الرأي

الإطار الذي ينمو فيه العلم

بقلم: خالص جلبي

 

 

العلم لا ينمو إلا في إطار خاص، وفي مناخٍ عقلي مناسب تستنبت بذوره بكل رحمة وحب، وهذا الإطار الفلسفي هو الذي يشكل مرجعية العلم في أول الطريق؛ ليتحول مع الوقت إلى (الإيديولوجيا) التي تخنق تقدمه، مما يحتاج إلى (إبيستيمولوجيا) جديدة محررة. وهكذا يمشي نظم التاريخ، سيطر الفكر اليوناني لحوالي سبعة عشر قرنا وتحول مع الوقت إلى طاغوت رهيب، وهكذا أحرق أناس من أجل آراء بطليموس في النظام الشمسي مع كل مظاهر التصدع في النظرية وعدم القدرة على التفسير مع الوقت، وسيطرت فكرة (الاتوم – ATOM)، أي الذرة أنها الجزء الذي لا يتجزأ، حتى أنهت هذه العقيدة الوثوقية تجربة آلامو جوردو في تفجير السلاح النووي، وكان الانعطاف التاريخي على يد رواد الفكر في العالم الإسلامي، فهم الذين أنهوا سيطرة المنطق (الصوري) ليُدفع العقل بالاتجاه القرآني، أي تأمل الواقع (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت). وهكذا ولد مبدأ (التجربة والاستقراء)، فكان العقل الإسلامي يلعب الدور المحوري المفصلي في نقلة العقل الإنساني، من المرحلة (الأسطورية) إلى المرحلة (العلمية) خلافا لما ذهبت إليه الوضعية على يد (أوغست كونت)، ثم الوضعية المنطقية بعد ذلك على يد (إرنست ماخ) النمساوي، اللذين رأيا تطور العقل الإنساني يتنقل من المرحلة البدائية إلى المرحلة الميتافيزيقية ليصل إلى المرحلة العلمية الوضعية، صحيح أن كونت انتبه إلى القوانين التي تحكم المجتمع، وبذلك يكون قد تابع مسيرة ابن خلدون في إدراك قوانين المجتمعات، ولكنه لم ينتبه وغفل عن التجلي الإسلامي في إطلاق الشرارة العقلية الكبرى عبر كل التاريخ. وهذه النقلة القرآنية واضحة جدا من النسق القرآني، الذي ألغى فكرتي: المعجزة كدليل مادي للوحي، في الوقت الذي كررها بشكل واضح في عشرات الأمكنة للأنبياء الآخرين، وهذا يشي بتدشين عصر جديد، وكذلك فكرة ختم النبوة، فالقرآن بهذه الكيفية توسط عصرين وفصل بين مرحلتين، فهو من العالم القديم ولكنه بشر بمولد العقل الاستدلالي ودعا إلى تثبيته كونه أمرا كسبيا. وهذا يفيدنا أيضا بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب، بل هو ذلك الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يفرز كل هذه العلوم، ونفهم من هذا أيضا أن عمليات اللهاث لاعتصار الآيات لاستخراج الكشوفات العلمية منها منهج خائب في عدة مستويات، فسرعة الضوء كشفها (فيزو) بوسائط فيزيائية بحتة، وبدون نص يرجع إليه، في الوقت الذي يسعى البعض إلى محاولة اكتشافه في بعض الآيات، وضمن هذا المناخ الصحي نبت قديما العلم الإسلامي، ويمكن أن ينبت مرة أخرى ضمن نفس الشروط، وبنفس هذه الدورة التاريخية ارتفع أناس، فإسحاق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه قانون الجاذبية لأنه رأى سقوط التفاحة، فجده لم تحرك فيه أكثر من شهية قضمها، كذلك الحال في (دينيس بابين) الذي رأى في تراقص غطاء إبريق الشاي مفاتيح طاقة البخار. أما ديكارت التي كانت الذبابة تطن مزعجةً بجانب أذنه، فقد أوحت إليه بمبادئ الهندسة التحليلية، حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة. وفي السنة التي أعلن فيها (كوبرنيكوس) نظامه الشمسي الجديد، كان (فيزاليوس) يشق الطريق عبر الجسم البشري للمرة الأولى في التاريخ الأوربي، فيدخل عالم (الطابو)، أي تشريح الجسد الميت الذي كان يعتبر مسه بعد الموت حجرا محجورا. فحل المعضلات العقلية الكبرى والانبثاق العلمي مرهون بتغير المناخ العقلي والإطار الفلسفي، الذي يُمكِّن الجماعات الإنسانية من إعادة النظر في المنظومة المعرفية التي تحملها.

 يقع الأطباء والجراحون منهم بوجه خاص في خطأ مميت، حينما يتعاملون مع الجسد الإنساني كقطعة قماش أو مأسورة مياه، قطعة غيار أو صامولة تفك، برغي يركب أو قطعة زائدة تستأصل، حينما يفترسهم الروتين وتسيطر عليهم العبثية أو تغشاهم سحابة السطحية، حينما لا يخشعون حينما يكشفون الغطاء عن الجمجمة، ويحدقون في انسيابية الدم، حينما يمرون لاهين عن النَظم الرائع والسحر المدهش الذي يتجدد مع كل لحظة في عجائب الخلق، بين دم ينساب بكل لطف في مسارات تصل عشرات الألوف من الكيلومترات، في مرور حاشد أعقد من أكبر عاصمة في العالم، بدون شرطي واحد ينظم المرور، وبدون زمامير وأصوات صاخبة، ماكينات بيولوجية تحمل العمل الذاتي والصيانة الذاتية والخلق المتجدد في الوقت نفسه، فإذا ارتفعت الأصوات واللغط في ناحية، دلت على انتفاخ الشريان (MACHINARY MURMER) ذلك الشريان الحكيم الذي يحمل من الإحساسات التي لا نفهمها؛ فإذا تدفق الدم منه بجرح، أوعز لجنود لا نراهم في سد الثغرة وإحكام الثقب، واستنجد بالعضلات لتشد أزره في المحنة، فإذا بنهاية الشريان قد التوت على نفسها، فأنقذت مملكة البدن بكاملها من الانزلاق نحو الموت.

 هذا التعانق والالتفاف والمرافقة والصحبة التي لا تكف بين الشريان والوريد وكأنهما العشيقان الولهانان، والحبيبان المغرمان، فهما لا يصبران لحظة واحدة عن البعد والفراق، فعطشهما وولعهما ببعضهما بدون حدود، الشريان الذي يذكر بالرجل بقساوته وهشاشته في الوقت نفسه، والوريد اللطيف الذي تحرض رؤيته ذكرى الأنثى بنعومتها وطاقتها في التحمل كونها خزان الرحمة. هذا الطيف العجيب من الألوان في الجسم وكأنه في مهرجان كوني تلمع في أفقه سحابة مظللة بقوس قزح، بين اللون الشرياني الأحمر القاني، والسائل الكبدي الذهبي، وخلاصة الحويصل المراري الأخضر، والبول الأصفر، والحليب واللمف الأبيض، وفي نهاية الطيف من حيث بدأنا من الأوعية، اللون الأزرق الوريدي، وكأن ساحة الأوعية هي اللون الأبيض الذي يجمع عصير الألوان الكاملة. ثم هذا المزيج من المذاقات بين عصارة المعدة الحامضة، وسوائل الأمعاء القلوية، وحلاوة السكر في سائل الدماغ الذي يسبح فيه وكأنه مربى الفراولة، والمرارة المنفرة المتدفقة من النظام الكبدي. هذا التشابك المحير بين النظم الإلكتروني في الدماغ، والسيالة الكهربية في القلب، والتنظيم الهورموني بين الغدة النخامية في قاعدة الجمجمة والكظر فوق الكلية والغدد التناسلية، والتناسق العضلي العظمي العصبي.

 أين الإرادة، بل أين الروح؟ كيف يفكر الإنسان؟ كيف يتذكر على وجه الدقة؟ أين هي ملكة التخيل؟ كيف تعمل النورونات العصبية وعددها حوالي مائة مليار خلية كوحدة متناسقة وككل مشترك؟ إن هذا الجسم هو الخزان الأكبر للحكمة والفلسفة، وهو المعلم الناضج لدروس التأمل والعبرة، وهو المزرعة الخصبة لاستنبات وتوليد الومضات الفكرية التحليقية المجلية، وهو الملهم لأفكار ثورية رائدة تقلب المفاهيم الطبية بين الحين والآخر، كما حدث مع جراحة إليزاروف الذي عالج العظم بكسره، ونحن لا نعرف عن العظام إلا أنها تحتاج إلى التجبير، بسبب فكرة ملهمة في تسخير آليات النمو لغرض التطويل وإصلاح التشوهات، كل للزاد الذي نحتاجه وهو المزيد من الصبر والخشوع والتقوى في تأمل ظاهرة الحياة، وكيف تتكلم بلسانها الخاص، فهي أعظم فيلسوف أنتجته الحياة حتى اليوم.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى