
عبد الحق مفيد
فجأة أدرك البشر أن لهم مصيرا مشتركا، لم تنفع لا مناظرات ولا محاضرات ولا سلسلة من الكتب والأبحاث ولا صراخ الشعوب هنا وهناك، ولا صور الدمار الشامل أو موت الأطفال.. كان يجب أن يأتي فيروس أصغر من الإنسان بأكثر من مليار مرة لينبهه إلى هذه الحقيقة، لقد استطاع هذا الكائن اللامتناهي في التفاهة والصغر أن يجرد هذا الإنسان من عنجهية تراكمت عبر سنوات عديدة، استطاع أن يعريه من كل تنطع وأن يعيده إلى حقيقة وجوده الأزلية، والتي مهما صنع لتغطيتها ستعود إليه بكل عنف، لتقول له إنه مجرد إنسان وإن عليه أن يحترم كل ما يوجد حوله، لأن بتدميره لهذا المحيط الذي يوجد فيه يدمر بالنهاية ذاته..
حتى الصلوات التي أقيمت في القدس وفرانكفورت وواشنطن وتاج محل، كانت تتوجه إلى الخالق نفسه ولو بلغات ومعتقدات مختلفة، لأن المناجى واحد، والكل لجأ إليه ليرفع هذا البلاء.
فجأة توقفت الحروب والنزاعات الإقليمية والخلافات الإيديولوجية وتحققت العدالة.. أليس هناك أكثر من أن هذا الفيروس لا يفرق بين أمير وغفير، بين غني وفقير، بين صغير وكبير، إنه لا يأبه لا باللون ولا بالعرق ولا بالجنسية، إنه يسفه الحدود والحواجز والجمارك وينتقل وبكل أريحية بين الكل، إنه يعيد تذكير البشر بأنهم من طينة واحدة من خلق واحد، وبكل السخط الذي يملك.
لقد وصفه الأطباء بالذكي والشرس.. أو ليست هذه صفة من صفات البشر المعاصرين؟
سوف تمر هذه الجائحة حتما، بعد أن تكون قد حصدت في طريقها أبرياء كثر ممن لم تسعفهم مناعتهم لمقاومة المرض، حيث لا يستطيع الأطباء سوى تحفيز هذه المناعة لمقاومة هذا الفيروس، فهي الأمل الوحيد في غياب دواء يشفي أو مصل يحمي.
كل ما صرف على العتاد الحربي وما راكمته الشعوب من ذخيرة ومن أسلحة نووية ودمار شامل وغزو للفضاء، لا يساوي حقنة لفيروس تافه تفاهة الحروب التي خاضها البشر تجاه بعضهم البعض، فهل سيتمكن البشر من الانتصار على هذا الفيروس، ومعه الانتصار على أنانيتهم؟
سيعيد هذا الحدث مجموعة من العقارب إلى الوراء، سوف يهوي بترتيبات كثيرة ويمسخ استراتيجيات جيوسياسية، سوف يفرض إعادة ترتيب الأولويات والحد من جشع المضاربات الاقتصادية والسياسية، فحتى هذه الأخيرة دخلت إلى سوق الرساميل منذ زمن، وأصبحت ملكا لمن يدفع أكثر، متنكرة لأسباب وجودها وأصولها. ألم يملأ سماسرتها بلاطوهات الدعاية الرخيصة صراخا، بأن لا أخلاق في السياسة..؟ سوف يزول النظام العالمي الجديد، الذي بشر به تجار الحروب والخراب من فوق الدبابات وعبر عناقيد الغضب، من طائرات نفاثة وراجمات للموت العشوائي.
كل هذا ويا للغرابة، وضدا على كل التنبؤات وسيناريوهات التوقعات البليدة، التي تقول بنهاية التاريخ وانتصار الجشع. ليولد الإنسان المنشود «الأمل» في إنسانيته، ونبله وتضامنه، وإخلاصه لقيم العدالة ولطبيعته الإنسانية كملاذ أخير.



