شوف تشوف

الرأي

البدوي وجدارية «تكنو بارك»

يونس جنوحي

الحمد لله أن التعليمات أعطيت لكي يتم استكمال الجدارية التي بدأها فنان مغربي على ظهر بناية «تكنو بارك» الشهيرة بقلب مدينة طنجة. وبموجب تلك التعليمات تجنب المسؤولون في المدينة كارثة بكل المقاييس. إذ تفاجأ الجميع بتوقف أشغال الجدارية التي تكرم المصورة المغربية ليلى العلوي وبدؤوا يتلفون معالم الرسم كما لو أنه إعلان رديء لبيع البقع الأرضية، قبل أن يتدخل الوالي وتستأنف الأشغال.
السلطات التي أوقفت الأشغال الفنية تذرعت في البداية بأن إدارة المبنى لم تكن تتوفر على ترخيص يخول لها الرسم على واجهة البناية. لكن الأمر يتعلق بعمل فني تذكاري يكرم شخصية المصورة ليلى العلوي التي توفيت في انفجار إرهابي بإفريقيا قبل سنوات أثناء قيامها بمهامها في التصوير لصالح منظمة العفو الدولية.
من العار فعلا أن تكون مدينة طنجة بكل تاريخها القديم والحديث، مسرحا لحدث مشابه، إذ إن الواقعة تعيد أيام كان رجال الجمارك في ميناء طنجة يصادرون عدة الرسم التي يحملها زوار طنجة الأجانب من صحافيين ودبلوماسيين وحتى سياسيين، قبل أن يتدخل القناصلة لدى والي طنجة أو النائب السلطاني، لكي يفرج عن أدوات الرسم التي أحضرها أصحابها معهم إلى المغرب.
كما أن بعض المذكرات ورد فيها أن بعض المستكشفين الذين قرروا الاستقرار بطنجة خلال القرن 19، تعرضوا لمصادرة أدوات الرسم ومنعوا من إتمام لوحاتهم الفنية عن طنجة قبل أن يستعيدوها. وسرعان ما أصبح الرسم أمرا عاديا في طنجة، بل وبيعت لوحات رسامين إسبان تؤرخ لأزقة طنجة القديمة والحياة العامة بها، بالملايين.
كان العذر وقتها أن المغاربة لم يكونوا يعرفون معنى التصوير ولا الرسم، لذلك كان «المخازنية» لا يترددون في مصادرة الكاميرا والريشة من أيدي حامليها ظنا منهم أنها مسكونة بروح الشيطان، حتى أن بعض السياح تسببوا في أزمات سياسية بين بلدانهم والمغرب بسبب مصادرة أدوات الرسم أو منعهم من إتمام لوحاتهم في الشوارع أو شرفات الفنادق الأولى في المدينة.
لكن لاحقا، أصبح أهالي طنجة من الذواقين الكبار للفن، ولم يخل منزل من منازل سكان طنجة في القصبة أو بجوار الميناء، من لوحات فنية وصور تذكارية منها ما يعود عمرها إلى أزيد من 200 سنة. حتى أن صائدي الجوائز يترصدون السماسرة ويراقبون خلو المنازل التي هجرها أصحابها منذ أزيد من نصف قرن، طمعا في الوصول إلى لوحة أصلية تحمل توقيع فنان عالمي، تصل قيمتها بالتأكيد إلى ملايين الأورو.
من بين المشاهد المؤثرة تلك التي نقلتها سائحة أمريكية في سنة 1886، حيث كانت تحمل معها أدوات الرسم، وخرجت إلى ما أصبح اليوم يعرف بين سكان طنجة بالغابة الدبلوماسية، ووضعت عدة الرسم وبدأت ترسم المنظر أمامها للقاء أشجار الغابة مع زرقة البحر. وفوجئت السائحة بعدد من القرويات كن في المكان لجمع الحطب، فإذا بهن يتجمهرن حولها لتأمل اللوحة، فما كان منها إلا أن وضعت لوحا جديدا فوق الحاملة الخشبية وبدأت ترسم منظر القرويات وهن يرعين أغنامهن ويجمعن الحطب، قبل أن يأتي رجل ضخم بدا وكأنه رب الأسرة، وبدأ يرشقهن بالحجارة من بعيد لكي يبتعدن عن المكان. ظنت السائحة أن رب الأسرة يحاول إبعاد بناته لتركها ترسم في سلام وحسب، قبل أن تفاجأ به يأمرها بإشارة من يده لكي تغادر المكان وعينه لا تغادر تلك اللوحة التي لم تتم.
لم يكن هذا الرجل يعلم أنه أوقف العمل على واحدة من اللوحات المعروضة اليوم في متحف جامعة «شيكاغو». إذ إن قصة «بدويات من طنجة» رغم أنها لم تتم إلا أنها واحدة من أقدم الأعمال الفنية المرتبطة بطنجة الدولية.
ما قام به المسؤولون أثناء محاولة منع إكمال الجدارية بحجة عدم التوفر على ترخيص، يشبه كثيرا قصة البدوي قبل قرن، إذ إن المبررات التي قدمها هؤلاء لتفسير القرار قبل التراجع عنه، ستكون كافية لإضحاك حتى أولئك الفتيات اللواتي تجمهرن حول الرسامة الأمريكية، والتي وردت قصتها في “الـويكلي جورنال أوف شيكاغو” لعدد ماي 1910، حيث عرضت اللوحة وقصة الرسامة. أما نحن فلا نملك إلا تأمل التاريخ يعيد نفسه بهذه الطريقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى