شوف تشوف

الرأي

«مارشال» العربي

إذا صح ما نشر عن الاتجاه إلى وضع خطة لإعادة بناء ما تهدم في بعض دول الربيع العربي، فإننا نصبح بإزاء بادرة إيجابية في الوقت المناسب. أتحدث عن التقرير الذي نشرته صحيفة «الشروق» يوم السبت الماضي، الذي تحدث عن خطة «مارشال» التي طرحتها دولة الإمارات وهي الآن بصدد التشاور مع البنك الدولي لإطلاقها، حيث قيل إنها تشمل في مرحلتها الأولى إعادة إعمار ثلاث دول هي سوريا واليمن وليبيا. وإذ أشار التقرير إلى أن الخطة ستكلف عشرة مليارات دولار، فإن البعض يرى أنها قد تكلف ضعف ذلك المبلغ. وفيما فهمت من الكلام المنشور فإن طرح الفكرة تزامن مع ما تردد عن قرب التوصل إلى تسوية سياسية في كل من سوريا واليمن، وأن شمول المشروع للوضع الليبي وثيق الصلة بنتائج المشاورات الجارية الآن بين السعودية وقطر لمحاولة إنجاح الجهود الرامية لاستقرار الوضع الليبي وإنجاح التسوية السياسية بين الفرقاء المتصارعين هناك.
إشارة التقرير إلى خطة مارشال تتضمن إحالة تستلهم فكرة المشروع الذي أطلقه الجنرال جورج مارشال رئيس أركان الجيش الأمريكي لإعادة تعمير أوروبا بعد الدمار الذي حل بها أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد أعلن الرجل عن مشروعه من جامعة هارفارد في عام 1948، بعدما عين وزيرا للخارجية. وتحدث عن 13 مليار دولار تسهم فيها الحكومات الأوروبية لإنعاش اقتصاد القارة المنهار. وهو المشروع الذي لا يزال يثير اللغط بين الباحثين، الذين يرى بعضهم أنه أنعش الاقتصاد الأوروبي حقا، في حين ذهب آخرون إلى أن الولايات المتحدة أرادت به وقف المد الثوري الذي ظهرت تجلياته في فرنسا وإيطاليا، إلى جانب بسط الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على أوروبا وتنصيب الدولار سيدا على القارة. ورغم أن الاتجاه الأول رصد النتائج التي تحققت في حين أن أصحاب الرأي الآخر ركزوا على النوايا والمقاصد، إلا أن الثابت أن المبالغ التي جرى إنفاقها في أوروبا وقتذاك كان لها إسهامها الذي لا ينكر في إنعاش اقتصاد القارة.
قلت إن المبادرة الإماراتية جاءت في الوقت المناسب، ذلك أن الدمار الذي ترتب على الصراعات في الدول الثلاث التي سبق ذكرها أعادها مئة سنة إلى الوراء، ناهيك عن أنه أوقع بعضا من الخسائر التي لا يمكن تعويضها، وهي تلك التي أدت إلى تدمير الآثار بأيدي بعض الجهلاء أو نهبها بواسطة اللصوص وعصابات الاتجار فيها. وهذا الدمار لم يصب العمران فقط ولكنه أصاب الاقتصاد أيضا ــ الأمر الذي يعني أن علاجه قد يستغرق عقودا، أما معاناة الناس بسببه فمما يصعب احتماله أو استمراره.
لدي ملاحظة تتعلق بخلفية المبادرة وأخرى تنصب على آلية تنفيذها. وهو مما لا ينبغي أن يقلل من الحفاوة بها أو من تقدير مشاعر النخوة والشعور بالمسؤولية التي تكمن وراءها. وما دعاني إلى التطرق إلى الخلفية أنني لاحظت في التقرير الذي نشرته جريدة «الشروق» أن الدول العربية الثلاث التي أشير إليها دمرت بسبب الربيع العربي، ورغم أن ذلك التوصيف يمكن أن ينسب إلى الجريدة وليس إلى دولة الإمارات إلا أنه مع ذلك يستحق المراجعة والتصويب، خصوصا أن ثمة أصواتا تتردد في العالم العربي تحاول تشويه الربيع العربي وتصنف حراك الشباب وانتفاضة الجماهير بحسبانها نكسة حينا ومؤامرة حينا آخر، وفي بعض الدول العربية من يحرض على وصفه بأنه «خريف» أو «خراب» عربي. وحقيقة الأمر أن الدمار لم يحدث بسبب الربيع، ولكنه كان من فعل الاستبداد والطغيان العربي. فالمظاهرات التي خرجت منادية بالتغيير كانت كلها سلمية والهتافات والشعارات التي ترددت أطلقها أناس عزل لم يحملوا سلاحا، وما خطر ببالهم أن يريقوا دما. لكن الأنظمة المستبدة التي تملك السلاح ولديها رصيدها من الشبيحة والبلطجية والقناصة هي التي قاومت الجماهير وأصرت على قمعها وسحقها. فالذي دمر سوريا هو نظام الرئيس الأسد والذي دمر ليبيا هو العقيد القذافي والذي أشاع الخراب والفوضى في اليمن هو نظام الرئيس السابق على عبد الله صالح الذي تحالف مع الحوثيين وشجعهم على الاستيلاء على صنعاء والزحف إلى عدن. ولن أتحدث عن الخراب الذي أحدثه نظام مبارك في مصر أو نظام بن علي في تونس أو الاحتلال أمريكي في العراق. الشاهد والخلاصة أن الربيع العربي بريء من الدمار الذي حدث في أي قطر عربي، ولكن الظلم والاستبداد هو الذي أدى إلى فساد العمران، كما قال ابن خلدون بحق.
أما في تنفيذ المبادرة فينبغي أن يحسب إطلاقها حقا لدولة الإمارات لكنني أزعم أن تبنيها من جانب مجلس التعاون الخليجي أو الجامعة العربية يمكن أن يكون أصوب وأحكم. ليس فقط لأن العبء ثقيل وليس من العدل أن تحمله دولة واحدة أو اثنتان، ولكن أيضا لأن هذه فرصة تاريخية لتفعيل التعاون الخليجي وتعزيز دوره في النهوض بالمنطقة. وللعلم فإن مشروع الإنعاش الأوروبي كان اقتراحا أمريكيا حقا، لكن حكومات الدول الأوروبية أسهمت فيه وكان لها دورها في تمويله وإنجاحه، وإضافة إلى ذلك فإن الإنعاش المنشود للدول الثلاث يتطلب إلى جانب التمويل خبرات وكفاءات بشرية، لا تستطيع دولة الإمارات أن توفرها من خلال كوادرها.
إننا أمام تحد كبير يتطلب إنجازه وقتا طويلا، لكن الإعداد الجيد له كفيل بتحقيق الإنعاش المطلوب إذا أخذت خطوات التنفيذ على محمل الجد. وفي هذه الحالة فإن المردود سوف يتجاوز الدول الثلاث ليشمل العالم العربي بأسره. علما بأن الحرب على الفساد وإنعاش الاقتصاد المؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية كان ولا يزال بين أهداف الربيع العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى