الرأي

الشيخ العرعور وفتح جبهة حلب

قبل أربعة أعوام، حين كانت الأزمة السورية في بدايتها، التقيت في مدينة الدوحة، والتي كانت في ذلك الوقت محجا لرجال المعارضة السورية، وفدا من كبار علماء الشام، ودعوني إلى مشاركتهم طعام الإفطار في شهر رمضان المبارك، في مطعم فندق «شيراتون» الشهير، وكان من بين الحضور الشيخ عدنان العرعور.
التفاؤل كان في ذروته بحسم الوضع في سورية لصالح المعارضة المسلحة، التي فتحت لتوها جبهة عسكرية في حلب، ونقلت المواجهات إليها بعد حمص وحماة، ولاحظت في ذلك الإفطار أن الشيخ العرعور لم يكن من المؤيدين للتسرع في فتح هذه الجبهة مبكرا، بسبب اختلاف ظروف المدينة عن نظيراتها السوريات الأخريات، الأمر الذي عارضه بعض الحاضرين بقوة.
تذكرت هذه الواقعة اليوم، ونحن نتابع تهاوي الأحياء في شمال شرق حلب مثل أحجار «الدومينو» في يد القوات السورية المتقدمة بشكل متسارع، ونزوح أكثر من عشرة آلاف من سكانها باتجاه حلب الغربية الواقعة تحت سيطرة الحكومة، فالمعارضة المسلحة، ورغم التسليح الضخم الذي تلقته في السنوات الماضية، من دول عظمى وصغرى، لم تتمكن من السيطرة على هذه المدينة التي كانت تضم حوالي 2.5 مليون نسمة (باتوا أقل من 1.5 مليون حاليا)، لأنها غابة من الإسمنت أولا، ولأن أهلها لم يشاركوا في الاحتجاجات في البداية، ومعظمهم من التجار وأبناء الطبقة الوسطى، باستثناء منطقة الأرياف التي كانت تعاني من البؤس وفقر مشاريع التنمية، ولأن قوات الجيش السوري دافعت عنها بطريقة أسطورية، وتكبدت خسائر كبيرة لمنع سقوطها كليا.
لا نعرف كم سيستغرق من الوقت قبل السيطرة على باقي أحياء حلب الشرقية تماما (نصف حلب الشرقية بات في يد قوات الحكومة)، ولكن هناك شبه إجماع في أوساط المراقبين أنها قد تكون مسألة أيام أو أسابيع معدودة، في ظل اشتداد الحصار، وكثافة القصف الجوي والأرضي، وإدارة حلفاء المعارضة من عرب وأتراك وأمريكان وجوههم إلى الناحية الأخرى، وإسقاط المدينة من حساباتهم، وترك المعارضة المسلحة لمصيرها وحدها.
ستيفان دي ميستورا المبعوث الدولي إلى سورية توقع هذه المأساة قبل شهر تقريبا، لأنه يعرف ما يجري من تفاهمات في الغرف المغلقة بين اللاعبين الدوليين في الأزمة السورية، ولذلك عرض أن يصاحب المسلحين بنفسه للخروج من حلب الشرقية إلى ملاذات آمنة، ولكنه قُصف بالحجارة والاتهامات بالتواطؤ مع النظام السوري من قبل المعارضة وإعلامها، وذهب إلى دمشق في محاولة أخيرة لإقناع السلطات بإقامة «إدارة ذاتية» في تلك الأحياء، مقابل خروج المعارضة المسلحة، ليرفض السيد وليد المعلم هذا الاقتراح، ويتهم المبعوث الدولي بمحاباة «الإرهابيين» ومحاولة مكافأتهم بهذا الطرح، والأكثر من ذلك أن الرئيس بشار الأسد رفض استقباله.
لا يوجد أي خيار حاليا أمام المسلحين في حلب الشرقية غير القتال حتى الموت، أو القبول بتسوية توفر لهم خروجا آمنا، إلى مدينة إدلب، ويبدو أن الاتصالات التي تمت الاثنين الماضي بين وزير الخارجية المصري سامح شكري (بلاده عضو في مجلس الأمن)، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، التي قيل إنها تهدف إلى إصدار قرار أممي يحدد الأسلوب الأمثل للتعامل مع المعاناة الإنسانية للمحاصرين في حلب يّصب في هذا الاتجاه.
المعاملة الطيبة التي لقيها النازحون من حلب مسلحين كانوا أو مواطنين، حسب تقارير إخبارية شبه محايدة، من قبل السلطات السورية فور وصولهم إلى حلب الغربية، وعدم تعرض أي منهم للاعتقال، كانت حركة ذكية محسوبة بعناية، تهدف إلى تشجيع آخرين على النزوح، وتجنب مذبحة في تلك الأحياء، وسحب ورقة المدنيين من المعارضة المسلحة، وقد ألمح الى هذه الخطوة المرصد السوري لحقوق الإنسان المحسوب على المعارضة.
استعادة مدينة حلب من قبل التحالف السوري الروسي الإيراني تشكل نقطة تحول رئيسية في الصراع على الأرض، ستعزز سيطرة الحكومة السورية على المدن الخمس الكبرى، وهي حلب ودمشق وحمص وحماة واللاذقية، كما أنها، أي الاستعادة، ستشكل ضربة معنوية قاسية للمعارضة المسلحة وداعميها قد تنعكس سلبا على وجودها في مدن وأرياف أخرى ما زالت تحت سيطرتها.
التدخل العسكري الروسي، والقتال الشرس لقوات «حزب الله» وإيران لعبا الدور الأبرز في ترجيح كفة الحكومة السورية وجيشها الذي صمد طيلة السنوات الخمس الماضية في هذا الصراع، بينما اكتفى داعمو المعارضة السورية المسلحة في المقابل بالقتال بالفضائيات، والروموت كونترول، مما يجعل الفارق كبيرا جدا بين من يقاتلون في ميدان المعركة ويقدمون آلاف الضحايا، وبين الذين يراقبون عن بعد.
ماذا بعد حلب؟ إنها معارك إدلب وجسر الشغور والرقة، والباب، وهذه قصة أخرى سيتم تناولها في حينها.. وهي معارك قادمة حتما.. والأيام بيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى