الرأي

الدورة التاريخية الخالدة (1- 3)

بقلم: خالص جلبي

 

بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا .. وليكن مغضوبا وملعونا، نهارا وليلا، وفي نومه وصبحه، ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما. ونسأل الله أن يخلص أولي الطاعة منكم وينقذهم، وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحد، وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربع أذرع، وأن لا يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانه.

نص اللعنة هذا لم يصب على رأس شقي، بل على فيلسوف يعتبر من أعمدة التنوير العقلاني في القرن السابع عشر، الذي تعتبر كتاباته التي لم تتجاوز أربعة كتب إحدى المحطات العقلية الرئيسية، في رحلة اكتشاف مسيرة العقل الإنساني، ومغامراته العقلية الضخمة لاختراق المجهول في فضاءات معرفية شتى.

وفي عام 399 قبل الميلاد تم تقديم رجل عجوز يناهز السبعين عاما، إلى المحكمة في أثينا، بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة، وتم الحكم عليه بالإعدام من أجل آرائه، بجرعة سم الشوكران. كان هذا المجرم «سقراط»، واستقبل الموت وتجرع السم وهو يشرح أفكاره لطلابه المتحلقين حوله حتى اللحظة الأخيرة، وهم يحبسون دموعهم وزفراتهم في مشهد تناقض كوني من هذا الحجم، والتهمة الخطيرة التي كان يمارسها سقراط، بحيث اعتبرت جريمة في نظر المجتمع الأثيني، فصوت بالأكثرية لإعدام ألمع دماغ في المجتمع، أن سقراط كان يرى أن هناك شيئا واحدا فقط يمكن التأكد منه هو: جهله؛ لأن من يعرف أنه لا يعرف، يكون قد وضع رجله في أول طريق المعرفة، لتصحيح ما عنده والاستزادة المعرفية مما ليس عنده، في كون يعج بالمعرفة ووجود لانهائي يستحيل على النضوب المعرفي. وفيها حرر مبدأه الأخلاقي الذي استفادت منه مدارس شتى في التاريخ في تأسيس العلاقات الإنسانية، بعدم مكافحة الشر بالشر، وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه، وأن التغيير الاجتماعي ينطلق مع ممارسة الواجب، أكثر من المطالبة بالحقوق، وأن الالتزام الأخلاقي هو الناظم المحوري في الحركة الاجتماعية، وأن البحث عن الحقيقة يجب أن يشكل نهم الإنسان الأول، بغض النظر عن الجانب النفعي فيها، في تشكيل عقل نقدي لا يعرف التقاعد أو الاستقالة في محاولة الاقتراب من الحقيقة… فأعدمته أثينا في أكبر حماقة تاريخية.    

 قرار لعنة سبينوزا كان في منتصف القرن السابع عشر للميلاد، ولكن قرارا مشابها صدر في حق دماغ إسلامي متألق، هو ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر للميلاد، ولم تشفع له شيخوخته أن يلقى تحت الإقامة الجبرية، منفيا في قرية الليسانة اليهودية، ليموت بعدها حزينا كسير القلب، لا يستفيد منه العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة، فهو ما زال على القائمة السوداء «مطلوبا». وتم تدشين الأيام الأولى من عام 1600 ميلادي بحريق مروع ارتجفت منه مفاصل المفكرين في أوروبا، عندما أُحْرِق المفكر الإيطالي (جيوردانو برونو) حيا في ساحة عامة.

ومرت الأيام وتتالت القرون فتم رد الاعتبار لسبينوزا، ونحت تمثال لسقراط يحدق بوداعة في حماقة التاريخ، واحتفل بذكرى ابن رشد، ونصب تمثال تذكاري لجيوردانو برونو، فيلسوف حرية الرأي، في الساحة نفسها التي شوي فيها حيا.

 فهذه أربعة أمثلة لأربعة مفكرين من أربع أديان. في نظم تاريخي ينبض بالوتيرة نفسها، ويلاقي المصير ذاته، بحماقة بشرية لا تعرف الحدود، ومتى كان للحماقة دواء؟    

 

طالب الحقيقة عند الفيلسوف نيتشه

 وصدق نيتشه، الفيلسوف الألماني ذو العقل الجبار، الذي كان يرسم ملامح طلب الحقيقة وصعوبتها، ويعرف الثمن إليها، في قصص من النوع الذي سردنا حين قال:

«لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفا لعقيدته، فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه، وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها. إياك أن تقف حائلا بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين. عليك أن تُصْلي نفسك كل يوم حربا، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك».

 

قصة الفقيه ذي اللوثة العقلية

  ينقل لنا الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة قصة مثيرة كان شاهدا فيها، أثناء مروره على دمشق، حينما تعالى صراخ الناس في المسجد، وهم يحيطون برجل يشبعونه ضربا، فهرع مع الناس يستطلع الخبر، ليفاجأ بهجوم العامة الكاسح على فقيه «مصاب بلوثة عقلية» تتعاون عليه الأيدي بالتأديب، بالنعال على رأسه. فسقط الفقيه، وطارت عمامته، وقيد إلى أحد القضاة للتعزير. وتفاجأ بأن الفقيه الذي «أكل هذه العلقة» وطارت عمامته من خفق النعال على جمجمته، لم يكن سوى العالم المصلح المجدد «ابن تيمية» رحمه الله تعالى!

   هذه القصص وأمثالها تروي حقيقة إنسانية مكررة، في جانب الإصلاح العقلي، في دورة حزينة متكررة ذات وقع رتيب، ودورة خالدة، ترسم التاريخ بالدم والسم والدموع والدخان واللهيب. لا مناص منها ولا مفر، لا وزر ولا مخبأ.

 

نافذة:

لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى