الرأي

«السوكورا»

إذا سألك أحدُهم عن أكثرِ الأشياء حباًّ وشغفا إلى قلبك، ماذا سيكون ردُّك؟ أو على الأصح كيف سيكون ردك، وأين تجده؟
هل ستبحث عنه ضمن علبة أفكارك؟
هل ستفتش عنه بين الصورِ، في ريبيرتوار جوالك؟
هل ستفتح حقيبة اليد وتلقي بمحتوياتها على مكتبك؟
أم هل ستستعين بصديق؟
حتى لوكان الصديق هو المعلم «غوغل»، فما الذي سوف تجود به خزائنُ أريحيته؟
سؤال صعب.. أليس كذلك؟
بالأمس سألَني أحدُ الأصدقاء: ــ ماذا تحبين بالحياة؟ جاء سؤالُه بسيطاً هكذا من دون أية مقدمات وبكل عفوية ومباشرة.. فنظرتُ إلى سؤالهِ عوضَ أن أسمعَه، حجمُ السؤال لم يكن لِيسَعَ السمعَ فقط، بل يملأ ُالعينَ ويحجب الرؤيا، بدليل أنني لمْ أستطعْ رؤية شيء واضحِ لبرهة، مرَّ شريطٌ طويل يشبه أشرطة سينما الخمسينات.. لكن بسرعة البرق، حتى إنني لمْ أستطعِ الوقوفَ على فكرةٍ أو صورةٍ أو مشهد.. والعبث، أنني صرتُ أفكرُ بأولِ درسٍ في اللسانيات البنيوية والتوليدية والنحو العربي ثم سيميائيات غريماس ورولان بارت، وقادني العبثُ نفسُه للتفكير بنظرية التلقي والمتلقي.. والمنهج التفكيكي عند جاك دريدا… استوقفني المنهج الذي تربَّع فوق كلمة الحياة، وقد ضرَب ما قبلها عرضَ الحائط، حتى تصورتُ للحظةٍ أنَّ ما أحبُّ؛ يوجدُ وراءَ الحياة فحسب.. لكنني رغم ذلك، وجدتُني أردُّ بكلماتٍ عاثرةً، في اللحظة التي كان يُطلبُ مني جواب بإلحاحٍ مستَحَب:
ــ «ألاَّ أفكرْ».. ربما تجدُ رداًّ على سؤالك بإحدى قصائدي، مع أنني سئمتُ التخفي وراء القصيدة من أجل البوح.
لا أظن أن الشخص كان يُمعنُ في ما أقول، بل كان ينتظرُ جواباً يقفز بدواليب فكرهِ بدلاً مما يدور في ذهني، تجاهلتُ بطبيعة الحال ما يصير إلى فهمي، طردتُ في الحين استيهامات جيل دولوز المدمرة، أحياناً يجدرُ بالمرءِ ألاَّ يفهمَ كثيراً، لكي يفهمَ المزيد في أوانه.. جاد الغيثُ ببعض الصدق الذي يباغتني دون أن يُصدرَ إشاراتٍ مسبقة، فقلت:
ــ وكأنك تسألني عن أصغرِ ثمرة في شجرة الكرزِ وفي احتفالاتِ «السُّوكورَا» برمتها… أو عن أصغر طفلةٍ سكنتني منذ زمن بعيد… وكأنك تسألني عن معنى الحياة المغيب وراء الصور الخَدَّاعة… يُؤلمني الشتاتُ والضلالُ والوقوفُ عند مفترق الطرق… تزعجني أضواء السيارات ليلاً، مثلما يزعجني شرطي المرور، الذي يقلب الرخص عدة مرات بكفيه فقط؛ بينما يُسندُ لناظريهِ مهمةً مغايرة تماما… شردت لبعض الوقت ثم استطردتُ قائلة:
ــ لِمَ لمْ تسألْني عن أكثرِ الأشياءِ التي لا أحب بالحياة؟
لكنني سوف أبوح لكَ بسر، لقد أحببتُ وما زلتُ كلمةَ «حب» شكلا ومحتوى، استيطيقياًّ، فهي كلمة صغيرة خفيفة تسعُ كل الأماكن الضيقة، مع أنها تحمل عبئاً دلالياً تنوءُ به الأساطير، تنامُ في قلبي بكل ثِقلِها، لا تؤذيني أبداً، صحيح عندما نحب، تبتسمُ كل المتناقضات بداخلكَ، لتتجانسَ فوق مرآة الوهم، وتلمعُ عيناك عندما تشاهد دروباً بقلبكَ، معتمةً، قد أضاءتْ، تبتسمُ للملائكة كما للشياطين، تحبُّ الموسيقى أكثر، وتتذوقُ «الفوندون شوكولا» بطعمٍ خرافي، وتغمضُ عينيكَ أكثرْ، لترى أكثرْ…
أبدا.. لا تسألْ
سألَتني عمَّا أحب في الحياة، ومازلتُ أبحث عن حياةٍ، لألقى جواباَ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى