الرأي

تخلف الإعلام الغربي عن دوره التنويري

مالك التريكي
ترافقت موجات الاحتجاج ضد العنصرية التي انطلقت من أمريكا وانتشرت في كثير من مناطق العالم، سيما في أوربا الغربية، مع تصميم لدى بعض المحتجين، خصوصا منهم طلبة الجامعات، على إسقاط تماثيل الزعماء والساسة والعسكريين الغربيين، الذين ارتكبوا جرائم عنصرية أو كانت لهم مواقف عنصرية معروفة. وقد يبدو، ظاهرا، أن في هذه المطالب خروجا على الموضوع وانحرافا عن جوهر القضية، وتبديدا للجهد في معارك العلامات والرموز. ذلك أن القضية التي يجدر أن تتجند لها الطاقات، إنما هي السعي إلى تغيير الواقع الاجتماعي بالقضاء الفعلي على العنصرية في الحياة اليومية، وليس تغيير مشهد الساحات العامة أو مداخل البنايات.
إلا أن وجه الإيجابية في هذه المطالب هو أنها قد أدت، ولو بعض الشيء، إلى إيقاظ الرأي العام الغربي من غفلته التاريخية، وإلى تحفيزه على معرفة ماضيه الاستعماري. إذ إن الرأي العام في البلدان الاستعمارية، وخصوصا فرنسا وبريطانيا، لا يزال في معظمه سابحا في ضباب الوعي الأسطوري بوقائع الزمن الاستعماري، مخلدا إلى أمان الاعتقاد بأن الاستعماريين الأوربيين ما ذهبوا إلى إفريقيا وآسيا إلا تحملا لـ«عبء الرجل الأبيض»، حسب القولة الشهيرة لرديارد كيبلينغ، واضطلاعا بالرسالة الحضارية و«المهمة التمدينية»، حسب القولة الشهيرة لجول فيري. وقد بينت استطلاعات الرأي العام على مدى السنين، أن النظرة الشعبية إلى تاريخ الإمبراطورية البريطانية نظرة تمجيدية يسمها الفخر والاعتزاز (علما أن مجرد استخدام مفردة الإمبراطورية، بدل الاستعمار، هو في حد ذاته دليل على إشكال في الوعي أو تحيز في الموقف). ومؤدى هذه النظرة أن تاريخ الإمبراطورية مشرق، وأن تركتها كلها خير وبركة، لأن الشعوب التي وقعت تحت الحكم البريطاني قد تعلمت وتقدمت، وولجت دنيا الحداثة من أوسع الأبواب!
هذا هو في العموم موقف البريطانيين الذين لا معرفة لهم بالتاريخ، عدا معلومات تقريبية عن الحرب العالمية الثانية، وانطباعات شائعة عما تحلى به الشعب البريطاني من بطولة خارقة، مكنته من النصر على النازية، بجهده الذاتي دون عون من أحد! موقف ينم عن وعي أسطوري؟ أي نعم، ولكنه شائع لدى عموم الناس. ولعل الصحافة الشعبية قد عبرت عن هذا الموقف أطرف تعبير عندما نشرت، عام 1940، عنوانا سرعان ما اشتهر وذهب مذهب المثل: «ضباب كثيف على القنال. البر الأوربي في انقطاع كلي». أي إن تضخم الذات القومية قد أوقع محرر العنوان في مهزلة التحلل من ضوابط المنطق البشري، فإذا به يعجز عن إدراك أبسط البسائط: أن الجزر البريطانية الصغيرة هي التي صارت منقطعة عن بر القارة الأوربية الواسع، بسبب كثافة الضباب المانع لحركة النقل والملاحة. أما وجه الخطورة في هذا الموقف النرجسي، فهو أنه لا يزال إلى اليوم ساريا يفعل فعله في الحياة السياسية ويؤثر في تحديد توجهات المستقبل، حيث إنه كان أحد أهم الأسباب في ما حققته الحملة الانعزالية التي تعرف باسم البركسيت من نجاح في ترويج الأباطيل، وإشاعة البغضاء ضد الأجانب، وتزيين حلم الانفصال عن الاتحاد الأوربي.
ولكن النظرة التمجيدية للتاريخ الاستعماري ليست حكرا على المواطن العادي، أو على الساسة الشعبويين، بل إنها راسخة لدى مؤرخين بريطانيين معروفين، من أمثال كريستوفر بيلي ونيل فيرغسون، يرون أن الحكم البريطاني أورث المستعمرات مؤسسات عصرية، مثل المدارس والصحف والمحاكم ونشر قيما حميدة، مثل الديمقراطية وحرية التبادل التجاري. وإذا كان هؤلاء المؤرخون المعاصرون يتظاهرون بعدم معرفة الحقيقة، ويريدوننا الآن أن نصدق بأثر رجعي أنه لم يكن للاستعمار من غاية سوى بناء المؤسسات ونشر القيم، فإن وزير الداخلية وليام جونسيون ـ هيكز قد كذبهم ابتدارا واستباقا. ذلك أنه قال في عشرينيات القرن الماضي، إن الأحاديث تدور «بأننا غزونا الهند للارتقاء بمستوى معيشة الهنود، إلا أن هذا نفاق. لقد غزونا الهند لتأمين سوق للسلع البريطانية».
صحيح أنه ظهرت في الأعوام الأخيرة عدة دراسات تاريخية جادة، تبين بطلان مزاعم الممجدين للاستعمار، إلا أن المعركة الفكرية لم تحسم. أما المعركة الإعلامية فإنها لم تبدأ أصلا. ولهذا فإن وجه الإيجابية في المطالبات بإزالة تماثيل الشخصيات التاريخية العنصرية، هو أنها قد ساهمت بقدر ما في إيقاظ الرأي العام الغربي من غفلته، التي ما كانت لتطول إلى هذا الحد، لولا تخلف الإعلام عن أداء واجبه في التوعية والتنوير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى