الرأي

المنبوذون

شامة درشول
حدث مرة أن كنت أزور والدتي في منزلها، وفي الحي الذي ولدت فيه، قرعت جرس باب المنزل، وانتظرت أن تقوم أمي بفتح الباب، وفي تلك اللحظات المعدودة شعرت بيد تربت على كتفي، فقفزت من مكاني، والتفتت، وصرخت…
استرجعت هدوئي بسرعة ثم قلت: «الله يا خاي خلعتيني».
كان الفتى يقف أمامي بوجه مغبر، وشعر أشعث، بدا هادئا، كانت أول مرة ألمحه هادئا، اعتدنا سماع صوته وهو يصرخ في الحي ليلا وكأنه يعلن أنه خرج من السجن، وعاد ليزعجنا ثانية.. كانت صرخة شخص خائف، شخص يشعر بنفسه منبوذا، ربما لذلك كان يتلذذ بالصراخ ليلا حين يكون سكان الحي قد خلدوا للنوم، وربما كان يبحث عن أي مبرر لنتصل بالشرطة، ويعيدوه مرة أخرى إلى المكان الذي يبدو أنه بات يشعر فيه بأمان أكبر.
عيناه اللتان كانتا دائما تقدحان شرا كانتا هذه المرة دافئتين، تحكي دائما أمي أنه كان فتى شديد الوسامة، وأنه من عائلة طيبة، الأب موظف والأم ربة بيت، وله أخوان موظفان، وأخت شديدة الجمال تزوجت وسافرت بعيدا مع زوجها. تقول أمي إنه كان شديد الهدوء، كثير الخجل، وأنه تغير فجأة حين اشتغل في مكان ما منه تعلم تعاطي المخدرات فتحول إلى مصدر أذى لنفسه، ولعائلته وللحي. تحكي أمي أنه كان يلعب وهو صغير مع أخي خالد رحمه الله، وأنهما لم يكونا يفترقان لأنهما كانا يدرسان معا، لذلك أمي تعطف عليه، ولذلك أخي يعطف عليه، ولذلك أبي كان يعطف عليه، لكني أنا لم أكن أحبه، كنت أعرف والده ووالدته أبوين شديدي الأدب والطيبة، كنت أشعر بالسوء تجاههما، وأتساءل كيف لشخص أن يتسبب بكل هذا الأذى لوالديه، لم أتحدث إليه يوما، وكنت دائما أنظر إليه شزرا إن لمحته في طريقي، كنت أشعر بأنه يشعر بتلك المشاعر السلبية التي أحملها تجاهه، لذلك كلما لمحني قادمة أدار وجهه للناحية المخالفة، ربما حتى لا يرى تلك النظرات التي أرميه بها كلما لمحت طيفه، ولذلك لم أفهم لماذا تجرأ على أن يتحدى كل هذا الماضي الصامت والمليء بالرفض، وأن يتقدم نحوي ويضع يده على كتفي.
حين استدرت، توقعت أن يطلب مني مالا، أو أن يسألني أن أستعجل والدتي وتمده بالطعام كما اعتادت أن تفعل، لكنه خيب كل توقعاتي ووجدته ينظر إلي بعينين دامعتين ويقول لي: «أستادة، شفتك لبارح في التلفزة، أنا مفتخر بيك».
كانت الجملة التي قتلتني، قتل في كل ذاك الكِبر الذي قابلت به شخصا هو في حاجة للمساعدة وليس للنبذ. حين عدت بعدها إلى منزل أمي، وبحثت عنه لأنصت إليه هذه المرة، بدل أن أنظر إليه بتكبر، وأعتبره مجرد مصدر إزعاج، أو كما كنت أسميه «الشخص الذي يشوه جمال الحي»، لكنهم أخبروني أنه عاد مرة أخرى للسجن، هذه المرة سيقضي فيه سنوات طويلة.
هل كان سيتغير شيء لو كنت تحدثت إليه قبل أن يحدث له ما حدث؟
الجواب سيكون لا، «لأنه هو من تسبب في هذا الوضع لنفسه، وأن كل شخص مسؤول عن نفسه وعن أخطائه، وأنه حتى لو أردت أن أساعده فهذه مسؤولية الدولة وليست مسؤوليتي، وأنه في حاجة لعمل، لراتب يمكنه من أن يصبح مسؤولا عن نفسه دون أن يكون مصدر إخلال بأمن بلد»، لكن هذا الرد الذي اعتدنا أن نسكت به عقولنا، ونميت به قلوبنا، هو رد مليء بالأنانية، والأنانية هي واحدة من الأشياء التي تعرقل تقدم هذا البلد، بل إننا نشجع عليها حين نقول «راسي يا راسي»، «وما دير خير ما يطرا باس»، و«سبق لميم ترتاح»، نعم نحن نتأذى أحيانا حين نمد يدنا بالعون للآخر، ويرهقنا كثيرا «لكريصاج»، الذي نتعرض له على مدار اليوم من مافيا المتسولين، وكل أولئك الذين يرون في أبناء الطبقة المتوسطة قارب نجاتهم، دون أن ينتبهوا إلى أن هذا القارب هش، وقابل للغرق في أي وقت، لكني أتذكر ذاك الشخص الذي دخل يوما مقهى في الدار البيضاء، جلست فيه برهة في انتظار قدوم موعدي، لم أنتبه إلى أني كنت المرأة الوحيدة به، والبقية رجال. كان الفتى شبيها بفتى الحي، وجه مغبر، وشعر أشعث، وعينان زائغتان، توسل دريهمات، ولم يلتفت إليه أحد، وبدا الفتى مصرا على أن يحصل عليها، وبدا الحضور مصرا على أن يقابلوا إصراره ذاك بالصمت، بالكبر وبالتجاهل، رفعت إليه عيني، ووجدت عينيه تطفحان غضبا، لم أكن مستعدة لأن أسمع كلمات قبيحة وأنا في مجلسي ذاك، فسألته أن يقترب، لا أذكر كم منحته، لكني أذكر جيدا أنه عاد بعد لحظات وهو يحمل في يده كيسا كبيرا من المناديل الورقية، وقال لي: «شكرا بزاف اختي عاونتيني، هانا مشيت شريت بيهم باش ندير بروجي ديالي.. شكرا بزاف».
لا نستطيع أن نغير الكون، ويد واحدة لا تصفق، هذا صحيح، لكن أقله أنه يمكن أن نغير شيئا ولو قليلا حين نكف نحن بدورنا عن الخوف من هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم من «المنبوذين».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى