الرأي

فيلسوف الرأسمالية: ليس في طبع الليالي الأمان! (1/2)

خلال الأشهر القليلة الماضية، وليس بالضرورة تحت ضغط موجة الإرهاب التي شهدتها العاصمة باريس في شهر نوفمبر الماضي؛ غزت مكتبات فرنسا سلسلة من المؤلفات التي تتناول شتى ضروب الإرهاب، الشائع المشترك فيها ثلاثة عناصر: العرب، ثمّ الإسلام، ثمّ الخلطة (الاستشراقية، بالضرورة هنا!) الناجمة عن اجتماعهما (وهذه لا تتمّ إلا بالضرورة، حكماً!). المحتوى، من حيث القيمة، معمّق ورصين، تارة؛ أو على ضحالة وخفّة وتسطيح طوراً؛ أو يتوسل تقديم وجبة سريعة فقيرة العناصر، جذابة المظهر، غالباً.
نقرأ في بعض العناوين، على سبيل الأمثلة فقط، جيل كيبيل: «هوى عربي»، عن مذكرات المؤلف منذ انطلاق «الربيع العربي»؛ كورالي موللر: «تحقيق حول الدولة الإسلامية»، والمقصود تنظيم «داعش» بالطبع؛ دافيد بينيشو، فرهاد خسروخفار، وفيليب ميغو: «الجهادية: فهمها من أجل حُسن محاربتها»، ولا حاجة لمزيد من التعريف؛ بيير ـ جان لويزار: «داعش الفخّ: الدولة الإسلامية أو عودة التاريخ»، ليس أقلّ؛ مارك تريفيديك: «الإرهابيون: الأعمدة السبعة لاضطراب الصواب»، والمؤلف قاضٍ يقترح علينا التوغل في دواخل الجهاديين الأفراد؛ وأخيراً، وليس آخراً، إريك فوتورينو (مشرفاً على مجموعة مؤلفين، بينهم إدغار موران، الطاهر بن جلون، أوليفييه روا، ريجيس دوبريه، هنري لورانس، جيل كيبيل، جيرار شالان، روبير سوليه…): «من هي داعش؟ فهم الإرهاب الجديد»…
بيد أنّ الكتاب الأطرف، رغم أنه لا يقارب الإرهاب أو «داعش» مباشرة، هو «هل يمكن استبصار المُقْبِل؟»، بتوقيع جاك أتالي؛ الذي عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. كذلك فإنّ أتالي، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي. وهو، ثالثاً، مفكر سياسي يهودي الديانة، يراقب العالم بذلك النوع الحصيف والمرتاب والمتنبّه إلى نُذُر الكارثة. وقبل أسابيع، كان أتالي قد استبق كتابه هذا بإعادة تنقيح وتطوير عمل سابق هو «المُقْبِل: تاريخ وجيز»، صدر سنة 2006، وتناول السنوات الخمسين الآتية كما في وسعه أن يتخيّلها.
طريف، أيضاً، أنّ الصفحة الأولى من كتابه «هل يمكن استبصار المُقْبِل؟» تقتبس واحدة من أشهر رباعيات عمر الخيام؛ أي تلك التي تقول، في ترجمة أحمد رامي: «لا تشغل البال بماضي الزمان/ ولا بآت العيش قبل الأوان/ واغنم من الحـاضر لذّاته/ فلـيس في طبع الليالي الأمان». وتأسيساً على هذا، فإنّ فصول الكتاب الأربعة تساجل حول القدرة على، أو العجز عن، استبصار الآتي: التكهن بأقدار السماء هو سلطة الآلهة، والسيطرة على الزمن هي سلطة البشر، كما في اختصار الفصلين الأول والثاني. أمّا السيطرة على المصادفة والتصادف، فإنها سلطة الآلة المعاصرة، موضوع الفصل الثالث؛ وتبقى إمكانية الآدمي في استكناه المُقْبِل، والفصل الرابع يتكفل بتقديم سلسلة مقترحات أتالي حول امتلاك هذه القدرة.
منطلقاته الأولى بسيطة في الواقع، أو هو يسعى إلى تبسيطها عامداً: كلّ المنجزات الكبرى للإنسانية تمّت ضمن سياقات التفكير بالمُقْبِل والأجيال الآتية، سواء في أعمال الفنّ أو البنى التحتية أو أنظمة التعليم والصحة؛ ولكننا إذْ نتناسى الماضي، في عصرنا الحاضر، فإننا في الآن ذاته لا نعتني كثيراً بالمُقْبِل، يشدد أتالي، وهذا يعني طغيان الأنانية المعممة، واستهلاك الحاضر. واللافت هنا أنه ينسب صعود اليمين المتطرف إلى هذه الميول تحديداً، فضلاً عن مشكلة كامنة في قلب أيّ نظام ديمقراطي، أي تقييد حرية الاختيار الفردي، التي لن تعلو على حرية الاختيار الجماعي.
وهو إذْ يشدد على المُقْبل تحديداً، وليس المستَقْبَل، فلأنّ الأوّل يستلزم بناء ديمقراطية خاصة به تمكّن الفرد من التحكّم بالآتي من زمانه، في مواجهة دكتاتورية من طراز خاصّ، قد يتصف بها المُقْبل؛ وتلك سمة معاصرة، اقترنت بالوجود الإنساني المعاصر، والآلة والتكنولوجيا والمعلوماتية في قلب معادلاته؛ على نقيض مجتمعات مصر وبلاد النهرين واليونان، حيث الآلهة هي التي تتحكم بالمصائر؛ أو الأديان التوحيدية، التي تبدّل الصيغة قليلاً فتمنح الإنسان فرصة اختيار الخير ونبذ الشرّ. وأتالي يقترح منهجاً في استبصار المُقْبل، ينهض على خمس دراسات: استرجاعية (معرفة المتغيرات)؛ حيوية (استخلاص تشخيص ملائم)؛ بيئية (تمحيص ما تمنحه بيئة المرء من معطيات)؛ وجدانية (دراسة مواقف النطاق البشري المحيط)؛ وإسقاطية (إحصاء الحوادث المُقْبلة).
لكنّ خلاصات هذا الكتاب الجديد تبدو مدهشة، خصوصاً، إذْ تأتي من أتالي نفسه؛ الذي رأى قبل سنوات قليلة فقط أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم هي انهيار Crash الحضارة الغربية، وليس صراع Clash هذه الحضارة مع سواها، غامزاً بذلك من قناة صمويل هتنغتون حول صراع الحضارات. وإذْ جادل بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الانهيار، فإنه كتب بالحرف: «بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطوّر التقدّم الإنساني، فإنّ هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثمّ الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الاعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإنّ الحضارة الغربية سوف تأخذ في الانحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها.
كذلك أشار أتالي إلى أنّ الشقوق والصدوع أخذت اليوم تظهر هنا وهناك على سطح الحضارة الغربية، وأنّ تنفيذ أبسط صورة بأشعة X سوف يكشف مظاهر الاعتلال العميق في الجسد ذاته، وليس على جلده وقشرته الخارجية فقط، وسوف يحدّد بوضوح صارخ «خطر الفناء» الوشيك الذي تراكمه مظاهر الاعتلال تلك. ولقد بدأ بتحديد ثلاثة تناقضات مستعصية، غير قابلة للتصالح، تمنع حدوث الزواج الناجح بين اقتصاد السوق والديمقراطية: الأوّل هو أنّ المبادىء الناظمة لاقتصاد السوق والديمقراطية لا يمكن تطبيقها في معظم مجتمعات الغرب (ونضرب نحن مثالين: فرنسا الرأسمالية العريقة، حيث المكاسب الاجتماعية، وحال النقابات والجمعيات السياسية، وميراث الثورة الفرنسية تعيق انطلاق اقتصاد السوق إلى ما يحتاجه أحياناً من وحشية قصوى عمياء؛ وتشيكيا الرأسمالية الوليدة كمثال ثان حديث العهد، لأسباب تخصّ مركزية اقتصاد الدولة القديم مقابل هشاشة اقتصاد السوق الوليد). التناقض الثاني هو أنّ هاتين القيمتين، السوق والديمقراطية، تدخلان غالباً في حال تصارع بدل التحالف، وتسيران وجهاً لوجه بدل السير يداً بيد. والتناقض الثالث هو أنهما حملتا على الدوام بذور تدمير الذات، لا لشيء إلا لأنّ ديمقراطية السوق كفيلة بخلق «دكتاتورية السوق»، بوصفها عنوان حروب التبادل بين ديمقراطية صناعية كبيرة وأخرى أكبر وثالثة تعدّ نفسها الأكبر.
ويبقى أنّ أتالي كان قد ودّع العام 2010 بكتاب عنوانه أقرب إلى بيان نعي: «هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟». الطبعة الأولى بلغت 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي، بل لأنّ توقيت النشر كان يتناغم مع حال الرعب العامة إزاء العواصف التي اجتاحت الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة. وفي كلّ حال، لم يسبق أن عُثر في مؤلفات فيلسوف الرأسمالية المستقبلي هذا، على أيّ مُقْبِل ملموس يشير إلى «داعش»؛ هذه التي غزت أمن فرنسا مثل مكتباتها فرنسا، وأثبتت أنْ ليس في طبع الليالي الأمان!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى