الرأي

العدالة كسؤال فكري

عبد الإله بلقزيز

تجدد سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الأوروبي الحديث، في نهايات النصف الأول من القرن التاسع عشر، بعد طول غياب وتغييب من التأليف الفلسفي ومن سياسات الدول.
عودة السؤال عن العدالة إلى رحاب التفكير ليست بالأمر المستغرب بالنظر إلى الشروط التاريخية التي تجدد فيها. ولكنه ليس مستغربا، في الوقت عينه، إنْ أخذنا في الحسبان ذلك التراث الفكري الفلسفي الدائر على مسألة العدالة، الموروث عن أزمنة قديمة ووسيطة؛ التراث الذي لا يمكن إلا أن يترك تقاليده في التفكير الفلسفي والتفكير الإنساني عامة؛ وأولها تكريس العدالة بما هي قيمة إنسانية واجتماعية عليا ينشدها المفكرون والناس والمجتمعات نُشدانا.
على أن السؤال الفلسفي عن العدالة، على نحو ما دشنه أفلاطون (والأرجح أن يكون ذلك بتأثير من أستاذه سقراط)، ليس هو عينه سؤالها في القرن التاسع عشر وما تلاه؛ فهو كان سؤالا نظريا في فلسفة أفلاطون أكثر مما كان ينتمي إلى أسئلة الفلسفة العملية: كما سيصبح عليه الأمر في العصر الحديث. ثم إن الغرض منه كان البحث عن معيار ذهني يقاس به الفعل الإنساني الذي يقبل الوصف بأنه يطابق في المضمون معنى العدالة. أما اليوم فالتفكير في العدالة مصروف إلى البحث عن نموذج اجتماعي تتوزع فيه الحقوق توزيعا عادلا، أي على قاعدة مبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ الحق العام في الثروة. وهو لهذا السبب، لم يعد تفكيرا فلسفيا حصريا، بل صار يمكن التفكير فيه بمفاهيم علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، من أجل اشتقاق رؤى وبرامج وسياسات عملية حول العدالة في النظام الاجتماعي والاقتصادي العام.
لم يكن انتباه الفلسفة الحديثة إلى مسألة العدالة معزولا عن السياق التاريخي الجديد الذي تجدد فيه السؤال عنها؛ فلقد كان وراءها قرنان من سيطرة العلاقات الرأسمالية للإنتاج في المجتمعات الأوروبية والغربية، ومن الذيول والتبعات الاجتماعية التي تولدت من صيرورة النظام الرأسمالي نظام إنتاج فيها. إن التحولات التي أحدثتها الرأسمالية على الصعيد الاجتماعي هائلة وعميقة بحيث غيرت، تماما، الأوضاع والتراتبيات الاجتماعية ونظام تقسيم العمل الاجتماعي وسوى هذه. وخلافا لما كان مأمولا- على الأقل في توقع ليبرالي متفائل – لم تقد الرأسمالية مجتمعاتها، التي سادت فيها، إلى الوفرة والرفاه وتقليص الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، بين المدن والأرياف، بمقدار ما أنتجت البؤس، أيضا، والفقر والحرمان، وعمقت التفاوتات الاجتماعية إلى حدود صارخة. ولقد كان من الطبيعي، في مثل هذه الحال من أوضاع الانسحاق والتهميش والحيف والتفاوت، أن يتفاعل الفكر الحر مع هذا كله، وأن يرفع معدل الانتباه إلى ما فيه من مجافاة لمبدأ العدالة الاجتماعية.
على أن الفلسفة الحديثة التي تَهجست بفكرة العدالة الاجتماعية لم تجد لها تعبيرا ماديا سياسيا عنها يحققها. صحيح أنه قامت في أوروبا أنظمة سياسية على الفكرة الاشتراكية (في روسيا وبلدان شرق أوروبا)، ولكن سياساتها المطبقة، في الميدان الاجتماعي، ظلت أبعد ما تكون عن الانشداد إلى فكرة العدالة الاجتماعيةَ، على الرغم من أن الدولة، في هذه التجارب، هي التي كانت تدير الاقتصاد والإنتاج وتشرف على توزيع الثروة. مع ذلك روعيت حقوق المنتجين فيها، ولكن ليس إلى الحد الذي يُجوز القول إن سياساتها الاجتماعيةَ راعت مبدأ العدالة. في كل حال، استمر التقليد الفكري المهجوس بفكرة العدالة الاجتماعية يفصح عن نفسه في الفكر الغربي؛ في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، غير آبه بمزاعم تطبيق هذا المبدأ عند الأنظمة التي بنت شرعيتها السياسية على دعوى تبنيه.
ولم يكن بعض الفكر الديمقراطي الليبرالي أو، قل، الليبرالي الاجتماعي بعيدا عن الانهمام بمسألة العدالة الاجتماعية؛ فلقد وُجِدَ من مفكريه – أظهرهم المفكر الأمريكي جون رولز- من أفرد لها أوسع المساحات في تأليفه، حتى أن رولز وضع للعدالة نظرية هي الأولى في تاريخ هذا الفكر الليبرالي، محاولا أن يخلع عليه بعدا اجتماعيا كثيرا ما تجاهله من سبقه من مفكري الليبرالية. ومع أن أحدا لا يملك أن يرتاب في صدق رغبة الليبراليين الاجتماعيين في إعمار الفكر الليبرالي بالمضمون الاجتماعي، لكسر احتكار الفكر الاشتراكي للمسألة، إلا أن الذي لا شك فيه أن مقاربة مفكري الليبرالية الاجتماعية – وفي جملتهم رولز- لم تكد تخرج عن نطاق الأطر التي وضعتها الكينزية لاجتماعيات الليبرالية، أي للسياسات التدخلية التي من شأنها تطوير منظومة توزيع الحقوق الاجتماعية بحيث يشمل طبقات المجتمع كافة؛ وهي الأطر والسياسات التي أفضت إلى قيام نموذج دولة الرعاية الاجتماعية «Welfare state » (بين النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين وسبعينياته)، قبل زواله بدءا من الثمانينيات، مع عودة ليبرالية السوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى