شوف تشوف

الرأي

جدل «عقيم» انتقل إلى بريطانيا بمناسبة الذكرى العاشرة لتفجيرات «مترو أنفاقها» الإرهابية

عندما كنت أشدد في جميع مقابلاتي التلفزيونية ومقالاتي الصحافية، أن تفجيرات لندن الإرهابية جاءت كرد فعل وعمل انتقامي للغزو الأمريكي البريطاني للعراق، كان توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في حينها يقول العكس تماما ليبرئ نفسه وحكومته من أي لوم، ولكن أشرطة الفيديو التي سجلها الشبان المنفذون الأربعة كوصاياهم الأخيرة، أكدت ما قلت وكذبت بلير وحكومته والمتحدثين باسمه.
هل هي صدفة محضة أن تتزامن الذكرى العاشرة لتفجيرات مترو أنفاق لندن الانتحارية مع مجزرة الشاطئ التونسي للسياح البريطانيين وبعض الأجانب الآخرين؟ لا نعتقد ذلك، فهناك رسالة تهديد دموية أراد منفذ الهجمات الأخيرة التونسي التابع لـ «الدولة الاسلامية» أن يوجهها للسلطات البريطانية، مفرداتها تقول أننا لم نستطع الوصول إليكم في عقر داركم، فقررنا استهداف مواطنيكم في بلادنا كرد على قصفكم لمواقعنا في العراق وسورية، من خلال مشاركة طائراتكم الحربية في التحالف الستيني الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
تعيش بريطانيا، التي أقيم فيها منذ ما يقرب الأربعين عاما، حدثين مأساوين هذه الأيام، الأول الذكرى العاشرة لهجمات السابع من يوليوز عام 2005 التي تمثلت في تفجيرات انتحارية، أقدم عليها أربعة شبان مسلمين، واستهدفت قطارات أنفاق لندن، وأسفرت عن مقتل 52 مسافرا بريئا، وإصابة 700 آخرين بينهم مسلمون، كان من الممكن أن أكون أحدهم، أما الثاني فهو مقتل 30 سائحا بريطانيا برصاص شاب تونسي اقتحم الشاطيء الذي كانوا يتشمسون على رماله في منطقة سوسة السياحية التونسية الشهيرة.
في اللحظة الأولى من سماعي نبأ التفجيرات الأولى أدركت أن تنظيم «القاعدة» يقف خلفها لأن طريقة التنفيذ توحي بذلك، مع فارق أساسي هو أن جميع هجمات التنظيم السابقة، كانت إما من خلال الشاحنات أو السيارات المفخخة، أو تحويل طائرات إلى صواريخ، مثلما كان عليه الحال في أحداث 11 سبتمبر 2001، لكن تفجيرات مترو أنفاق لندن جاءت من خلال حقيبة ظهر مليئة بالمتفجرات.
الشاب التونسي سيف الدين رزوقي يعقوبي الذي ارتكب مجزرة شاطئ سوسة، اختار ضحاياه بعناية فائقة، والبريطانيين منهم خاصة، فقد تم رصده قبل يومين وهو يقوم بمهمة استطلاعية، يراقب ضحاياه ويتعرف على جنسياتهم في عملية رصد محسوبة بدقة، ولعله أراد أن يوجه رسالة تحذير إلى أكثر من جهة، إلى الدول التي تقصف طائراتها «الدولة الاسلامية»، أو تفكر بإرسال قوات برية لمحاربتها مثل تركيا، تقول بأن صناعة السياحة فيها والتي تدر 30 مليار دولار سنويا يمكن أن تنهار، فالأمر لا يتطلب أكثر من بضعة شبان وأحزمة ناسفة أو بندقية آلية.
ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الحالي، مثله مثل سلفه بلير، ابتعد كليا عن الأسباب الحقيقية التي تعرض أرواح المواطنين البريطانيين للخطر، وهي تدخل حكومته عسكريا في العراق وسورية، وركز على شن هجوم شرس على هيأة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» لأنه لا يجب عليها إطلاق تسمية «الدولة الاسلامية» على منظمة أبو بكر البغدادي، وإنما كنية «داعش»، التي تستخدمها حكومات عربية، ولم يلفت أحدا أنظار المستر كاميرون أن داعش اختصارا «لاسم» «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، أي أنه كمن فسر الماء بالماء! أو مثل النعامة التي تدفن رأسها في التراب.
مشكلة المستر كاميرون وحليفه الرئيس الأمريكي باراك اوباما، وكل الزعماء العرب الآخرين، لا تنحصر، أو لا يجب أن تنحصر، في تبني هذه التسمية، أي «الدولة الاسلامية» التي تتوسع وتتمدد بسرعة قياسية، وتحظى بتأييد أكثر من 42 مليون مسلم، حسب ما أفادت به أربعة استطلاعات للرأي عربية وأمريكية، فقد استطاع هذا «التنظيم» تنفيذ ثلاث هجمات في يوم واحد في ثلاث قارات، أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 300 شخص، واحدة في الكويت (آسيا) وثانية في تونس (أفريقيا)، وثالثة فرنسا (أوروبا)، استجابة لنداء المتحدث باسمها أبو محمد العدناني، بمناسبة شهر رمضان المبارك. وبغض النظر عن التسمية التي يريدها كاميرون لـ«الدولة الاسلامية»، فإنها دولة قائمة بالأمر الواقع، حسب مواصفات وتعريف القانون الدولي، ومعاهدة مونتيفيديو لعام 1933 حول حقوق وواجبات الدول، فهي تفرض حكمها على مساحة من الأرض تعادل نصف كل من سورية والعراق، وحوالي عشرة ملايين مواطن يحصلون على خدمات أمنية وطبية وتعليمية وقضائية، وماء وكهرباء، ربما أفضل من الدولتين الجارتين، وميزانية سنوية تصل إلى بليوني دولار، ولها محطتا إذاعة وتلفزيون، وحكومة تضم 22 وزيرا وعملة مستقلة، وعلم وجيش وقوات أمن، ولن نفاجأ بتأسيس شركة طيران خاصة بها قريبا!
دس الرأس في الرمال، ونكران أمر واقع على الأرض لا تغفله العين، لا يعني إزالة الخطر الذي يشكله هذا الواقع، بل العكس تماما، ونحن نتحدث هنا بالوقائع والأرقام، ومن خلال دراسة علمية، وليس بلغة الإنكار والشتائم مثل آخرين، وهم الأغلبية الساحقة للأسف، فمن يريد محاربة هذه الظاهرة الإرهابية، عليه التعاطي معها بعلمية وليس بالشتائم والإنكار.
إننا نخشى أن يأتي اليوم، إن لم يكن قد أتى بالفعل، الذي يترحم فيه الغرب والشرق معا، على أيام «القاعدة» وخطرها، بالمقارنة مع الخطر الذي تمثله «الدولة الاسلامية» عليه، وعلى منطقة «الشرق الأوسط» برمتها، فالقاعدة لم تؤسس دولة، ولم تحرق وتقتل كل من اختلف معها من المسلمين، وحصرت أخطارها في تفجير انتقامي هنا وآخر هناك.
وفي الوقت الذي بدأ فيه ديفيد كاميرون يقرع طبول الحرب، ويدرس المزيد من التدخل العسكري في سورية والعراق، عليه أن يدرس بعناية دروس التاريخ الحديث المستفادة، وأعيد التأكيد بأن التدخل الأجنبي، بشقيه السياسي والعسكري، لن يقضي على «الدولة الاسلامية» طالما الأسباب والحاضنات التي أدت إلى قيامها وتمددها موجودة. «الدولة الاسلامية» مثلها مثل تنظيم «القاعدة» من قبلها، نتاج سياسات الإذلال والإحباط وغياب الحكم الرشيد، والتدخلات العسكرية في المنطقة العربية، وطالما استمرت هذه السياسات فإن هذه «الدولة» ستتمدد وتتوسع، وحتى لو تم إضعافها، أو القضاء عليها، سيأتي من سيأخذ الراية الدموية نفسها منها، ويواصل حمل إرثها لسنوات أو عقود عديدة قادمة، تماما مثلما ورثت «الدولة الاسلامية» إرث تنظيم «القاعدة» وطورته وانطلقت من حيث توقف لتصبح أكثر خطورة وتهديدا.
في محاضرة ألقيتها في المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في لندن (تشاتام هاوس) قبل أيام أجبت ردا على سؤال عن مستقبل هذه «الدولة» بأنني لا أستغرب أن يلجأ الغرب الذي يقاتلها بشراسة حاليا ويشكل التحالفات العسكرية لهزيمتها، أن يلجأ إلى احتوائها والاعتراف بها، وسألت الحضور الكبير: ألم يعترف بحركة طالبان ويفتح سفارة لها في الدوحة؟ ألم يدخل ياسر عرفات بكوفيته البيت الأبيض؟ ألا تتفاوض أمريكا الآن مع ايران، والعكس صحيح، بعد 30 عاما من الإنكار والحصار؟ ألم تتبادل العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات مع كوبا بعد خمسين عاما من القطيعة؟ سموها «داعش» سموها «الدولة الاسلامية».. قولوا عنها إرهابية أو بربرية، ولكن ما أخشاه، وهذا ما قلته في المحاضرة نفسها، أنكم قد تعترفون بها في النهاية، فالوقائع على الأرض هي التي تفرض نفسها، فليس المهم الاسم، بقدر ما هو الفعل والقدرة على البقاء.. أليس المثل الذي يقول: «إذا لم تستطع هزيمتهم انضم إليهم» هو «أنجلو سكسوني» بالأساس؟
ربما تأتي كلماتنا هذه صادمة للبعض، ولكنها الحقيقة التي يحاول الكثيرون تجاهلها في هذا الزمن الصعب الغارق بالمفارقات، فقد علمتنا التجارب أنه لا شيء مستغرب أو مستبعد في منطقتنا التي هي الوحيدة التي يستحيل التنبؤ بتطوراتها ومفاجآتها ومن يقول غير ذلك جاهل ومكابر في الوقت نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى