الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (1- 12)

بقلم: خالص جلبي

ما زالت أتذكر تلك الساعة وأنا أستمع إلى جودت سعيد وكنت يومها طالبا في كلية الطب، وهو يتحدث عن تدريس أخواته القرآن تفسيرا وشرحا، تعجبت وقلت له: «أنت تدرس أختيك تفسير القرآن؟»، وكان هذا ونحن نركب الباص العمومي سوية بدمشق عام 1965، قبل دخول سوريا ظلمات البعث. فالتفت إلي وقال: «أتعجب من هذا؟ لقد درستهما القرآن مرتين حتى الآن». وبعد مصاهرتي معه، عرفت نوعية زوجتي ليلى سعيد وأختها سعدية سعيد، وقدمت كتابي «النقد الذاتي» للشخصيات الثلاث جودت وليلى وسعدية، وهم بشر مميزون ندر مثيلهم. قلت في تقديم الكتاب: إلى أخي المفكر جودت سعيد فهو الذي غرس النبتات الأولى لهذا الاتجاه عندي. وإلى زوجتي ليلى سعيد، التي كان لها الفضل في توفير مناخ حماية هذه النبتات الضعيفة حتى كبرت وأثمرت. وإلى الأخت سعدية سعيد، التي أسهمت في إحياء الجدل العقلي. والآن سعدية تعيش في تركيا، بعد أن دمرت سوريا ودمر بيتها في الجولان على يد أوغاد النظام البعثي العبثي. أما زوجتي ليلى سعيد فدفناها في ثلوج مونتريال، في يوم ميلادها نفسه 7 شتنبر 2005م. وأما جودت سعيد فنجا من مذابح البراميلي، بعد أن قتل أخوه برصاص القناصة الطائفيين، واستطاع النجاة إلى أرض العثمانيين، فهو هناك حتى الممات على ما يبدو، فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات.
وأذكر أنني رأيته يوما وهو منطلق وكأنه ينحدر من صبب، وهو في تركيز واستغراق لا أنساه وحضور لشيء لا أعرفه، ولكن عرفته بعد ذلك عندما يهتم. فهو يعيش للفكر، وكما جاء في وصف الفيلسوف كيف تعرفه؟ وكان الجواب أنه يمشي وهو يقرأ.
وجودت سعيد من النوع الذي يقرأ قياما وقعودا وعلى جنوبهم وعلى ظهورهم. وفي معتقل الحلبوني الذي اعتقلنا فيه لصالح المخابرات العامة في دمشق الفرع 273، في أبريل 1973م، قرأ الشيخ فتاوى ابن تيمية الكاملة وهي حوالي أربعين مجلدا وأشياء أخرى كنا نلتقطها من أوراق ممزقة وبقايا جرائد، وكنا محرومين منها ومن أي زيارة. ومنها العهد القديم (التوراة)، الذي كان مرميا مهملا ممزقا في زاوية، فأعاد الشيخ ترميمه وترقيعه، ثم بدأ بقراءته وهو مستلق على ظهره حتى أنهاه، وهو أكثر من ألف صفحة. وله طريقة في القراءة فريدة، فهو يقرأ كل شيء بتمعن ومتعة، ثم يستخلص الفقرات التي تنال إعجابه فيجعلها في أول الكتاب المقروء، وعندما ينتهي من الكتاب يضع في نهايته أنه قرأه بتاريخ كذا وكذا. وهي طريقة استفدت بها منه فأضع في الصفحات الأولى الدرر التي التقطتها وأنا أغوص في عمق الكتاب، ثم أرجع إليها، فكأن الكتاب عندي بأهم أفكاره من وجهة نظري.
ترددت كثيرا أن أكتب في هذا الموضوع لأنني صهر الرجل، ولكنني أعتبر نفسي أفضل من يعرفه أو هكذا أزعم لنفسي. فقرابتي بالرجل قرابتان، المصاهرة والمتابعة في ما ذهب إليه، فأنا أقول ما يقول وعلى مذهبه في «اللاعنف أو المقاومة المدنية السلمية».
ويعود تعرفي على الرجل إلى عام 1965 ميلادي، عندما حضرت إلى دمشق وكانت علاماتي تخولني دخول كلية الطب، فقد كنت الأول في محافظة الحسكة يومها فانتسبت إليها. ومع وضع رجلي في دمشق، قمت بمسح راداري للوسط الفكري الدمشقي، وأحببت دمشق وما زالت، فهي مدينة عريقة وفيها تنوع لا مثيل له في كل سوريا من المشارب والنحل والأفكار والأحزاب. ولو عس الإنسان في هذه المدينة الأشهر الطوال، ما انتهى من اكتشافها فهي مدينة تاريخية عجيبة، وتوالى على حكمها قدر كبير من الطواغيت فلم يبق منهم أحدا.
وأثناء المسح تعرفت على معظم تيارات الفكر الدينية وغير الدينية في العاصمة القديمة. وفي الإطار الإسلامي تعرفت على تيارات شتى، منها الحزبية التنظيمية أو الصوفية أو المشايخية التقليدية، فحضرت دروس الشيخ (عبد الوهاب دبس وزيت) رحمه الله، وكان يدرس الفقه الحنفي في كتاب «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح». وكذلك تعرفت على الشيخ (سعيد البرهاني)، وكان مريضا رحمه الله تعالى يومها. كما حضرت درسا واحدا لواعظ السلطة أحمد كفتارو، المنافق الأعظم، فنمت فيه وأنا غير آسف على ذلك. وتعرفت على نشاط جامع (زيد بن ثابت) الذي كان يعج بتلاميذ الشيخ (عبد الكريم الرفاعي) رحمهم الله أجمعين. ولكن دروس (جودت سعيد) في جامع (المرابط) بدمشق كانت مميزة، ولها نكهة مختلفة عن الاتجاه التقليدي. وكان يلقي الدروس بالتعاون مع الدكتور (أمين المصري) رحمه الله تعالى، الذي اجتمعت به في ألمانيا لاحقا، وحضر كي يجري عملية البروستات بسويسرا، فكانت منيته في البعد والغربة. وكان الشيخ أمين المصري يحدثنا عن شخصيات صحابية من السيرة، وكان له طريقة إلقاء مميزة، وما زلت أذكر خطبة له في مسجد الجامعة السورية حينما تحدث عن روح المغامرة عند الصحابة، وما زلت أذكر أفكار الخطبة وكلماته وطريقة إلقائه، وكأنها نقش على لوح من رخام الذاكرة.
وفي محاضرات أو دروس جودت لفت نظري عنده، توجه مختلف وبحث عقلاني واستيقاء من مصادر غير ما سمعناه من تيار التقليد، الذي كنا أقرب إليه، وكان عمري يومها في حدود 19 سنة. وكنت أفكر في أن أتتلمذ على يد الشيخ سعيد الطنطاوي، وكنت ممن يؤمن بالصحبة، وعندما ذهبنا أنا وياسين آغا الصيدلي إلى بيته، كان قد فارق دمشق إلى غير رجعة. ولم أجتمع به إلا لاحقا في مكة، وهو شخصية ممتعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى