شوف تشوف

الرأي

أسرار التذكر وخفايا التعقل

إن كمية المعلومات التي تختزن في الذاكرة شيء لا يكاد يصدق، ولو أردت أن تسجل ذكرياتك فإن حياتك كلها لا تكفي، بل لو اشتغل أبناؤك وأحفادك في هذا لما استطاعوا إليه سبيلا ولاحتاجوا إلى الوقت والجهد والمال لشراء الأوراق، حتى لقد قدر بعضهم أن مخزون الذاكرة يتسع إلى 90 مليون مجلد مليء بالمعلومات!!
إن الذاكرة معقدة بأنواعها، ولا نتصور أنها فقط تلك الأشياء التي نقرؤها أو نسمعها ثم نسجلها في قائمة الذكريات، إن أبسط أنواع الذاكرة تلك التي تحدث معنا بشكل عادي ثم نتذكرها فيما بعد.
والذكريات منها ما هو اختصاصي بالمرئيات فيتذكر الإنسان الصور، ومنها المسموعات فيتذكر ما سمع، وقد يكون خليطاً من اثنين أو أكثر، وهكذا تختلف نسبة الخلط في الذكريات.
ثم إن نفس الذكريات قد تكون من النوع الخاطف، فقد تكون راكباً سيارة وهي تمشي بسرعة، فيقع نظرك بسرعة كبيرة على منظر تهشم سيارة، أو على شاب طائش يتقاتل مع قرينه، أو على إعلان لجريدة .
إن هذه اللقطة السريعة تنطبع فوراً في الذاكرة وتضاف إلى الأكداس الهائلة، ويمكن استرجاعها فيما بعد، وإن رقم الـ (10) مليارات التي ذكرناها فيما سبق هو في صدد هذا النوع من الذاكرة.
وهناك الذاكرة التي تتعلق بإتقان الأعمال والمهارة فيها، مثل المشي، وركوب الدراجة، والركض، وقيادة الموتور، أو السيارة، أو تقليب صفحات كتاب، أو الكتابة أو الطعام، أو الشرب، وحتى الأعمال الغريزية المختلفة، فالدماغ يقوم أولاً بفهمها وتعلمها، ثم إرسال الأوامر إلى العضلات المناسبة لتقوم بها، وعندما يزداد التمرين والإتقان، ترسل نسخة من هذه الذكريات إلى النويات القاعدية في الدماغ، حتى يسير هذا الأمر بشكل آلي؛ فلو ركز السباح نظره على الأفعال التي يقوم بها فقد يغرق، ولو ركز الإنسان انتباهه على كيفية البلع لأصيب (بالشردقة)، ولو ركز انتباهه على الكلام أثناء الخطبة أو النقاش لتلعثم؟ وهكذا…
وأما ذكريات الطفولة أو الأحداث قريبة الأجل فالإنسان العادي ينسى ما فعل منذ ساعات قليلة، ولكن الذاكرة الجبارة في الطفولة، تطبع حتى أبسط الحوادث العادية، ويتذكرها الإنسان فيما بعد بشكل واضح يدعو إلى الدهشة والاستغراب.
إن القضية التي تحير أكثر من غيرها هي: ما هي الأماكن التي تختزن كل هذه الذكريات وأين تقع؟
لو تصورنا أن اختزان كل جزء يتم في خلية عصبية واحدة، فإن جميع خلايا الدماغ لا تكفي إلا لاختزان جزء يسير من الذكريات، لأن مجموع الخلايا العصبية في المخ 100 مليار خلية عصبية، فكيف تختزن إذن كل هذه الأكداس من الذكريات؟!..
فكر العلماء في هذه المعضلة، ولم يعثروا على تفسير واضح قطعي مؤكد في هذا الصدد، فهل هناك يا ترى منطقة بعينها من الدماغ هي المسؤولة عن الذاكرة؟
لم يعثر العلماء على منطقة بعينها من الوجهة التشريحية تختص بالذاكرة، بحيث يؤدي تخريبها إلى فقدان الذاكرة الكامل والنهائي.
أين توجد الذاكرة؟ هذا من الأسرار العظيمة في تركيب الجهاز العصبي عند الإنسان، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان معنى هذا أن تخريب منطقة في الدماغ يعني خسارة أعظم وأثمن الأشياء عند الإنسان، ألا وهي الذاكرة، فالذاكرة هي أثمن من أن تؤتمن عليها مجموعة خاصة من الخلايا العصبية، ولقد وجد أن تخريب 90 في المائة من منطقة تتعلق بالذاكرة البصرية عند بعض الحيوانات لم يؤد إلى فقدان الذاكرة، كما أن استئصال نصف الدماغ تماما عند بعض المرضى لم يجعلهم يفقدون ذاكرتهم، فهل هذا لأن هناك نسخة مضاعفة للذاكرة في كل من نصفي الكرة المخية؟!
ومن بين البحوث الشيقة التي أجريت على منطقة الفصوص الصدغية في الدماغ ما يلي: لقد وجد أن إصابة هذه المنطقة تؤدي إلى اضطراب الذاكرة، وآخر التحريات في مضمار هذه المنطقة بالذات أن العلماء استطاعوا أن يلقوا نوراً خافتاً على موضوع الذاكرة، فهذه المنطقة تتدخل على ما يبدو في صناعة الذكريات واستحضارها، كما يبدو أنها تتدخل في تكوين الذكريات الوهمية، فقد يشعر الإنسان أحياناً عندما يسمع كلام شخص ما، في موضع ما، في زمن ما، أنه قد رأى مثل هذا الشيء سابقاً وهو لا يعرف (رؤية الشيء من قبل).
ولكن هل الفص الصدغي هو المسؤول تشريحياً عن الذاكرة؟ بالطبع لا.. إذن أين توجد الذاكرة؟ في الدماغ، أو في غير الدماغ إذا صح طرح السؤال؟
الذي يبدو هو أن نفس الخلايا العصبية بمجموعها العام تشترك في تكوين الذاكرة بواسطة الجزئيات البروتينية الموجودة داخل الخلايا العصبية، فوجود 30 ألف مورثة في الخلية الواحدة، وإمكانية تشكل قرابة 30 ألف حمض أميني مختلف، يجعلنا نفكر في هذه التعقيدات الذرية، هل هي التي تشترك في موضع الذاكرة، خاصة أن هذه التعقيدات تبلغ ألف مليار مليار جزيء في الدماغ، فهل تحمل هذه الجزيئات آثار الذاكرة، كما يحدث في الصفيحة المعدنية التي تحمل آثار طرق الحداد بالمطرقة عليها؟ أم هل تتوزع الصورة في هذه الجزيئات الذرية، ثم يعاد تشكيلها مرة أخرى؟ لا أحد حتى الآن يعرف أين يوجد السر في موضوع الذاكرة؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى