شوف تشوف

شوف تشوف

متى يعلنون وفاة العرب؟(2/1)

للشعراء والروائيين الحقيقيين قدرة هائلة على استشراف المستقبل، ولذلك دأب النقاد ذوو الفراسة على نعت الشاعر والروائي الحقيقي بالرائي، أي أن هؤلاء الأدباء يمتازون بالقدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون، وهي رؤية أقرب ما تكون إلى رؤية الصوفية، والتي لخصها مولانا محمد بن عبد الجبّار النفّري‎ بجملته الفريدة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».
وخلال تتبعي لما يحدث اليوم من زلازل وشروخ في منطقة الشرق الأوسط، بسبب الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي، وغضب المملكة العربية السعودية من ذوبان الجليد حول إيران، حضرتني قصيدة نزار قباني التي نشرها في الحياة اللندنية، والتي كان عنوانها «متى يعلنون وفاة العرب»، والتي يقول فيها:
أنا منذ خمسينَ عاما أراقبُ حال العربْ وهم يرعدونَ ولا يمُطرونْ، وهم يدخلون الحروب ولا يخرجونْ، وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا ولا يهضمونْ…
أنا منذ خمسينَ عاما أحاولُ رسمَ بلادٍ تُسمّى مجازا بلادَ العربْ
رسمتُ بلون الشرايينِ حينا وحينا رسمت بلون الغضبْ
وحين انتهى الرسمُ، ساءلتُ نفسي:
إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العرب ففي أيِ مقبرةٍ يُدْفَنونْ؟ ومَن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ وليس لديهم بَنونْ وليس هنالك حُزْنٌ وليس هنالك مَن يحْزُنونْ…
وفي السياق ذاته، تذكرت «مدن الملح» ثلاثية الروائي السعودي الراحل عبد الرحمان منيف الرائعة، التي تنبأ فيها قبل عشرين سنة بحتمية ذوبان بلدان الخليج كفصوص ملح في نخب يشربه سادة العالم في صحة الشرق الأوسط الجديد.
وإذا كان نزار قباني قد طرح سؤاله «متى يعلنون وفاة العرب» ورحل دون أن يعرف الجواب، فإن الاتفاق الأمريكي الإيراني الموقع أخيرا يعتبر في الحقيقة توقيعا لشهادة وفاة العرب.
مؤخرا تناولت طعام الإفطار في رمضان في بيت صديق دبلوماسي خبر لسنوات طويلة كواليس السياسة الخارجية في قلبها النابض، أي واشنطن. وخلال حديثنا عن سر انقلاب البيت الأبيض المفاجئ في علاقته بالعرب، أخبرني بأنه خلال اجتماع لناد دبلوماسي مغلق تم طرح هذا السؤال، فجاء الجواب على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بأنهم في البيت الأبيض لم يعودوا يطيقون سماع اسم العرب، فقد ملوا من نفاقهم ونقضهم لعقودهم وتآمرهم على أصدقائهم وأعدائهم على حد سواء.
فأمريكا اليوم مهتمة أكثر بالخليج الفارسي، عوض الخليج العربي، وببحر الصين عوض شط العرب.
وإلى جانب الاتفاقية الموقعة بين أمريكا وإيران، لم ينتبه كثيرون إلى اتفاقية أخرى جرى التصويت عليها في الغرفة السفلى للبرلمان الياباني قبل أيام، تتعلق بالقطع مع القرار السياسي المتعلق بالطابع المسالم للدولة وعدم خوضها للحروب.
فقد صوت أعضاء الغرفة السفلى بالموافقة على تمكين اليابان من خوض الحرب دفاعا عن سلامتها أو سلامة حلفائها في بحر الصين.
وطبعا فالحليف الرئيسي، الذي دفع باتجاه التصويت على هذا القرار، هي أمريكا المتخوفة من تزايد نفوذ الجار الصيني المقلق وأطماعه في بحر الصين، مثلما قطعت دابر النفوذ الروسي في حدودها الكاليفورنية، عندما طبعت علاقاتها مع كوبا الشيوعية وسمحت بتبادل فتح السفارات في عاصمتي البلدين، بعد قطيعة دامت أكثر من نصف قرن.
ولذلك فمن يريد أن يفهم التحولات العميقة للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط عليه أن يقرأها من زاوية الصراع الأمريكي التاريخي بينها وبين روسيا والصين.
وبالعودة إلى إخواننا العرب، فاختيار مدينة فيينا لتوقيع الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران الفارسية لم يأت اعتباطا، فهذا التوقيع يعتبر في الواقع إنزالا للستار على ليالي الأنس التي ظل العرب يحيونها بأموال النفط في فيينا، وغنت حولها أسمهان قصيدة أحمد رامي التي لحنها فريد الأطرش، مع تعديل بسيط هو أن الأطرش اليوم ليس هو فريد بل قبائل العربان التي أصبحت تنظر مثل الأطرش في الزفة الفارسية الأمريكية.
ولفهم أبعاد هذا الجفاء الأمريكي نحو العرب السنيين، على حساب مغازلة الفرس الشيعة، تجب العودة إلى قراءة الحوار الذي أجراه الصحافي الأمريكي طوماس فريدمان مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. ففي هذا الحوار نعثر على الجواب الواضح عن سؤال نزار قباني «متى يعلنون وفاة العرب».
في هذا الحوار، يتساءل باراك أوباما «كيف يريدوننا أن نقوي الجسم السياسي لهذه البلدان العربية، قبل أن نقنع الشباب السني بأن هناك بدائل أخرى أمامه غير الدولة الإسلامية» ؟
ويضيف أن الخطر النووي الإيراني ما زال إلى حدود اليوم مجرد احتمال، فيما همجية الدولة الإسلامية في الشام والعراق واقع منظور.
بمعنى أن باراك أوباما يقول للسعوديين، ومن خلالهم العالم الإسلامي السني، إن الخطر الذي يهددكم ليس هو إيران الشيعية بل داعش السنية، والتي ظهرت في بلدانكم بسبب انعدام الديمقراطية والتعسف والفقر والفساد والتسلط.
إلى حد ما، فكلام باراك أوباما منطقي، لكن السيد الرئيس ينسى أن آلاف الملتحقين بداعش أتوا من بلدان عريقة في الديمقراطية، كفرنسا مثلا، ومنهم من ترك وراءه وضعا اجتماعيا لا بأس به.
المملكة العربية السعودية لم تهضم هذا الاتفاق الأمريكي الإيراني، ولذلك بمجرد ما تم التوقيع على الاتفاق اجتمع خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس ومسؤولين كبارا آخرين من الحركة، مع العاهل السعودي الملك سلمان وولي العهد ووزير الدفاع، إعدادا لتقارب محتمل بين السعودية وحماس المتحالفة تقليديا مع إيران.
ساعات بعد هذا اللقاء، ظهر مقاتلون من داعش يهددون حركة حماس بالدم والأشلاء في عقر دارها، وبعدها توصلت حركة حماس برسالة تهديدية واضحة عندما تم تدمير خمس سيارات تعود لناشطين في حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» صباح الأحد الماضي، في انفجارات شبه متزامنة، وقعت في شمال مدينة غزة، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنها.
لقد كان واضحا، منذ بدء تسريب ويكيليكس لوثائق الدبلوماسية السعودية بالأطنان، أن الموجة الثانية من الربيع الأمريكي على الأبواب، وأن العربية السعودية مستهدفة برياحه وعواصفه.
وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي في حواره مع طوماس فريدمان، عندما نصح حكام السعودية بأن الخطر ليس إيران بل إن الخطر يوجد لديكم في الداخل، في إشارة إلى التطرف الوهابي، الذي أنتج القاعدة وداعش.
نحن الآن أمام صورة تكاد تكون محسومة في الإعلام العالمي، صورة المسلمين السنة وهم يقطعون الرؤوس ويعدمون الأسرى ويفخخون الأطفال الرضع، أي صورة مقززة وبشعة، في مواجهة صورة المسلمين الشيعة الفرس العقلانيين الذين يمجدون البحث العلمي والذين استطاعوا بفضل اختراعهم لاقتصاد الحصار أن يقاوموا الحصار الدولي، الذي فرض ضدهم لعقود طويلة، وأن يخرجوا منه منتصرين بتوقيع اتفاق تاريخي مع الشيطان الأكبر الذي لم يعد في نظرهم كذلك.
وحتى الدول الأوربية، التي كانت متشددة ضد البرنامج النووي الإيراني، أصبحت اليوم تهرول نحو طهران لإبرام العقود والصفقات، فقد أسالت 150 مليار دولار الإيرانية التي كانت مجمدة في البنوك العالمية لعاب البريطاني ديفيد كاميرون والألمانية ميركل والفرنسي لوران فابيوس، الذي وقع صفقة مجزية مع طهران بخصوص تصدير التقنية النووية الفرنسية لإيران، بلغت قيمتها عشرين مليار دولار.
إن المخطط المرسوم لمنطقة الشرق الأوسط هو أن يتحول ملوكها ورؤساؤها إلى ملوك طوائف، وليس دول، كل ملك يحرس طائفته من غارات الطوائف المجاورة له، تماما كما كان يحصل في عصور الانحطاط في الأندلس.
أمريكا اليوم تتجه نحو الإسلام الشيعي الفارسي والإسلام العثماني العلماني التركي، في مقابل الإعراض عن الإسلام السني، الذي التصق بالتطرف الوهابي والداعشي والقاعدي.
ومثلما دعمت أمريكا السني العراقي صدام حسين في حربه ضد الفرس الشيعة، ها نحن اليوم نرى كيف تدعم أمريكا الشيعة الفرس ضد السنة العراقيين والسعوديين وبقية دول العالم الإسلامي السني.
والهدف طبعا هو تقسيم المسلمين إلى سنة وشيعة متناحرين من أجل رخاء وأمن واستقرار وعلو إسرائيل.
وماذا عنا نحن في المغرب ؟ ما موقعنا وسط هذه «الفوضى الخلاقة»، التي تبعثر خرائط الشرق الأوسط وشط العرب ؟ هل هناك ما يفيد أن الدولة أو الطبقة السياسية التقطت إشارات هذا الانعراج الأمريكي المباغت ؟
غدا نقدم نموذجا لأحد أوجه «التشيع» على الطريقة المغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى