شوف تشوف

الرئيسية

كيسنجر يتعلم من حكماء العرب

هل رغب الشيخ زايد بن سلطان في خلط المفاهيم والمعاني، أم أنه كان يتعمد الإشارة إلى المد الشيعي، وهو يوجه أصبعه نحو أماكن تغلغل الزحف الشيوعي في اتجاه المياه الدافئة؟ الرجل كان قليل الكلام، يفكر في ما يقوله طويلا، ويعني ما يعنيه بأسلوب تمتزج فيه البداوة وسعة الأفق. وحين نعت البعض حياة الصحراء بأنها تساعد في تأمل الطبيعة، كانوا يقصدون أن امتداد البصر الذي يخترق كثبان الرمال، لا يختلف عن إمداد حياة البداوة بشحنات قوية تمتد إلى ما وراء الأفق المرئي.
كذلك هي حياة الصحراء، تأنس الألفة وتأوي الغرباء، فتعلم الحكمة وهدوء الطباع، وإذا بها تصبح مدرسة في سبر الأغوار واستخلاص العبر. وروى مهندس سياسة الخطوة – خطوة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، أنه أعجب بذكاء وفطرة حكام المنطقة العربية في الخليج، لأنهم كانوا صرحاء يسألون عما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في حال تعرضت بلدانهم إلى مخاطر، يقصدون بها مضاعفات الحرب الباردة واستمرار التعنت الإسرائيلي. لكن الشيخ زايد بن سلطان كان يضيف إليها المد الشيعي كون بلاده عانت ولا تزال من احتلال إيران جزرها الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبي موسى.
فالاحتلال لا يكتفي بقضم الأرض والتوسع على حساب حقوق الغير، ولكنه يغير طبيعة الحياة والعلاقات والقيم. ومثله يكون أي توسع مذهبي أو طائفي أو إيديولوجي، يجهز على ما تبقى من نسخة الأمل. وإنه لواقع مثير للدهشة أن تلتقي سياسات وأطماع عند عمق العالم العربي شرقه وغربه بنفس التوقيت والأهداف والأدوات.
سمعت من الوزير الأول المغربي المعطي بوعبيد ما يفيد أن المد الشيعي والشيوعي كان يؤرق رئيس دولة الإمارات. فقد زاره مرة في مقر إقامته في الرباط وأسر له الشيخ زايد بأن الشيوعيين والمغالين في تصدير المذهب الشيعي يهتمون أكثر بفرض الهيمنة والتبعية على العالم العربي. وحين نقل أفكار حكيم العرب إلى الملك الحسن الثاني، قال له الأخير: إن الشيخ زايد رجل حكمة وبعد نظر. ما يفسر كيف أن حوار القائدين يلتئم في كل مرة تداهم العالم العربي تحديات مصيرية، إذ تلتقي تحليلات استراتيجية مع استخلاصات واقعية ملموسة تنطلق من التربة وتعود إليها في شكل خيرات وثروات تسيل لعاب الطامعين، فقد كان الشيخ زايد وحدويا. وبدأ بضم إمارات بلاده إلى كيان واحد، وفطن مبكرا إلى تهديد الحركات الانفصالية التي حاولت أن تتخذ من «ثورة ظفار» في سلطنة عمان قاعدة انطلاق، لولا أن التيار الوحدوي تغلب في النهاية، وجرى إدماج الراديكاليين حملة السلاح في مشروع تبناه السلطان قابوس بن سعيد مبكرا.
منذ أكثر من أربعة عقود تطابقت أهداف في الربط بين «ثورة ظفار» وانطلاق بوادر الحركة الانفصالية في الصحراء. وكما في جنوب سلطنة عمان انبرى شباب غاضبون تحت تأثير قناعات إيديولوجية محلية إلى التفكير في إقامة كيان انفصالي، انطوى في أبعاده الاستراتيجية على تفتيت الإمارة العمانية، سارع شباب يتحدرون من أصول صحراوية، إلى الافتتان بالتجربة ومحاولة تقليدها، بعد أن دخل على الخط وهم «التغيير الإيديولوجي» القادم من جنوب المغرب.
الشيخ زايد بن سلطان كان واعيا بمخاطر اللعبة، لذلك لم تتوقف مساعيه عند التحذير من اللعب بالنار. بل إنه توسط في مناسبات عديدة، من أجل تطويق الأزمة، وكان يسأل دائما عما يريده أولئك الذين زجوا بأنفسهم في مغامرات انفصالية. ولم يتنازل أبدا عن اعتبار سيادة ووحدة الدول خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه. بل إنه فتح خيوط الاتصال مع السلطات الجزائرية، وكان يعطي المثل بتجربة بلاده الوحدوية التي حققت نهضة لافتة، ليس بفضل الموارد التي يختزنها باطن الأرض فحسب، ولكن تأسيسا على مفهوم الوحدة المتضامنة بين أجزاء الوطن الواحد.
في آخر زيارة للملك الحسن الثاني لدولة الإمارات العربية المتحدة، أبان أهل البلاد عن مظاهر الفرحة والاعتزاز، والتقط عن وزير الإعلام الإماراتي قوله إن ثقافة النسيان التي بشر بها المغاربة، خلال تلك الجولة، من أجل رأب الصدع بين الدول العربية والعراق تحديدا. إما تنجح في إعادة جمع الشتات الذي انفرط على خلفية تهور النظام العراقي، وإما ستواجه مخلفات لا حصر لمضاعفاتها. وكان يشير بذلك إلى الأطماع الإيرانية التي رأى أنها لن تتوقف.
خرج العراق منهكا وممزقا من حرب الخليج الثانية، وتحول انتصاره على إيران إلى هزيمة، ظل يجر أذيالها عبر السنوات المتلاحقة. لكن نهاية الحرب الباردة أرخت لنهاية تحالفه مع الاتحاد السوفياتي. ثم جاء زمن لم تمانع فيه روسيا من التحالف مع إيران لاسترداد ما تعتقده أمجاد حرب أفلت. والظاهر أن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كان يفكك التركيبة اللغوية بين الشيوعية والشيعة بمنطق سياسي وليس لغويا.
كان لديه شعور فاجع بأن التاريخ يكرر نزواته وهفواته. كثيرا ما كان يعبر عنه بلغة بسيطة مفعمة بالألغاز والاستقراءات بعيدة المدى. ولم يقل هنري كيسنجر جديدا حين أفاد أنه كان يتعلم من حكماء العرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى