الرأي

كتاب الخليقة

بقلم: خالص جلبي
كان مشروع الجينوم البشري أو هوجو (Human Genom Project = HGP) أو مشروع كريج فينتر (TIGR) لفك الشيفرة الوراثية أعظم من مشروع (ناسا NASA) لارتياد الفضاء؛ لأنه قام بارتياد أسرار الإنسان، ووضع اليد على كامل التركيب الإنساني لنا معشر البشر، والاقتراب من فهم طبيعة الإنسان، ومع كل خطوة نقترب فيها من فهم الإنسان يمكن التحكم فيه أكثر فنحسن التوجيه؛ أو ربما تدميره.

مخاطر خمسة تهدد الجنس البشري
اعتبر المفكر الفرنسي (جاك أتالييه) في كتابه «آفاق المستقبل» أن الجنس البشري مهدد بخمسة أخطار أساسية، في مقدمتها التلاعب بالجينات ووضع اليد على خارطة المورثات، ما أسمته المجلة الألمانية «بيتر موسولايتنر» يوم الخلق الثامن! ويأتي بعدها السلاح النووي أو أسلحة الدمار الشامل (الكيماوي) مثل الذي استخدمه النظام السوري في غوطة دمشق في 21 غشت من عام 2013، فقتل أكثر من 1400 إنسان بمن فيهم الأطفال، أو البيولوجي وهو ألعن ويمكن فهمه مما حدث من جائحة كورونا عام 2019، ثم المخدرات وتلوث البيئة، ولكن أخطرها على الإطلاق هو تصدع الفوالق الطبقية من الغنى والفقر، بين الشمال والجنوب. واعتبر (والتر جيلبرت)، الحائز على جائزة نوبل، والذي كان يعمل في مشروع الجينوم البشري أننا بصدد وضع أيدينا على كنز راقد في قاع المحيط منذ مئات الملايين من السنين، وبفضل فك الشيفرة الوراثية عند الإنسان سنضع أيدينا على كنز البيولوجيا وكهفها السري. أما الأمريكي (لاي تومسون Leigh Thompson)، الخبير في التقنية الحيوية، يرى أن الجينات سوف تغير طبيعة الحياة على الأرض من أساسها وبشكل جذري. أما (كريج فينتر Craig Venter) الذي خطط لفك الشيفرة الوراثية في ثلاث سنوات، فرأى أن هذا العمل هو أنه انتهاء عصر الجهل بالإنسان. وكشف الخريطة الوراثية عند الإنسان معناه وضع اليد على (كاتالوج تشغيل) لجهاز في غاية التعقيد اسمه الإنسان. وكان تعاملنا معه حتى الآن تحت قانون الخطأ والصواب والإكراه، وكان التشغيل فيه على غير علم ثابت الأسس. لنتصور أنفسنا نحضر جهاز فيديو إلى البيت بدون كاتالوج مرافق. إن وضع اليد على خارطة التشغيل يمكننا من معرفة أفضل صفاته، وميزة التعامل معه بفهمه وليس إكراهه.

ما العقل؟ ما الحرية؟ ما الكرامة؟
عالم النفس السلوكي (سكينر Skinner) من المدرسة السلوكية (Behaviorism)، مضى خطوة أبعد عندما تفاءل بفهم السلوك الإنساني وضبطه، كما يضبط مسار سفينة فضائية أو عملية حسابية معقدة، بحيث يمكن فهم سلوك الإنسان وصولا إلى التحكم فيه مرتبطا بمجموعة من حركات التشغيل، إلى درجة اعتبار العقل الإنساني أعمى، وأن ما يسمى الحرية أو الكرامة الإنسانيتين لا يزيد على وهم. والنتيجة نفسها وصل إليها عالم الاجتماع العراقي (الوردي) في دراسته التاريخية الموسوعية المميزة عن المجتمع العراقي الحديث، عندما تعرض لفهم الطبيعة البشرية؛ فاعتبر أن ما يسمى العقل لا يزيد على عضو يفيد في تنازع البقاء، مثل خرطوم الفيل وناب الأفعى ودرع السلحفاة وسيقان النعامة.
إن العقل لا يبحث عن الحقيقة بل مصلحة بقائه، وهذا يفسر سبب التنازع الإنساني ومرض التحيز والاقتناع الراسخ بصحة موقف أحدنا؛ بل وأحيانا نركب رؤوسنا عنادا وتبجحا وبطرا ورئاء الناس، وأن ننظر في الآخر أنه يسبح في بحيرة من الضلال المبين لا ذرة للشك فيه ولا ريب، وهكذا مضت سنة الأولين.

بداية رحلة اكتشاف الإنسان
في عام 1865 م تقدم راهب نمساوي بورقة بحث من 55 صفحة عن ملاحظاته على صفات الوراثة عند نبات البازلاء، ولم يلتفت أحد أو يعطي البحث المصداقية أو القيمة، وهكذا تمر العديد من الكشوفات الإنسانية الهامة، حتى يتم إحياؤها بطريقة جديدة مختلفة.
تقدم (ماندل) بثلاث أفكار أساسية عن انتقال الصفات الوراثية من خلال تزاوج النباتات، بين طويلة وقصيرة ومجعدة وملساء وأخرى في سبع صفات، حاول في كل مرة أن يدمج صفتين، فاكتشف ثلاثة قوانين ما زالت صامدة حتى يومنا هذا، وعرف ارتباطها بالتركيب الجيني داخل النواة، طبقا لمعلوماتنا الأخيرة، فالصفات يتم توارثها من خلال جهاز في غاية التعقيد والدقة والتنظيم. وعرف أن الصفات نوعان، نوع أول مسيطر سائد، والآخر متنح مختف. وعندما تظهر صفة فلا يعني أن الأخرى اختفت إلى الأبد، بل هي كامنة تنتظر دورها لتعلن عن نفسها (نموذج مرض ALD = Adrenoleukodystrophy)، الذي تحمله الإناث ويظهر غالبا في الذكور، ويقضي على المصاب في سنوات قليلة، بسبب تأثر الجهاز العصبي في (عدم تكسر الحوامض الدسمة طويلة السلسلة) وهو من الأمراض النادرة للغاية، صعبة التشخيص؛ فإذا حل بصاحبه أورثه العطب، كما روى لي أخ فاضل أصيب به بعض من أفراد عائلته، فمنهم من مرض ومات أحدهم عن عمر 12 عاما. كذلك عرف (ماندل) أنه لا تمتزج الصفتان الوراثيتان، وتنتظر الصفة المتنحية الغائبة المختفية وقتها لتطل برأسها ولو بعد حين في الأجيال اللاحقة. ومن قصصه العجيبة أيضا قصة القيصر الروسي الأخير نيقولا الثاني، آخر ملوك عائلة رومانوف، وإصابة ابنه ولي العهد بين خمس بنات بمرض (الناعور Haemophilia)، منقولا له من جدته البريطانية الملكة فيكتوريا؛ فالمرض تحمله الإناث عن طريق الكروموسوم الأنثوي الضخم (x)، ويظهر على الذكور حاملي الكروموسوم الذكري الصغير (y)، فسبحان من خلق فسوى وقدر فهدى.

الصفات نوعان، نوع أول مسيطر سائد، والآخر متنح مختف. وعندما تظهر صفة فلا يعني أن الأخرى اختفت إلى الأبد، بل هي كامنة تنتظر دورها لتعلن عن نفسها (نموذج مرض ALD = Adrenoleukodystrophy)، الذي تحمله الإناث ويظهر غالبا في الذكور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى