الرأي

اليأس

رأيت الكثير من المتملقين ولاحسي الأحذية والرقاب، الجهال والأميين واللصوص والخائنين، يتألقون في المناصب وهم لا يفكون شفرة نص مطالعة الناشئين. رأيت الكثير من بطون العناكب تنصب خيوط فخاخها لنا. وكم رأيت من مظاهر لا توحي سوى بالانفصام والخيبة وتحفز على حمل الحقيبة وإسقاط الهوية وطلب اللجوء ولو إلى قعر إفريقيا، حيث مظاهر المجاعة والبؤس لا تنتهي، اللهم أن تحس بالهوان والانشطار في الغربة ولا تحس به في بلدك. الألم يكون مضاعفا ولا يرحم الذات.
أسير بلا تركيز وبلا حضور، مرفوعا عن هذا العالم، حتى أن رجلا في تقاطع الشارع تبرم مني وشد على ظرفه الذي كان يحمله تحت إبطه، وكأنه مكتوب في جبهتي «خطر» أو «احذر». شعرت بعد إقصائي في سلك الدكتوراه لأنني لا أعرف أستاذا عن قرب وليس لي ما أدفعه، ورفضي من ولوج سلك التدريس الذي عقدت عليه آمالا كبيرة، بخيبة عارمة لأنني لا أنتمي لأي حزب ولا أعرف شخصية وازنة. أحسست وكأن لجنة مخابراتية تترصد بي وتمنعني من القيام بهذا الواجب الشريف، تماما كما كان يقع مع شارلي شابلن والمخابرات الأمريكية. أما هنا فنعاني من مخابرات المحسوبية، والمتاجرة في المناصب، والحزبية. فقد اكتشفت أن كل شبيبة حزب ملتح تم انتقاؤها وهي الآن تنعم بالوظيفة في ظل الفساد، لأن هذا الحزب الجديد الذي تسانده جهات خاصة ذات نفوذ وسلطة متطاولة، قد أخذ على عاتقه أن يشغل كل أطره، وأن يوظف أكبر قدر ممكن من شبيبته لإعانته في مصالحه، بل إن أغلبهم زرع أولاده في مناصب كبرى حتى يستفيد من خدماتهم. وأولاد الشعب يصوتون عليهم بخمسين درهما وبـ«بقشيش» من الوعود الباطلة. بل أخذوا على عاتقهم أيضا أن يغتنوا ويفسقوا، فمنهم من تزوج بعد أن تدرج في الكراسي الوزارية فتخلى عن امرأة أيام العدس والفاصولياء وتزوج بشابة يافعة صاخبة الأنوثة في سن ابنته يصطحبها إلى المطاعم الفاخرة ويزيح مذاق العدس بالكافيار والسلمون والنبيذ المعتق. ومنهم من يعتبر نفسه الأذكى، فنصّب عشيقاته سكرتيرات حتى يظللن أقرب منه. ومنهم من استبدل الشقة النتنة بالرطوبة وقذارة مياه الصرف الصحي في الأحياء الهامشية بالفيلا الفيحاء الرنانة التي تساوي الملايير أو بضيعات فردوسية. من أنّى لهم كل هذا؟ من يؤدي كل هذا؟ الكادحون بطبيعة الحال.
لطالما أحسست خلال هذه العشر سنوات من العطالة بعد حصولي على الإجازة وبعدها على الماجستر وبعدهما تعمير المقاهي ونش الذباب، بأنني أشبه بالسجين. أحس بأن حريتي مسلوبة ما دمت لا أتمتع بأبسط حق من حقوقي، وهو الوظيفة والعيش الكريم. لمَ ندرس إذن؟ السجين على الأقل يتمتع بحياة هادئة ومستقرة في السجن، يأكل وينام ويتعلم مجانا. أما أنا فأتعذب في سجن البطالة. لا فرق بيني والسجين. سأفكر في السجن إذن ما دامت عيشته أفضل من هذه العيشة التعيسة التي أتمرغ فيها. فنحن لا نطالب بالمستحيلات، نطالب بعيش كريم كباقي العالم النامي. ننعم بحقوقنا ونعيش بكرامة. ندرس ونتعلم، ولا نبكي الخبز، ولا نعاني من الأمراض المزمنة، ولا تستغبينا المحاكم، ولا نقتل بعضنا البعض من أجل اللقمة كالضباع، ولا نشوه صورتنا في برامج فاشلة. نعيش هذه الحياة القصيرة في سلام وأمان. لا نحلم بسعادة خرافية كسعادة المشاهير المزيفة. فحتى ملك «البوب» مايكل جاكسون الذي غزت شهرته كل بقاع العالم ووصلت ثروته لتصورات خيالية، لم يكن سعيدا، كان حزينا يبكي بحرقة وهو داخل إلى استوديو التسجيل عندما يرمق الأطفال من النافذة يصرخون ويلعبون ويلهون، وحين سجنته الشهرة منذ صباه ولم يعد يستطيع الاحتكاك مع العالم.
نحن الذين نصنع الفساد بأيدينا وننفخ فيه بجهلنا وخوفنا. نحن الذين نرسم ابتسامة المفسدين ونقبر ابتسامتنا.. لن أسمح باغتصاب ابتسامتي، سأعود لنقطة البداية وأنطلق، ولن أتخلى عن صبغتي وجلدتي ونضالي، لربما أجد وصفة لابتسامة طفولية أبدية. من يدري؟ ما علي سوى أن أبدأ من جديد، وأحمل الصخرة إلى القمة بدون تذمر، بنشاط وتفاؤل مقتديا بسيزيف. فليس ـ هذا الأخيرـ سوى عبرة لمعاناة صخرة سرمدية. سأتحمل الصخرة مهما كان ثقلها. ومهما تركت من ندوب على ظهري. فما خلق أمثالي إلا للشقاء ولأجل ثقل الصخور.
هذا أفضل من حجز تأشيرة الجنون أو الموت. فما قد نخسر من أجله حياتنا لا يستحق كل هذه التضحية. فماذا يمكن للمرء أن ينتظر من جلادين يتنكرون لأنفسهم فبالأحرى الآخر، أن يقدموا لهذا الشعب؟ ماذا يمكن أن يُنتَظَر من انتهازيين يتنكرون لمبادئهم ولأحزابهم ولدولتهم؟ ماذا ننتظر من مسؤول يشتم المعارضة ويكشف فسادها ويتحالف معها في الأخير؟ ماذا ننتظر من سياسيين مزيفين يبدلون جلدهم كالثعابين كما لو كانوا يعبثون في ما بينهم كصبايا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى