخية المغربية، والتقى خلال زيارته بعدد من الوزراء والمستشارين والشخصيات العسكرية.
إحدى الشخصيات الإيرانية الأخرى التي ربطت علاقة مميزة مع المغرب، هي أسد الله علم. وقد شغل مناصب سيادية ووزارية، وعهد إليه الشاه بنقل رسائله إلى الملك الراحل الحسن الثاني، وكان يخص المغرب بتقدير كبير.
ورغم أن السيد علم نجا من منصة الإعدام رميا بالرصاص، إلا أنه مات حزينا في آخر أيامه، وهو يرى نظام الشاه يتهاوى.. تقول بعض الكتابات إن السيد علم تلقى عرضا من الملك الراحل الحسن الثاني لكي يستقر في المغرب، في آخر أيامه، لكن المرض لم يُمهله للنظر في العرض المغربي، وعاش أيامه الأخيرة متنقلا بين مصحات سويسرا وألمانيا.
فرح ديبا، إمبراطورة إيران السابقة، وزوجة الشاه، كشفت في مذكراتها التي كان اسمها عنوانا وحيدا لها، وأحدثت ضجة كبيرة عند صدورها، قبل سنوات، أن الشاه نصح أصدقاءه أن يتبعوه إلى المغرب، وأخبرهم أن الملك الراحل الحسن الثاني قدم له إشارات ترحيب، ولن يمانع في استقبال رموز النظام الإيراني المطاح به.
لكن أغلب الذين كانوا يحيطون بالشاه سقطوا في قبضة الثوار، أو غادروا إيران على عجل نحو دول الجوار ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وتعتبر ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الوجهتين الأكثر شعبية في صفوف الفارين من نظام الخميني. في حين أن أبناء شاه إيران وزوجته حلوا ضيوفا على المغرب، وبقوا يترددون على البلاد حتى بعد وفاة الشاه. حتى أن الصحافة الدولية كتبت في تسعينيات القرن الماضي أن أسرة الشاه، في الذكرى العاشرة لسقوط دولة الشاه بهلوي، لا تزال تستقر في المغرب، ولا تغادره إلا لتعود إليه لقضاء فترات العطل والأعياد، عرفانا بفضل المغرب والملك الراحل الحسن الثاني على أسرة الشاه، بحكم أنه كان الوحيد الذي أعلن أمام المنابر الدولية، أنه مستعد لاستقبال الشاه في عز المظاهرات التي أطاحت به، وفي عز اعتذار دول كبرى عن استقباله في الأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن قيام الجمهورية الإسلامية بزعامة الخميني.
+++++++++++++++++++
عندما انتبه الأمريكيون لوجود اتصال بين اكديرة ورئيس وزراء إيران سنة 1968
يتعلق الأمر بلقاءات ثنائية بين أحمد رضا اكديرة، الذي كان قد غادر جو الحياة السياسية وتفرغ لمهام المستشار الملكي الأقوى في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وبين أمير عباس هويدا، رئيس وزراء إيران الأكثر قُربا من الشاه، قبل الثورة الإسلامية في فبراير 1979.
ما طبيعة العلاقة إذن بين الرجلين؟ رجح الأمريكيون في تقرير وقعه «ويليام بلوم»، رجل «CIA»، يعود إلى شهر أكتوبر 1968، أن يكون الرجلان يخططان معا لمشروع مشترك، خصوصا مع توالي اللقاءات بينهما. فالأمريكيون انتبهوا إلى أن أحمد رضا اكديرة، مستشار الملك الراحل الحسن الثاني، التقى مع رئيس الوزراء الإيراني، ثلاث مرات خلال سنة 1968، بعيدا عن أي طابع رسمي. التقيا في برلين، ثم مرتين في سويسرا. وما جعل الأمريكيين يراقبون هذا التقارب، أن الرجلين معا لم يكونا في عطلة عائلية، وبدا أنهما على اتصال وحددا موعد اللقاء سلفا، بعيدا عن الأضواء.
في أحد اللقاءات التي تابعها العميل «ويليام بلوم»، خبير الاستخبارات الأمريكية في شؤون الشرق الأوسط، والتي ضمنها في تقاريره المرفوعة إلى واشنطن، لاحظ أن اكديرة نزل في فندق فخم في العاصمة السويسرية، خلال عطلة نهاية الأسبوع. وعندما دقت الساعة الثانية بعد الزوال، طلب اكديرة من إدارة الفندق أن تُخلي قاعة من القاعات المخصصة لعقد الندوات، وأخبرها أنه ينتظر ضيفا مهما.
مع تمام الساعة الرابعة عصرا، توقفت سيارة خاصة في بهو الفندق، ونزل منها رئيس الوزراء الإيراني. لاحظ «بلوم» أن أمير عباس هويدا لم يأت في سيارة دبلوماسية تابعة لسفارة بلاده، وإنما أقلته إلى الموعد سيارة خاصة تحمل ترقيما سويسريا عاديا.
دام اللقاء قرابة ساعة ونصف الساعة، وخرج رئيس وزراء إيران بعد ذلك من بوابة الفندق، وأقلته السيارة نفسها التي أتت به، لتعيده إلى الفندق الذي نزل فيه. في مساء اليوم الموالي غادر اكديرة.
تبددت مخاوف الأمريكيين، عندما تأكدوا أن اكديرة كان فعلا صديقا لرئيس الوزراء الإيراني، وأن الرجلين تبادلا هدايا قيمة عندما التقيا، وتباحثا في موضوع تذويب بعض الخلافات التي كدّرت العلاقة بين الشاه والملك الراحل الحسن الثاني، بسبب تقرب بعض الشخصيات العربية المعادية للمغرب من محيط الشاه.
قد يكون الأمريكيون مبالغين في تقييمهم للعلاقة بين رئيس وزراء الشاه الذي صدر في حقه حكم إعدام سريع، ونفذ فيه الحكم ليعدم رميا بالرصاص، يوم 7 أبريل 1979، أي بعد ثلاثة أشهر على سقوط نظام الشاه.
لكن خلال فترة حكم الشاه، كانت العلاقات المغربية الإيرانية على المحك، بسبب صفقة سلاح أمريكية، تتعلق بطائرات مقاتلة أراد المغرب الحصول عليها بشكل مستعجل، وأخبر الأمريكيون الملك الراحل الحسن الثاني أن الطائرات الجاهزة، طلبية إيرانية سبق للشاه أن طلبها من أمريكا، قبل الملك الراحل الحسن الثاني. وقال الأمريكيون إنهم لا يمانعون في منح الطائرات للمغرب، إن وافق الشاه.
الملك الراحل الحسن الثاني لم يبعث اكديرة كما توقع «ويليام بلوم»، بل بعث مستشارا آخر هو عبد الهادي بوطالب، الذي لم يكن على وفاق دائم مع اكديرة. وتولى بوطالب مسألة محاولة إقناع الشاه بالتنازل عن الطائرات لصالح المغرب، لكن المفاجأة كانت أن الشاه رفض، وهو ما تسبب في فتور في العلاقات.
الجنرال العلوي عصمان وأحمد العراقي وآخرون.. مبعوثو المغرب إلى إيران
محمد بنهيمة كان سفيرا للمغرب في طهران، والمرجح أنه آخر سفير مغربي إلى إيران، قبل الثورة. وآخر دبلوماسي مثّل المغرب عند الشاه.
هذا الأخير، استقبل شخصيات مقربة من الملك الراحل الحسن الثاني، أثناء مقامها القصير في إيران، سيما في الفترة ما بين 1976 و1978.
الجنرال مولاي حفيظ العلوي كُلف بنقل رسالة شفهية من الملك الراحل الحسن الثاني إلى الشاه، أشهرا قليلة قبل الإطاحة بنظامه، وعندما عاد الجنرال إلى المغرب أخبر الملك الراحل الحسن الثاني بشكل مباشر أنه لاحظ تعبا غريبا على مُحيى الشاه، وأن الرجل لم يستقبله بالحفاوة المعهودة. لم يكن الجنرال العلوي يعلم أن الشاه كان مصابا بالسرطان، وأخبره أطباؤه بالمرض، وفضل أن يبقيه سرا، وألا يُخبر به أحدا من حلفائه.
أما مولاي أحمد العراقي، وزير الخارجية السابق في ستينيات القرن الماضي، فقد رُقي إلى منصب وزير الخارجية، بفضل نجاح مهمة كلفه بها الملك الراحل الحسن الثاني. وهذه المهمة تمثلت في إقناع الشاه بضرورة الحضور إلى قمة إسلامية، أو بعث وزير خارجيته ورئيس الوزراء، وتذويب خلاف مع المملكة العربية السعودية.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن القمة لن تنجح بدون تجاوز الخلافات الدبلوماسية، وكان حضور إيران مستبعدا. لكن العراقي بكياسته ودبلوماسيته أقنع الشاه، وطار من طهران إلى المملكة العربية السعودية لإتمام مهمته بنجاح.
وإذا كانت تجربة العراقي مع إيران إيجابية، فإن شخصية أخرى لم يحالفها الحظ نفسه، ويتعلق الأمر بالدبلوماسي أحمد السنوسي، الذي كان مبعوثا في إحدى المناسبات إلى طهران، لكنه أقفل عائدا ونقل إلى الملك الراحل الحسن الثاني عدم تفاؤله، بخصوص مباحثات لعقد قمة إسلامية.
أما أحمد عصمان، الوزير الأول الأسبق، ورفيق دراسة الملك الراحل الحسن الثاني وصهره، فقد كان يحظى بتقدير كبير لدى شاه إيران. وقد مثّل المغرب سنة 1973 في حفل وُصف بالأسطوري، وذهب إلى طهران على رأس وفد رفيع يتكون من وزراء مغاربة، لكي يحضر حفلا دعي إليه رؤساء الدول الكبرى، وكتبت الصحافة مقالات مطولة عن الحفل الذي وُصف وقتها بأنه الحفل الأعلى تكلفة في التاريخ. فقد أراد الشاه أن يحتفل بذكرى توليه الحكم، ولم يكن مدركا أنه كان يدق آخر المسامير في نعش نظامه.
اختيار أحمد عصمان لكي يكون على رأس الوفد المغربي الرسمي، كان مرده إلى أنه صديق لبعض الشخصيات الإيرانية المقربة من الشاه، خصوصا وزير خارجيته.
بوطالب.. الشاهد على «جفاء» الشاه للمغرب بسبب طائرات أمريكية
حكى عبد الهادي بوطالب في مذكراته أنه كُلف مرة بمهمة غاية في السرية، والأهمية، من طرف الملك الراحل الحسن الثاني.
كانت الحرب في الصحراء على أشدها، وكان المغرب بحاجة إلى أسطول حديث من الطائرات الأمريكية المقاتلة.
تقدم المغرب رسميا بطلب إلى الولايات المتحدة، في إطار صفقة سلاح بين البلدين. لكن الأمريكيين شرحوا للملك الراحل الحسن الثاني أنهم انتهوا للتو من تجهيز طلبية من الطائرات المتطورة، وسوف يتم تسليمها في الأيام المقبلة إلى إيران، وأنه يتعين على المغرب أن ينتظر لأشهر، ربما قد تقارب السنة من الانتظار، إلى أن تجهز الطائرات.
أمر الملك الراحل الحسن الثاني مستشاره عبد الهادي بوطالب، لكي يستقل الطائرة الملكية ويتوجه رأسا إلى طهران، ويلتقي الشاه لكي يبلغه طلبا عاجلا من الملك الحسن الثاني.
تمثل الطلب في تنازل إيران عن صفقة الطائرات لصالح المغرب، بحكم التطورات الأخيرة في قضية الصحراء. لكن بوطالب، الذي سبق وأن نفذ مهام سابقة في إيران بأمر من الملك الحسن الثاني ويحظى بعلاقات صداقة مع شخصيات إيرانية وازنة، فوجئ بأن الشاه استقبله بجفاء كبير، ولم يقبل بتنفيذ رغبة الملك الراحل الحسن الثاني، واعتذر لبوطالب وأخبره أنه لا يستطيع التنازل عن الصفقة حاليا لصالح المغرب.
عاد بوطالب خالي الوفاض، وأخبر الملك الراحل الحسن الثاني بما عاينه.
ولم تمض إلا فترة قصيرة، حتى اندلعت الثورة ضد الشاه وبدأت المظاهرات التي تطالب برحيله، مع نهاية سنة 1977 وبداية 1978، ولم يُوفق الشاه في التعامل مع الغاضبين ضد نظامه.
في سياق الأزمة التي عاشها الشاه في الفترة الأخيرة من حكمه، قرر أن يزور المغرب.
وقد تحدث بوطالب في مذكراته عن هذه اللحظات، وسُجلت في كتابه «نصف قرن في السياسة»، الذي كان خلاصة حوار مطول أجراه معه الصحافي حاتم بطيوي. وقد جاء فيه، على لسان د. عبد الهادي بوطالب:
«.. استدعانا الملك الحسن الثاني نحن المستشارين الأربعة، وقال: «سترافقوني إلى المطار لاستقبال ضيف قادم عندي»، من دون أن نعرف من هو هذا الضيف. ولما وصلنا إلي المطار أخبرنا جلالته أن الشاه هو الضيف. وكانت الأخبار تتحدث عن اشتداد الثورة الشعبية في إيران، وأن الشاه خرج من إيران ولا تُعلَم وجْهته. ففي مكتبي بوزارة الإعلام كنت أتابع عبر «التلكس» آخر أخبار الثورة. ولما استقبل الملك الشاه، اجتمع به بالمطار رأسا لرأس، ثم ركبا معا سيارة ساقها الملك شخصيا والتحقنا بهما.
وبعد أيام دعاني الملك الحسن الثاني إلى الحضور بقصر الرباط، ووجدت عنده أحمد عصمان، الوزير الأول، والمستشار أحمد رضا اكديرة. وقال لي: «الشاه يعتزم عقد مؤتمر صحافي في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر». كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا، فقلت له: «أرجو من جلالتكم ألا يعقد الشاه المؤتمر الصحافي بالمغرب، فالثورة الشعبية بإيران على أبواب نجاحها. والجمهورية ستُعلن قريبا، جلالتكم استقبلتموه كضيف. ويحسن ألا يصبح المغرب مقر نشاطه السياسي، وتتورط بلادنا بذلك إزاء القادمين الجدد إلى السلطة في إيران.
لقد استضافته جلالتكم معزَّزا مكرَّما، ولا بأس في ذلك، لكن أرجو ألا تسمح جلالتكم له بأن يقوم بتحويل نشاطه إلى المغرب». وقاطعني الملك متسائلا: «هل تظن أنه سيقول ما يُغضِب خصومه؟». فقلت: «القضية مبدئية في حد ذاتها، بصرف النظر عما قد يقول». فقال: «الشاه طلب مني ذلك ولا أستطيع أن أرفض طلبه وهو ضيفي». فقلت: «بإمكان جلالتكم أن تنصحوه بالعدول عن عقد المؤتمر الصحافي، أو تأجيله». فقال: «أنا لا أستطيع مواجهته بذلك. أنا رجل أُكْرِم الضيف. ثم إن الصحافة قد أُخبِرت بميعاد مؤتمره الصحافي، صباح هذا اليوم». فعلقت قائلا: «هل تسمح لي جلالتكم بأن أتولى مخاطبة الشاه في ذلك؟». فقال مستعظما تطاولي: «تقوم بهذه المهمة أنت؟ إني أريد أن أشاهد كيف ستقوم بها بمحضري». وضغط الملك على زرّ، وقال: «اطلبوا من الشاه أن يحضر عندي الآن». «هكذا، بهذه الصيغة الآمرة.. ولم يمض من الوقت إلا 25 دقيقة حتى كان الشاه حاضرا معنا. كان يبدو منهارا خائر القوى ومتواضعا إلى أقصى الحدود».
اختفت إذن سطوة الشاه التي عُرف بها، وعاش آخر أيامه غير مُدرك للواقع الذي يحيط به.
يحكي بوطالب أنه رد الصاع للشاه، عندما رفض السلام عليه عند زيارته إلى إيران، ورغم أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يستحسن السلوك الذي أقدم عليه مستشاره، إلا أن بوطالب ارتأى أن يرد على تعامل الشاه معه في طهران، قبل أن يُدرك أنه مصاب بالسرطان، وأن نظامه كان يعيش مرحلته الأخيرة.
المغرب بعيون إمبراطورة إيران: علمنا بسقوط النظام ونحنُ في مراكش
في مذكراتها، كتبت فرح ديبا، إمبراطورة إيران، التي كانت تحظى بصداقات كثيرة في المغرب، وشهدت على ميلاد صداقة بين وزراء إيرانيين وشخصيات مغربية وازنة، عن علاقتها بالمغرب، وعلاقة زوجها بالملك الراحل الحسن الثاني، الذي اعتبرته الحاكم الوحيد الذي لم يتعامل مع الشاه بجفاء، ولم ينتقم منه وهو خائر القوى، بعد أن خسر معركة السلطة لصالح الثورة.
تقول في مذكراتها:
«وكانت علاقات مودة وصداقة تربط بيننا وبين الملك «الحسن الثاني» وأسرته. فبالإضافة إلى الزيارات الرسمية، كنا وجهنا دعوة إلى أبناء الأسرة العلوية الحاكمة للإقامة معنا في بحر قزوين، وتعرفوا على أبنائنا جيدا وصارت بينهم علاقة طيبة. ولا شك أن عناية الملك الحسن بنا نبعت من هذه الروابط. وعند ترحيبه الحار بنا في مطار مراكش، جاءت معه زوجته لالة لطيفة في استثناء خارج عن البروتوكول الملكي. وأنزلنا في فيلا عصرية جميلة ذات حديقة واسعة، بنيت في واحة خارج البلاد عند مدخل جبال الأطلس. وكانت والدة الملك الحسن الثاني وشقيقتاه وشقيقه في انتظارنا هناك للترحيب بنا. ومن نافذتي كنت أستطيع مشاهدة النخيل وأشجار البرتقال والزيتون، وتظهر عن بعد قمم الجبال مغطاة بالجليد. وجاء هذا الوضع الهادئ ملائما لزوجي، الذي أصابه الضعف، بسبب هذه الرحلة الأخيرة، وعلى الرغم من عبء الأحداث شعرت بسعادة تقريبا عندما رأيته يخلد إلى النوم. كان علينا أن نستمتع بأي شيء طيب تقدمه لنا اللحظة الحاضرة، وألا نستسلم للقلق، الذي كان يدفع بي أحيانا إلى الجحيم.
.. في ذلك اليوم 11 فبراير 1979، استمع الملك وجميع الإيرانيين الذين برفقتنا إلى إذاعة طهران، ونحن في فيلا مراكش، وبينما كنت أعبر القاعة سمعت: انتصرت الثورة، وانهار معقل الديكتاتورية. وظننت لثوان أننا انتصرنا. فبالنسبة إلي كنا الأخيار، وعم بالتأكيد معقل الفزع. ولسوء الحظ كانوا هم من فازوا للتو، فقد أطاحوا بآخر حكومة عينها زوجي.
ومثّل وصول الأولاد إلى المغرب، قبيل عامنا الإيراني الجديد، فرحة لنا غير متوقعة، وكان ركبنا قد تأخر في الذهاب إلى مطار مراكش، لذلك التقينا بالأولاد في منتصف الطريق إلى هناك. وتوقفت جميع السيارات، وارتمى كل منا بين أذرع الآخرين في وسط الطريق. ولم أكن قبّلت الصغيرين ليلى وعلي رضا منذ تركا «طهران» مع والدتي، قبل شهرين، وكانت الفترة أطول بالنسبة إلى «رضا» و«فرح ناز».
اضطر الشاه إلى مغادرة المغرب، أسابيع بعد سقوط نظامه، لأنه كان في حاجة إلى متابعة العلاج، ولم يعد خبر إصابته بالسرطان سرا. والمفارقة أنه اضطر إلى الذهاب إلى أمريكا، التي لم ترحب به حتى لا تزيد من توتر العلاقات مع النظام الجديد بقيادة الخميني. بينما بقي أفراد أسرته ضيوفا على المغرب، وحتى بعد رحيله، بقي المغرب وجهة مفضلة لأسرة الشاه، وهو ما احتفظ به أبناء الشاه، وأرملته بعد مرور نصف قرن على هذه الأحداث، ولا يزالون جميعا إلى الآن يحملون عرفانا كبيرا للمغرب والمغاربة.