الرئيسيةملف الأسبوع

قصص طيارين.. منهم من مات فقيرا ومنهم من يعيش بتقاعد الكفاف

حين طرحت إدارة شركة الخطوط الملكية المغربية ملف تسريح فئة من طياريها، طالبوا بتعويضات خيالية عن الرحيل، ولم يجدوا إحراجا في وضع سقف تعويضات جزافية تتراوح ما بين 500 و700 مليون سنتيم تعويضا عن رحيلهم.
لم تكتف الجمعية المغربية لربابنة الخطوط الملكية المغربية بهذا المطلب، بل التمست من الشركة ضخ رواتب الطيارين كاملة دون أي اقتطاع حتى ولو كان تحت طائلة جائحة كورونا. أكثر من ذلك فقد ذكر الربابنة مديرهم العام بدفع مبلغ 1500 أورو المحول بشكل شهري إلى حساباتهم في الخارج، وذلك حتى يتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم، حسب قولهم. وهي التزامات تتعلق بتسديد أقساط شقق اقتنوها في منتجعات بفرنسا وإسبانيا، طبعا دون اللجوء لمسطرة مكتب الصرف.
ورغم أن «لارام»، وعلى غرار كثير من الشركات العالمية، كانت قد أشعرت ربابنتها بقرار تخفيض رواتبهم بنسب تتراوح ما بين 10 و30 في المائة، وذلك نتيجة التوقف الاضطراري لجل أنشطتها عقب انتشار وباء كورونا، الذي فاقم عجزها المالي، فإن هذا الأمر لم يلق قبول فئة من الطيارين، الذين ظلوا يعتقدون أن الاقتطاعات لا تسري إلا على العاملين فوق الأرض.
يحيلنا شد الحبل بين الربابنة والخطوط الملكية المغربية على ربابنة زمان الذين كانوا عنوانا للتضحية والوفاء، فمنهم من مات فقيرا ومنهم من مات بتقاعد يمكنه من العيش حيا لا يرزق، ومنهم من ماتوا فداء للوطن وللمهنة تاركين خلفهم أسرا لا تملك سوى صور بالأبيض والأسود لزمن التحليق في السماء. ولأن المناسبة شرط فلا بأس من التوقف عند الرعيل الأول من الطيارين المغاربة، كابراهيم أكزول ومحمد القباج وعبد السلام بوزيان وقدور الطرهزاز وعبد اللطيف بوطالب وأحمد بن الحسين وعبد الله بامعروف وعبد الله عمار ونور الدين الخطيب وغيرهم من الصقور الذين ركبوا الأهوال دون أن تكون لهم حسابات بنكية.
في الملف الأسبوعي لـ»الأخبار» نعيد ترتيب مواقف جيل سابق من الطيارين المدنيين والعسكريين، ونتوقف عند تفاصيل حياتهم المهنية المليئة بالتضحيات.

محمد القباج.. نباهة ربان تجنب البلاد انقلابا جويا
رغم تكوينه العسكري، قرر محمد القباج الالتحاق بالخطوط الجوية الملكية كطيار مدني، مسلما الزي العسكري لأصحابه، وهو ما أتاح له هامشا أكبر للحرية، والاستجمام في دول العالم سيما وأنه كان حريصا على أن ترافقه زوجته السويسرية في أكثر من رحلة جوية. طلب الطيار إعفاءه من الحياة العسكرية لظروف شخصية، لكن رفاق دربه أكدوا أن الرجل كان يسعى للانفلات من القيود الصارمة للجيش، حيث كان يريد أن يقضي أكبر وقت ممكن بعيدا عن التعليمات الطارئة، إلا أن حرب الصحراء أعادته إلى الميراج من جديد حيث قاد غاراتها على الانفصاليين انطلاقا من القاعدة الجوية لأكادير.
ظل الطيار محمد القباج يعيش حياته بين الجو واليابسة، في رحلات جوية مدنية تربط المغرب بدول أخرى، قبل أن يتم استدعاؤه لقيادة الطائرة الملكية من نوع بوينغ 227 ومرافقة الملك الحسن الثاني في إجازته بفرنسا حيث كان مقررا أن يقضي شهرا كاملا. يقول القباج في حديث سابق للصحافي رمزي صوفيا إن المخابرات الفرنسية أشعرت الحسن الثاني بوجود تحركات داخل الجيش المغربي فاضطر إلى قطع إجازته ودعوة القباج إلى تجهيز الطائرة من أجل العودة على وجه السرعة إلى المغرب.
لكن يوم 16 غشت 1972، سيغير مجرى حياة الطيار، عندما نجح في إنزال الطائرة الملكية وعلى متنها الملك الحسن الثاني وشقيقه الأمير مولاي عبد الله ومجموعة من مرافقيه، على أرضية مدرج مطار الرباط ـ سلا، بأعجوبة رغم تعرضها لغارة جوية من انقلابيين هاجموها بثلاث طائرات مقاتلة.
حينها تألق نجم الربان الذي وجد نفسه في مواجهة زملاء الأمس. وبعد إحباط العملية الانقلابية باتصال لاسلكي للقباج بالقاعدة العسكرية للقنيطرة يعلن فيه وفاة الملك ومرافقيه، وهي الحيلة التي أوقفت الغارة، قرر الملك تعيين القباج قائدا للقوات الجوية مكان حسن اليوسي الذي كان يزاول هذه المهمة إلى جانب تدبيره «المكتب الثاني»، وتمت ترقيته إلى درجة جنرال.
عاش الرجل الواقعة بكل تفاصيلها المرعبة، وكاد يلقى حتفه في قاعة الاستقبال بالمطار، بعد غارة جوية ثانية انتهت بمقتل ثمانية أشخاص وجرح أربعة وزراء، نجا القباج بأعجوبة واضطر للاختباء في برميل، وحين توقف القصف تقرر نقله إلى المستشفى حيث قضى فترة نقاهة دامت شهرا كاملا على نفقة الملك.
قبل تقاعده تزوج القباج مرة ثانية من مضيفة طيران، واستقر بشقته في حي هادئ بالدار البيضاء، لينكب على كتابة مذكراته، التي أرخ فيها لمساره الطويل في الجو. كان الرجل يبحث عن عنوان للكتاب، وظل يبحث أيضا عن مترجم قادر على تحويل العمل إلى سيرة ذاتية على شكل رواية يتداخل فيها أدب الرحلات مع أدب الثكنات، لكن المنية داهمته في غضون سنة 1989، حيث لازم في أيامه الأخيرة شقته بسبب مرض لعين ألم به وحكم عليه بالعزلة، وهو الذي كان يمني النفس بإنهاء مذكراته التي حولته إلى ناسك متعبد..
ومن الروايات المرتبطة بالراحل القباج، أنه قاد نفس الطائرة الملكية إلى الديار المقدسة، وعلى متنها الملك الحسن الثاني، هناك أطلق عليها الراحل لقب «الحاجة البوينغ»، لأنها أخذت إلى مكة وغسلت بماء بئر زمزم بعد مرور سنة على المحاولة الانقلابية الفاشلة، وبعد أن قامت شركة «بوينغ» بترميمها، فيما أطلق اسم القباج على مؤسسة تكوينية.

عبد السلام بوزيان.. الطيار الديبلوماسي
تفوق هذا الولد الطنجاوي في مراحله الدراسية، في نهاية الأربعينيات وأصبح ضمن الجيل الأول للطيارين المغاربة سنة 1955، بعدما نجح في الوصول إلى المربع الذهبي لمحيط الملك الحسن الثاني خلال بداية الستينيات، ثم عين لاحقا في السفارة المغربية في واشنطن، وعاش مرحلة سنة 1967 من هناك، حيث كان في استقبال عدد من الجنرالات المغاربة الذين حلوا في مهام عسكرية بواشنطن.
في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي من طرف الملك الراحل محمد الخامس، وعد القصر الطيارين التسعة الذين شكلوا الفوج الأول للمغاربة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة الجوية الأولى، والتي كانت تقع في سلا.
أمسك الكولونيل عبد السلام بوزيان مفاتيح القاعدة، فيما سيصبح رفيقه في التخرج محمد القباج ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات.
سيحصل عبد السلام بوزيان على شارة الليوتنان كولونيل في واشنطن، سنة 1967، في شهر يونيو بالضبط، بعد أن حمل الجنرال إدريس بن عمر بنفسه تلك الرتبة لكي يقلد بوزيان بها رسميا. كان السياق زيارة إلى واشنطن ترأسها الجنرال إدريس بن عمر، بأمر مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني. وكان عبد السلام بوزيان يشغل وقتها رسميا منصب ملحق عسكري في السفارة المغربية في واشنطن.
تأبط الرجل ملفا سريا للغاية من الرباط، عندما أرسله الملك الحسن الثاني إلى السفارة في واشنطن. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرف فيها الملك على الكولونيل بوزيان عن قرب، بل سبقتها مرات أخرى تعود بالضبط إلى الفترة التي كان فيها الحسن الثاني وليا للعهد.
ففي سنة 1962 طلب بوزيان أن يقابل الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما تم في الثانية صباحا، ذات ليلة رمضانية. اللقاء تزامن مع توقيت وجبة السحور، وكان الملك الحسن الثاني مهتما بطلب الطيار بوزيان لقاءه، وكان الكولونيل القباج قد طلب وقتها إعفاءه من رئاسة قاعدة مكناس، وقدم طلبا وصف فيه أسباب طلبه الإعفاء بالشخصية. وخلفه الكولونيل بوزيان، الذي راكم بدوره تجربة في قاعدة سلا الجوية، وفي ذلك السياق طلب لقاء الملك الحسن الثاني لكي يخبره ببعض التفاصيل المرتبطة بتعيينات تلك القواعد العسكرية.
من طيار إلى ديبلوماسي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كانت المهمة الجديدة تمثل قمة ما وصل إليه الكولونيل عبد السلام بوزيان من حظوة مهنية وتقدير من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، سيما حين كلفه بمهمة نقل المؤونة الغذائية إلى متطوعي المسيرة الخضراء في طرفاية، وحين كلفه بمبادرات إنسانية كما هو الحال حين ضرب زلزال، بلغت قوته حوالي 5.3 درجات على سلم ريختر، مدينة المرج الليبية مساء الخميس 21 فبراير 1963، اعتبر من أعنف الكوارث الطبيعية التي شهدتها ليبيا في تاريخها المعاصر.
ولأن المغرب كان يرمم جراح زلزال أكادير، فإن الملك الحسن الثاني استدعى، فور علمه بخبر الفاجعة، كبار ضباط القوات الجوية التي كانت في طور النشأة، وطالب بوضع طائرات النقل الحربية رهن إشارة الحكومة في عملية المساعدة الإنسانية.
يروي الكولونيل الطيار عبد السلام بوزيان ما حصل تلك الليلة الممطرة: «تلقيت مكالمة من القيادة العليا للجيش، والتحقت صباحا بالقاعدة الجوية «الرباط/سلا»، أشعرت بتعييني من طرف الحسن الثاني القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية لقيادة الطائرة التي تحمل مساعدات المغرب لضحايا الزلزال، كما عين لنفس المهمة كل من البويري والحبشي ولمزوري وعريب، وتقرر حمل المؤونة عبر 12 طائرة عسكرية لكل واحدة منها مسار محدد، لكن تجميع المؤونة وإعداد الطائرات والتحضير التقني لرحلة جماعية تطلب ثلاثة أيام».

كوبي وبن سعيد وولد ميمونة.. صقور الشراردة
يعتبر عبد الكبير الشاوي الملقب بـ»كوبي» من أوائل الطيارين المغاربة الذين بصموا عن إنجازات كبيرة في عالم الطيران. ومن غرائب الصدف أنه عاد إلى مدينة سيدي قاسم ليعيش تقاعدا اضطراريا بسبب حالة انطواء مفاجئة لا يعلم أحد مسبباتها.
تقول بعض الروايات إن الطيار تأثر بسبب سقوط طائرته خلال فترة تدريب، وأن عائلة ثرية أخذته إلى أحد المستشفيات لكن حالته لم تتحسن، وفي المدينة نفسها برز اسم العقيد بن سعيد الطيار الذي كان مهووسا بكرة القدم، فائتمنه لحسن الدليمي على فريق الاتحاد القاسمي قبل أن يصبح رئيسا لعصبة جهوية، وعنصرا قياديا داخل اللجنة المركزية للتحكيم، ومات أسفا على الفريق الذي قدر له أن يعيش في دوري المظاليم.
يقول الباحث حمادي الغاري إن أبناء سيدي قاسم كانوا يزورونها بانتظام، وسرد قصة، الطيار ولد ميمونة، الذي «كان يأتي بطائرته إلى سيدي قاسم في ستينيات القرن العشرين، وينزل بها بالمصلى قرب حي صحراوة، الحي الشعبي الشهير، ويترك طائرته في أمان الله وحفظه ويتوجه صوب بيت الوالدة، بالحي المذكور لزيارتها وتناول كأس شاي معها قبل أن يعود إلى الطائرة، التي يحرسها الأطفال والرجال المتحلقون حولها، ويصعد إليها ثم يطير بها إلى وجهته المعلومة، إنه ولد ميمونة الذي يصفه الناس بمرضي الوالدين».
كان ولد ميمونة يعمل في واحدة من القواعد العسكرية بالغرب، وبالتالي كان لا يرى بأسا في استغلال الفرصة والهبوط بطائرته من أجل زيارة والدته، والعودة من حيث أتى بعد أن يكون تزوَد برضى الوالدة ودعائها له، يقول نفس المصدر.
«الشيء العجيب هو أنه لا أحد من السلطات المحلية بسيدي قاسم، في ذلك الزمان، تحمل عناء التنقل إلى المصلّى، لمتابعة مشهد هبوط طائرة ولد ميمونة وصعودها، ثم إقلاعها، في أمن وأمان. ولا أحد جاء للاستفسار عن هذا العمل، ولا أحد رغب في لقاء ولد ميمونة والتعرف عليه وعلى هويته»، قبل أن يصدر قرار بمنع ركوب الطائرات لأغراض خاصة بعد الغارة الجوية على الطائرة الملكية سنة 1972.

ثريا الشاوي.. عنوان للشهامة والوطنية والكبرياء
بدأت حكاية نبوغ الشابة ثريا الشاوي بوصفة غريبة من رجل عركته التجارب وهو والد الفتاة التي كانت مصابة حينها بمرض صدري، فقد نصح بأن يتوجه رفقة ابنته من فاس إلى مطار المدينة ويتوسط عند أحدهم ليقوم بجولة بالطفلة في السماء، حتى تستنشق الأوكسجين الصافي، فهو شفاء لحالتها. قبل الأب المغامرة وبحث عمن يساعده على تحقيق وصفة الطيران فكان ما كان: «صعدت ثريا ونزلت وقد لقحت بلقاح التحليق في الأعالي».
ما أن نالت شهادة الباكلوريا تخصص علمي، حتى قررت الالتحاق بمدرسة تيط مليل بالدارالبيضاء، التي انتقلت إليها كل العائلة. كانت لا تزال في الـ18 من عمرها حين ولجت المدرسة وهي المغربية الوحيدة بين الفرنسيين والإسبان والإيطاليين.
ظلت الطيارة المغربية ثريا الشاوي تشكل قلقا حقيقيا للسلطات الاستعمارية وللبوليس السياسي بعد الاستقلال، وهي التي قدمت ملتمسا للسلطات الاستعمارية من أجل إنهاء مسلسل الاعتقالات الذي طال عددا كبيرا من الوطنيين، وعلى الرغم من حالة الغضب التي انتابتها بعد نفي الملك محمد الخامس، إلا أن صرخاتها لم تجد صدى لدى سلطات الحماية التي اعتبرت إبعاد محمد الخامس بمثابة تهريب للقضية بعيدا عن انشغالات الرأي العام.
شاءت الأقدار أن تموت ثريا بعد أقل من سنة على انبلاج صبح الاستقلال، فصنف مقتلها في خانة الجرائم السياسية، وأجمع الكل على أن تزامن رحيلها مع الذكرى الأولى لاستقلال المغرب فيه كثير من الإشارات لمن يهمه الأمر، خاصة وأن رحيلها في فاتح مارس 1956 ألغى كثيرا من الطقوس الاحتفالية لليوم الموالي (2 مارس) التاريخ الرسمي لذكرى عيد الاستقلال.
منذ أن أصبحت قائدة طائرة، ظلت ثريا الشاوي عرضة لغارات البوليس السياسي، في فترة دقيقة من حياة مغرب خرج للتو من قبضة الاستعمار الفرنسي، قبل أن يتم اغتيالها في ظروف ميزها كثير من اللبس والغموض.
لا توجد الكثير من الكتابات حول مقتل ثريا، باستثناء ما جاء في كتاب لعبد الحق المريني، الذي أخرجته للوجود مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، وكتابات صحفية للباحث في ذاكرة المقاومة لحسن لعسيبي، الذي قال إن حياة ثريا تستحق أن تكون «قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد».
يروي عبد الحق المريني الساعات الأخيرة من حياة ربانة الطائرة المغربية الشاوي، فيقول: «في عشية فاتح مارس 1956 غادرت ثريا معهد الأميرة لالة آمنة على الساعة السادسة والربع، وكانت ثريا الشاوي من مؤسساته، بعدما ودعت شريكاتها في العمل. وقالت لهن إني على أحر من الجمر، أريد أن أرى ثمرة كفاح الشعب المغربي الأبي. عند وصولها إلى باب المنزل نادت أمها، وأخبرتها بأنها على موعد مع لجنة نادي الطيران الملكي، في الساعة السادسة ونصف. ولكن في نفس اللحظة، أي في الساعة السادسة وعشرين دقيقة كان أمر الله قدرا مقدورا. وأسلمت ثريا الروح إلى العلي القدير. لقد أتاها القاتل الغدار من الخلف، ووجه لها الضربة القاضية بطلقة مسدس على مستوى الرأس».

الطيار ياسين.. تقاسم تدوينات فايسبوكية من الحرم المكي قبل الرحيل
أجمعت الروايات التي أعقبت سقوط المقاتلة المغربية إف 16، التي أقلعت من السعودية، أن الطيار المغربي ياسين بحتي اختار طوعا الانخراط في عملية الحزم، علما أن سنه لا يتجاوز 26 سنة، وهو ما أشار إليه الضابط في تدويناته الفايسبوكية. قالت الرواية الرسمية على لسان ضابط من الجيش المغربي بأن الطائرة المغربية سقطت بسبب عطب تقني، واعتبر أثناء تشييع جثمانه شهيدا.
أفاد والد الطيار المغربي المفقود باليمن بأن ضباطا من الجيش المغربي اتصلوا به وأكدوا بأن الطائرة المغربية سقطت بسبب عطب تقني وأن الله حقق أمنيته بدفن جثمان ابنه في المغرب، وظل والد ياسين خلال النكبة يمني النفس بالإفراج عن الجثة، «أدعو من الله العلي القدير أن يفرج عليه، وأطالب السلطات المغربية بالقيام بالواجب حيال ياسين لأنه كان في خدمة الوطن، علما أنه يعد أصغر طيار ضمن المجموعة المشاركة في غارات على الحوثيين باليمن».
وفي آخر ساعات حياته ظهر ياسين في إحدى الصور من حسابه بموقع الفيسبوك، وخلفه الكعبة المشرفة، وهو يرتدي لباس الإحرام، حيث كان يؤدي مناسك العمرة بالديار المقدسة، وظل يرد على تعليقات التبريك من أهله وأصدقائه.
قضى الطيار المغربي ياسين بحتي قرابة الشهرين في مهمة بالخليج العربي، حين أرسل المغرب سرب طائرات إف-16 إلى الإمارات العربية المتحدة في العام الماضي، للمشاركة ضمن التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، ومع انتهاء العملية تلقى ياسين إشارة بالعودة إلى المغرب على غرار طياري التحالف الدولي. وفي منتصف أبريل عاد من جديد إلى الخليج العربي لكن في إطار مهمة أخرى في المملكة السعودية ضمن ما يعرف بعملية الحزم.
استقبل الملك محمد السادس والد الطيار ياسين بحتي، ومنحه وسام النجم الحربي، وذلك تقديرا للخدمات والتضحيات التي قدمها ابنه.

عندما حلقت الربانة ماريس في سماء وجدة لغاية إنسانية
تحتاج سيرة ماريس باستيي التوقف عندها للتأمل في إصرار فتاة على ركوب التحدي مهما كان الثمن. فقد ولدت ماري يوم 27 فبراير سنة 1898 في مدينة ليموج الفرنسية، وتوفيت في مدينة بورن يوم 6 يوليوز 1952، وفي رصيدها رقم قياسي في ساعات التحليق الجوي، كما أنها حطمت رقما قياسيا في تخليد اسمها الذي أطلق على أكثر من شارع ومدرسة ومسرح ومدارس لتكوين فن الطيران.
ولدت ماريس في بيت صغير بزنقة «بومونت» في ليموج، وهو الزقاق الذي يحمل اليوم اسمها، عاشت حياة اليتم بعد وفاة والدها وعمرها لا يتجاوز عشر سنوات، ساعدها زوجها السرجان على دخول المغامرة، وفي شهر شتنبر من عام 1925 حصلت على شهادة الكفاءة المهنية في الطيران، وأمام استغراب لجنة الاختبار تمكنت من التحليق دون خطأ في أجواء مدينة بوردو الفرنسية، والأغرب أن تمارس تحليقا استعراضيا خلال الاختبار التطبيقي.
بعد عام واحد من حصول ماريس على شهادة الطيران، توفي زوجها الطيار برتبة رائد، في حادثة جوية خلال نزوله أرض المطار في ظروف مناخية مضطربة، حينها قررت المرأة الثكلى أن تخصص ما تبقى من حياتها لتكوين جيل جديد من الربابنة لكن التجربة دامت ستة أشهر قبل أن يتم إغلاق مدرسة التكوين في فنون الطيران، حينها قررت شراء طائرة خاصة بها تمكنها من التحليق متى شاءت.
لكن حلمها الكبير كان هو إنشاء مدرسة لتكوين الطيارين، وهو ما تأتى لها في مطار أورلي حيث أنشأت «مدرسة ماريس للطيران»، كما شاركت في الحرب العالمية الثانية وكانت تقطع المسافات بين باريس والجزائر أو الدار البيضاء كل أسبوع، لكنها كانت تتوقف في وجدة المدينة التي نسجت معها علاقة مودة وحرصت على زيارتها كلما حلقت نحو الجزائر، بل إنها نظمت مبادرات إنسانية في ثانوية البنات بوجدة والتي حملت اسم ماريس قبل أن يحصل المغرب على الاستقلال.
ساندت السجناء الفرنسيين المعتقلين في سجون ألمانيا ما جعلها تتعرض لهجوم من طرف متطرفين ألمان أحدثوا بذراعها عاهة دائمة حالت دون قيادتها للطائرات، لكنها أصرت على التحليق فماتت في حادث جوي يوم 6 يوليوز 1952 بمطار ليون، ودفنت في باريس بمقبرة مونبرناس وهي برتبة قبطان.

الطاهري.. الطيار الرافض للتقاعد
كتب للطيار إبراهيم الطاهري أن يموت وهو ممسك بمقود طائرة خفيفة في حادث مأساوي بضواحي القنيطرة خلال شهر غشت الماضي. لا أحد كان يتوقع أن تكون خاتمة الطاهري على هذا النحو، وهو الذي ركب أهوال الجو مدنيا وعسكريا بميزة جيد جدا.
الراحل من مواليد 1948 بالعاصمة الإدارية الرباط، وهو من قدماء ربابنة القوات الملكية الجوية، بحيث عمل كطيار في السبعينات تتلمذ على يده العشرات من الطيارين، الذين يشتغلون في شركات طيران عالمية، ويعتبر من أحسن المدربين على الصعيد الوطني.
اشتغل في بداية مشواره في مجال الطيران العسكري بالرباط ومدن أخرى، التحق بمديرية الطيران المدني، وعمل بمطار طنجة كتقني لأزيد من 22 سنة إلى أن نال شواهد أهلته ليكون مدربا للطيران، وكان يسهر على التكوين بالنادي الملكي للطيران، قبل التحاقه بمديرية الطيران بالرباط حيث اشتغل أيضا مشرفا على امتحانات الطيران.
«أحيل الطاهري على التقاعد، غير أنه اختار مواصلة تلقين طلبة الطيران والطيارين المتدربين دروسا تطبيقية في المجال، وكان يساعد جميع أندية الطيران بالمغرب، بدون استثناء، ومن ثم حظي باحترام وتقدير كبيرين من قبل رؤساء الأندية والمسؤولين على الصعيدين الوطني والدولي»، كما ورد في تصريحات لأفراد عائلته. ومن المفارقات الغريبة أن يعبر الطاهري لرفاقه عن رغبته في زيارة القاعدة الجوية بالقنيطرة وحين كانت سقطت الطائرة التي كانت تحلق في سماء المدينة، اقتيدت، بعد نقل جثمانه هو والشاب المتدرب، إلى القاعدة العسكرية التي كان يأمل أن ينعم بزيارتها.

أنطوان.. الطيار الفرنسي الأديب العاشق لطرفاية
أنطوان دو سانت إكزوبيري ليس مجرد طيار، بل إنه مفرد بصيغة الجمع، ربان وكاتب ورسام، من مواليد 1900 في مدينة ليون الفرنسية وهي مسقط رأسه، إلا أن مسقط قلبه كان في مدينة طرفاية المغربية، رغم أنه عاش لمدة عامين فقط في هذه المدينة المغربية إلا أن متحفا في طرفاية يخلد عبوره المميز، فهو متحف للبريد الجوي تأسس المتحف سنة 2004، وهو مخصص للطيار الإنساني الشهير الذي عاش في طرفاية ما بين 1927 و1929.
تعتبر قصته التعبيرية المشهورة «الأمير الصغير» من أشهر قصص أدب الأطفال في العالم. ومن أعماله الروائية الأخرى: «أرض الرجال» و»طيار الحرب»، حاول في رواياته أن يعثر على معاني كل سلوكيات مجتمعه وأن يحلل القيم الأخلاقية في أوساطه. كما انكب في طرفاية على رسم الصحراء ومشاهدها الساحرة.
عشق سانت إكزوبيري مهنة الطيران وكان يجد متعة في التحليق فوق رمال الصحراء، وأصبح أحد رواد الطيران البريدي الدولي، في الأيام التي كان لدى الطائرات عدد قليل من الأدوات، عمل في آيروبوستال بين تولوز والمغرب ودكار، ثم أصبح أيضا مدير ترانزيت الخطوط الجوية لمطار كيب جوبي في المنطقة الإسبانية في طرفاية، شملت واجباته التفاوض بشأن الإفراج الآمن عن الطيارين المفقودين الذين أخذوا كرهائن من قبل قبائل الصحراء، وهي مهمة محفوفة بالمخاطر أكسبته أول وسام وهو وسام جوقة الشرف من الحماية الفرنسية.
لاقى حتفه عام 1944 في أعقاب إحدى المهمات الاستطلاعية، ولم يعثر على جثمانه إلا في سنة 1988 على الساحل الفرنسي قبالة مدينة مرسيليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى