الرأي

التاريخ واحد وذاكرات الأمم شتى

مالك التريكي
كثيرا ما تبين الروايات التي يرويها الأفراد عن وقائع كانوا من الفاعلين فيها، أو الشهود عليها، أنه قلما تحدث الناس عن الوقائع والأخبار والذكريات أحاديث متطابقة. وليست الأهواء والمصالح هي السبب الوحيد. فذلك سبب بعدي مركب، أما السبب الأعم لاختلاف الروايات فإنه سبب قبلي بسيط: وهو أن الرواة كثيرا ما يدركون الوقائع أو يتذكرونها بطرق مختلفة، بل وربما متباينة متضاربة. كما أن الانتقائية في الروايات ليست موقفا مقصودا على الدوام، وإنما يغلب أن تكون حالة ذهنية أو نفسية تتلبس فعل الإدراك أو فعل التذكر تلبسا لا يقع في منطقة الوعي. ذلك أن من الحقائق الإنسانية الثابتة أن الناس ينظرون إلى المشهد الواحد، دون أن يروا بالضرورة الأشياء نفسها.
ولا يقتصر هذا على الأفراد، بل كذلك هو شأن الأمم وشأن الفئات المتعددة ضمن كل أمة. يجمعها التاريخ في أحوال وتجارب واحدة، ولكن تصوراتها وذكرياتها عنها عادة ما تكون متخالفة. ولعل أكثر ما يكون ذلك إنما هو في الحروب والمحن. فالأمم الاستعمارية لم تكن تدرك الواقع الاستعماري، ولا هي تتذكره اليوم مثلما كانت تدركه ولا تزال تتذكره الأمم المظلومة المقهورة. كما أن الأمم المتحالفة المتآلفة لا تتذكر الواقعة الواحدة أو اليوم الواحد بالطريقة ذاتها، بل إن الحدث أو اليوم قد يكون ذا أهمية بالنسبة إلى أمة، فيما لا يكاد يتذكره أحد في الأمة المجاورة. ولعل 18 يونيو 1940 هو أوضح مثال. يوم عزيز على الأمة الفرنسية، فيه أذاع الجنرال دوغول من استوديوهات «البي بي سي» في لندن نداءه إلى الفرنسيين بأن يقاوموا الاحتلال النازي، وأن يعوا أن حكومة المارشال بيتان فقدت شرعيتها، منذ أن قررت الاستسلام للعدو، وأن يثقوا بأن فرنسا خسرت معركة، ولكنها لم تخسر الحرب. كان ذلك هو يوم بدء ملحمة الأمة الفرنسية، التي جمعت قواها الوطنية بالاستناد إلى دعم الحليف البريطاني، ثم الأمريكي، واسترجعت إرادتها واستقلاليتها بالاعتماد على جهد أبناء المستعمرات في المغرب العربي وإفريقيا الغربية.
كان ذلك هو بدء ملحمة «فرنسا الحرة»، التي أدت إلى التحرر من الاحتلال النازي وساهمت في إنهاء الحرب العالمية الثانية، على نحو هيأ الظروف المناسبة لاحقا لتصفية الاستعمار في الهند الصينية وفي إفريقيا، بدءا بتونس والمغرب، ثم إلى إنشاء الجمهورية الخامسة التي لا تزال فرنسا تحتكم إلى دستورها الدوغولي حتى الآن.
وبما أن هذه هي الذكرى الثمانون، فقد ذهب الرئيس ماكرون إلى لندن (في أول رحلة خارجية، منذ بدء أزمة الوباء) ووضع إكليلا أمام مبنى كارلتون غاردنز الذي اتخذه الجنرال دوغول مقرا أثناء الحرب العالمية الثانية، وتبادل الخطب مع الأمير تشارلز، الذي بلغ من لطفه ولباقته أن ألقى معظم خطابه بالفرنسية. أعرب ماكرون عن امتنان فرنسا للمؤازرة البريطانية ساعة الشدة، وقال إن ما وقع آنذاك هو إن لندن صارت هي عاصمة فرنسا الحرة، وإن «الملكية البريطانية صارت هي ملاذ الجمهورية الفرنسية». أما الأمير تشارلز فقد أكد على وجوب العمل على تجديد عرى التحالف والشراكة والصداقة بين الأمتين. ومثل كل عام، تصدر إحياء هذه الذكرى عناوين الجرائد ونشرات الأنباء الفرنسية. كما تميزت الذكرى هذا العام بصدور عدد معتبر من الدراسات التاريخية الجديدة، وبتجميع وثائق أرشيفية صارت متاحة للجمهور على الإنترنت.
كان ذلك هو يوم 18 يونيو في فرنسا. أما في بريطانيا، فلم تكد وسائل الإعلام تهتم بالخبر، لولا أن ماكرون ختم رحلته إلى لندن بزيارة بوريس جونسون في داوننغ ستريت. وليس أن الخبر لم يتصدر عناوين نشرات الأنباء في بريطانيا فحسب، بل إن «لندن إيفننغ ستاندرد»، الصحيفة اللندنية الأكثر شعبية، لم تر داعيا لوضعه على الصفحة الأولى، وإنما كان الخبر الأول الذي استأثر باهتمامها يومذاك، هو وفاة المطربة فيرا لين. كانت فيرا لين هي التي أدت، عام 1939، أغنية «سنلتقي مجددا» التي طالما شحذت عزائم البريطانيين، وأحيت آمالهم في سنوات الحرب والشدة. كما أنها زارت المستشفيات، أثناء الحرب، وغنت لأفراد الجيش البريطاني في مصر وبورما والهند. وبقيت الأغنية الشهيرة عزيزة على قلوب البريطانيين منذ ذلك العهد، ولهذا استشهدت بها الملكة في خطابها الذي أرادت به في أبريل الماضي رفع معنويات الأمة البريطانية، في مواجهة الأزمة الصحية والاقتصادية الحالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى