الرأي

الأمن الإنساني

أصدرت وزارة التربية الوطنية نسخة مُحينة لدليل المترشحين لامتحانات الباكلوريا، تقدم بالتفاصيل جملة من النصائح الكفيلة بضمان سلامتهم. هذا الدليل لم يكتف بتقديم نصائح مفصلة حول الصحة الجسدية من الفيروس، بل شمل أيضا نصائح تشمل الصحة النفسية والعقلية، وأيضا الوعي القانوني بالحقوق والواجبات. باختصار هذه الوثيقة يمكن أن تكون أرضية لإدماج ثقافة الأمن الإنساني ضمن قطاعات التربية والتكوين، حتى لا يكون مجرد دليل مناسباتي..، أي إدماج الأمن الإنساني ضمن هندسة المناهج والبرامج الدراسية وضمن إيقاعات الزمن المدرسي، بل وضمن الهيكلة الإدارية للوزارة والأكاديميات والمديريات، ليصبح اهتمام التلاميذ بصحة أجسادهم وعقولهم ونفسياتهم مهارات أساسية لا تقل أهمية عن باقي المهارات المعرفية.
فمثلما نقول إن ما قبل جائحة كوفيد 19 ليس هو ما بعدها، ويشمل قولنا هذا مجالات مختلفة في تدبير الشأن العام، فإن تربية الأطفال والمراهقين طوال سنوات تمدرسهم، وفق استراتيجية مندمجة للأمن الإنساني، أضحت ضرورة قصوى في زمن ما يعرف بالصحة المدرسية، والتي غالبا ما تقتصر على دفتر صحي صوري، وكذا بضع حملات توعوية مناسباتية، تقتصر على طرق التنظيف بالماء والصابون، هذا زمن ولى الآن بقوة الواقع. ومثلما نهتم بالأمن الروحي للتلاميذ، ونضع مادة التربية الإسلامية مرافقة لكل سنوات تمدرسهم، بما في ذلك في المرحلة الثانوية حيث التخصصات، فإنه لا معنى الآن لعدم خلق مادة للتربية على الأمن الإنساني، تشمل أيضا مجالا ظل مسكوتا عنه، لأسباب كثيرة، وهو مجال التربية الجنسية.
نحن أمام وضع جديد فرضته علينا جائحة عابرة للقارات، لكن لا شيء يمنع من استثمار ظروف هذه الجائحة لنخلق ثقافة تربوية جديدة تحفل بالصحة، بمختلف أبعادها، وذلك بعيدا عن تدليسات «دهاقنة العقيدة» و«دهاقنة الحريات» معا. ثقافة تواكب الثورات الهائلة التي تعرفها العلوم الصحية والغذائية والعلوم الإنسانية، وخاصة علمي النفس والاجتماع. فمثلما وجد الجميع أنفسهم مضطرين لأن يتعاملوا مع الفيروس كحقيقة واقعية بعيدا عن الغيبيات والخرافات والتوهمات، وأن الفيروس لا يفرق بين مؤمن وغير مؤمن، وبين عربي وعجمي، فإن هناك حقائق واقعية أخرى تتعلق بالجسد ورغباته والنفس وانفعالاتها والوجدان وتقلباته، خصوصا في مرحلة المراهقة..، حقائق تتوقف عليها آدمية الإنسان مهما كان دينه أو لونه أو عرقه.
طبعا عندما نقول هذا، ونُقر جميعا بأهميته الاستراتيجية، في تكوين الإنسان السليم جسديا والمتوازن نفسيا والسعيد وجدانيا، والمتواصل اجتماعيا والمنتج اقتصاديا والمجتهد فكريا والمبدع فنيا، فإن هذا يجبرنا أيضا على أن نقر بالأخطاء التي ارتكبناها كمنظومة في مجال الأمن الإنساني. وما تحويل مديرية مركزية كانت تحمل هذا الاسم في وقت سابق إلى مجرد منصب للريع الوظيفي استفاد منه طيلة سنوات شخص تقاعد الآن، هو أكبر دليل على أن الحاجة لمديرية بهذا الاسم تبقى قائمة، وأيضا الاعتراف بخطأ التخلص من أساتذة يدرسون موادا لها علاقة بالأمن الإنساني، كالتربية الأسرية والفنية والموسيقية، وعدم توظيف أساتذة جدد، علما أن هؤلاء كانوا نقط ضوء منيرة في برامج دراسية تستهدف بشكل أحادي المهارات العقلية دون الفنية والوجدانية والجسدية.
في هذا السياق، لم يعد من الممكن قبول ألا يكون في المؤسسات التعليمية متخصصون في علم النفس. نحن لا نتحدث عن توظيف أطباء نفسانيين على صعيد كل مؤسسة، ولكن نتحدث عن مئات الطلبة خريجي مسالك علم النفس في جامعاتنا، ومنهم متميزون جدا في دراستهم، ومع ذلك يتم تهميش تخصصاتهم الحيوية. وبدل توظيفهم كأطر للمواكبة النفسية والصحية للتلاميذ، فإن أقصى ما يمكنهم القيام به هو توظيفهم كأساتذة فلسفة، علما أن مناهج هذه الأخيرة لا يتعدى فيها الحيز الممنوح لتخصصات علم النفس والتحليل النفسي والجسد بضعة محاور تنجز باستحياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى