أيقظ العملاق النائم وهزّ أمريكا.. ثم رحل
كتاب «عن الصين» لهنري كسنجر

«عن الصين»، عنوان كتاب هام جدا لأحد أكثر مفكري الدبلوماسية العالمية تأثيرا، لذلك لم يكن نشر كتابه حدثا عاديا، حيث حقق هذا الكتاب أرقاما قياسية من حيث المبيعات والانتشار، ليس فقط لأنه يعكس وجهة نظر الغرب عن العملاق الصيني ولكن أيضا الرغبة في معرفة مشاعر الرجل الذى لعب الدور الأهم في إقامة علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين، في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
هذا الكتاب كان مناسبة لإعادة كيسنجر إلى الأضواء، والتأكيد على مكانته في التاريخ. وبدا هنري كيسنجر مهموما بفكرة تفرد الصين، غير أنه أثار انتقادات نتيجة تحيزاته الأيديولوجية ، كأحد أبرز منظري اليمين الأمريكي.
هو هنري ألفريد كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الـ56، عرف بذكائه حتى وصف بـ«الثعلب» و«الساحر»، دخل الولايات المتحدة لاجئا يهوديا فارا من ألمانيا رفقة أسرته من اضطهاد النازية. وبات بعد عقدين من الزمن أحد أبرز الأكاديميين والخبراء في العالم بالشأن الجيوسياسي والاستراتيجي. بصم الدبلوماسية الأمريكية في كل العصور، ويعد من أكثر ممارسي السياسة الخارجية والعاملين في الأمن القومي الأمريكي تأثيرا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وظّف عبقريته في خدمة مصالح أمريكا وتكريس هيمنتها وترويج سياستها، وتحطيم سور الصين الدبلوماسي.
مدرسة دبلوماسية متفردة
ساد، في خمسينيات القرن الماضي، افتراضٌ بين مفكّري العلاقات الدولية والسياسيين الأمريكيين، أن عالم ما بعد القنبلة الذرية يختلف عن عالم ما بعدها، والقرن التاسع عشر انتهى ولن يعيد نفسه. لذلك، قرّر كيسنجر، في مرحلة الدكتوراه، أن يكتب أطروحة يتحدّى فيها هذا الفهم الخاطئ من وجهة نظره، فكتب عن تاريخ الدبلوماسية والعلاقات الدولية في القرن التاسع عشر عبر دراسة «رجال الدول».
لا يمكن أن يمر باحث العلاقات الدولية على القرن التاسع عشر من دون أن يدرس عن الدبلوماسي النمساوي مترنيخ، الذي كان أبرز مهندسي سياسة «الوفاق الأوروبي» بعد فترات طويلة من الحروب، ولا عن الألماني موحد ألمانيا بسمارك، فكان توحيدها أحد أهم أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى. لقد أثر رجالات الدول هؤلاء في تاريخ العالم، وأعادوا صياغته بطريقةٍ تجعل من الصعب فصلهم عن الحاضر. جاء كيسنجر، الذي كان ضعيف اللغة في الثانوية، ليكتب إحدى أطول أطروحات الدكتوراه في جامعة هارفرد، مقرّرًا بذلك أن يعيد لرجال الدولة في القرن التاسع عشر مكانتهم، بعنوان «عالم مستعاد.. مترنيخ وكاسترله ومشكلات السلام 1812 – 1822».
استعاد عالمًا اقتنع به، ووثّقه كنظرية في أطروحته، وطبقه في سياسته الخارجية. كانت أبرز سلوكيات كيسنجر التقرّب من الأكبر سنا والأطول خبرة والأكثر تأثيرا في أمريكا، فليس غريبا عليه أن يُقارن بينه ومترنيخ، ويقترن اسمه بأسماء رجال الدولة، وأشهر الدبلوماسيين على مر التاريخ. استلم سنة 1961 أول منصب سياسي له مستشارا للرئيس الأمريكي جون كينيدي، ليبدأ تاريخ حياة «ثعلب السياسة الأمريكية» كأهم رجل دولة لواشنطن في القرن العشرين.
كان دور كيسنجر في المجال السياسي العمل عبر تفكيك التحالفات السوفييتية وعزل موسكو داخل حدودها الجغرافية. هل خطر لكيسنجر أن سعيه إلى أن ولادة الصين ستحمل في طياتها احتمال موت لمكانة أمريكا؟ العلاقة بين كيسنجر والصين وأمريكا هي تطبيق لمقولة «ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء أبديون». كان الهدف الأمريكي في فترة الحرب الباردة يتجلّى في إضعاف الاتحاد السوفييتي من خلال احتوائه عسكريا واقتصاديًا وسياسيًا. وضمن هذا الهدف، كان دور كيسنجر في المجال السياسي العمل عبر تفكيك التحالفات السوفييتية وعزل موسكو داخل حدودها الجغرافية. ولتحقيق ذلك، تصاعدت الرغبة الأمريكية للانفتاح على الصين عبر استغلال الأزمة التي نشبت بين موسكو وبكين آنذاك. استغلّ كيسنجر نقاط الضعف الموجودة جميعها: الخلاف السوفييتي الصيني، والخلاف الصيني التايواني، والتوق الصيني للحصول على الاعتراف الدولي، والرغبة الصينية في التنمية. من الممكن القول إن واشنطن استماتت، على يد كيسنجر، دبلوماسيًا، لانفتاح علاقاتها مع الصين لمواجهة الخطر السوفييتي.
حاولت واشنطن، في أواخر الستينيات، التواصل مع الحزب الشيوعي الصيني، عبر سفرائها في العالم، في باكستان وهولندا وفرنسا مثلا، من دون تحقيق اختراقاتٍ حقيقية. وفي فترة ولاية نيكسون، شغل كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي ووزيرًا للخارجية، واستلم الملف الصيني. في شتنبر 1970، أرسل رسالة إلى نيكسون، يقول له فيها «على الرغم من عدم وجود مشكلة أساسية مع الصينيين، حاولنا إجراء محادثات معهم، ولكننا لم نحقق شيئا»، ثم أتبعها برسالة أخرى في 9 دجنبر 1970، ذكر فيها أن الصينيين لا يستجيبون للرسائل التي تصل إليهم عبر الدبلوماسيين، وقال «من الجيد إقامة تواصل مع الصينيين، وخصوصا في هذا الوقت».
وفي أبريل 1971بدأت الصين تُظهر رغبتها في قبول التواصل مع كيسنجر، وأرسل تشوان انلاي الذي كان رئيس الوزراء رسالة إلى باكستان يخبرهم باستعداد ماو تسي تونغ لاستقبال كيسنجر على أن تكون قضية تايوان أساس الحوار.
في يوليوز 1971، قام كيسنجر بأول زيارة سرّية إلى الصين، وكان حذرًا في التعامل مع مسألة تايوان، فمن جهة لا يريد التخلي عنها، ومن جهة أخرى، يريد المحافظة على التقارب مع الصين، واعتقد أن المسألة التايوانية ستُحَلّ سلميّا بالتدريجي. وفي العام نفسه، جرى استبدال مقعد تايوان في الأمم المتحدة والاعتراف بجمهورية الصين الشعبية ممثلا وحيدا للصينيين. وكانت النتيجة الأولية لزيارة كيسنجر السرّية تتمثل في قيام نيكسون بأول زيارة لرئيس أمريكي إلى الصين في فبراير 1972، والاتفاق على فتح مكاتب تمثيلية، وليس سفارات، وبدء المباحثات بشأن الاعتراف وقضية تايوان. وأدّت هذه الانفراجة إلى إعلان الإدارة الأمريكية سنة 1978 تطبيع علاقاتها رسميًا مع سحب الاعتراف الدبلوماسي بتايوان. كان هذا عام دينغ شياو بينغ، مؤسّس الصين الحديثة وأساس صعودها. جاء تبادل الاعتراف في العام الذي أعلنت فيه الصين استراتيجيتها «الانفتاح والإصلاح». عقد كيسنجر لقاءً مع دينغ، ورحّبت الولايات المتحدة بالرغبة الصينية في التنمية ودعمتها، ما أدّى إلى توسّع الفجوة بشكل صارخ بين الاتحاد السوفييتي والصين، وبذلك يحقّق كيسنجر هدفه الأساسي من التقارب مع الصين.
الصين.. اللغز الدائم
كانت للتوق الكيسنجري للانفتاح على الصين نتائج سلبية وأكثر صعوبة على المكانة الأمريكية من الاتحاد السوفياتي، فقد تعلّمت الصين المبادئ الليبرالية في الاقتصاد، ودمجتها مع الأفكار الشيوعية، واخترقت الأسواق الأمريكية تجارة وإقراضًا، وأنتجت ما تطلق عليه «نظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية». استغلت الصين الشيوعية عالم السوق المفتوح المعولم، وراكمت قوتها أربعة عقود داخل النظام الدولي الغربي، إلى أن أصبحت في العيون الغربية «الخطر الأكبر» على الهيمنة الأمريكية. مع منتصف التسعينيات، أي بعد أقل من خمس سنوات على تربّع واشنطن على عرش الأحادية، بدأت الصين تطبّق ما تعلمته من النظام الأمريكي حرفيًا.
اقتصاديًا، أنشئت أول منظمة إقليمية (شنغهاي للتعاون) سنة 1996، بالشراكة مع من؟ مع روسيا، عدو أمريكا التاريخي، والسبب الأول للانفتاح الأمريكي على الصين. كان أول شروطها لقبول عضوية الدول في المنظمة أن تطرد هذه الدول القوات الأجنبية من أراضيها وإغلاق القواعد الأمريكية في منطقة آسيا الوسطى، وهي من أهم المناطق الاستراتيجية من منظور كيسنجر للأمن القومي الأمريكي في آسيا. محاربة الوجود الأمريكي عبر شنغهاي لم يكن إقليميًا فقط، بل حملت المنظمة أيضا أول شعار للتعدّدية القطبية، وبالتالي سحب مكانة الولايات المتحدة. كانت الضربة الكبرى، في الوقت الذي سمحت فيه واشنطن لبكين بالانضمام إلى مؤسّساتها الدولية، رفضت الأخيرة طلب انضمام أمريكا لمنظمة شنغهاي، وذهبت إلى أبعد من ذلك، عبر رفض طلب اليابان، باعتبارها ستكون جاسوسًا أمريكيًا في المنظمّة. ونضيف على ذلك قبولها عضوية أشد أعداء أمريكا في الشرق الأوسط، إيران، بالرغم من أنها ليست من دول آسيا الوسطى، وقبول تركيا شريك حوار، الحليف العسكري لأمريكا في حلف الناتو، وبذلك تشتت ولاءات الحلفاء، وتعزّز المنافسة مع الأعداء.
انتقدت الصين منذ التسعينيات النظام الدولي الأحادي الذي من وجهة نظرها كان السبب الرئيسي في عدم الاستقرار، والفقر، والحروب، وانعدام الأمن في إطار أوسع، في الوقت الذي انخرطت فيه الصين منذ بداية الألفية الثالثة في النظام الدولي المالي والاقتصادي الدولي، أنشأت بورصة شنغهاي للتداول بديلا للبورصة العالمية الغربية، وبنك التنمية الآسيوي للتنمية والإعمار منافسا للبنك الدولي، ومنظمة بريكس التي شملت أسرع خمسة اقتصادات نموًا (البرازيل، روسيا، الصين، جنوب إفريقيا والهند). تكمن أهمية «بريكس» على صعيد المنافسة مع واشنطن في: أولًا، اختراق مبدأ مونرو في تعزيز الوجود الاقتصادي الصيني في جزيرة غرب العالم، وبالتالي، منافسة أمريكا في إقليمها الجغرافي. ثانيًا، ربط الهند (حليف أمريكا وإحدى أدواتها لاحتواء الصين) في مشاريع اقتصادية ضخمة تجعلها تتجنّب أي تصادم فعلي مع الصين. وثالثًا، تحدّي هيمنة الدولار، غالبًا ما تتم التجارة الدولية في إطار «بريكس»، إما باستخدام العملات المحلية أو نظام المقايضة. ورابعًا، روسيا التي استخدمت الصين لاحتوائها، أصبحت اليوم الشريك الصيني لسحب مكانة أمريكا وتشتيت قوتها.
سياسيًا، انتقدت الصين منذ التسعينيات النظام الدولي الأحادي الذي من وجهة نظرها كان السبب الرئيسي في عدم الاستقرار، والفقر، والحروب وانعدام الأمن. وقدّمت وثيقة أمنية لتعزيز الأمن العالمي، وأخرى لنقد الهيمنة الأمريكية ومخاطرها، واصفة أمريكا بأنها دولة «متنمّرة» ومُؤجّجة للحروب عبر «صبّ الزيت على النار». وناهضت الصين أيضًا السياسات الأمريكية في أغلب القضايا الدولية، ووقفت على النقيض من واشنطن، على سبيل المثال، الحرب على العراق أفغانستان، الحرب الأوكرانية الثانية، الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وغيرها.
كمؤرخ، ودبلوماسي، هل مرّت عليك، يا كيسنجر، مقولة نابليون بونابرت «الصين عملاق نائم، عندما تستيقظ، ستهز العالم»؟ لقد هزّت الصين أمريكا، وباتت اليوم العدو الأول لواشنطن، وتوفي كيسنجر، وهو يعتقد أن استقرار العالم مبنيٌّ على استقرار العلاقات الصينية – الأمريكي.
كان أحد أهداف كيسنجر في السبعينيات تعزيز مكانة إسرائيل دولة «طبيعية» في العالم، ولا يخفى دوره في الوصول إلى اتفاق كامب ديفيد مع مصر. ولعب دورًا كبيرًا في إحداث تقارب بين الصين وإسرائيل. كان «الثعلب» يعي أن الصين بحاجة لتطوير قدراتها الدفاعية، ففي إحدى زياراته إليها، «وشوش» القادة الصينيين قائلًا «اذهبوا إلى إسرائيل، فهي تمتلك ما نمتلكه من قدرات وتكنولوجيا عسكرية متطوّرة».





