حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

حينما تتحول السياسة الجنائية إلى عبء

بقلم الأستاذ كفيل محمد

 

 

يُعتبر الاعتقال الاحتياطي من أكثر الإجراءات الجنائية إثارة للجدل في التجربة المغربية المعاصرة، إذ تحول من تدبير استثنائي واحترازي إلى ممارسة تكاد تكون قاعدة، الأمر الذي يثير أكثر من إشكال، سواء على مستوى حماية الحقوق والحريات، أو على مستوى تدبير المال العام. فالأصل في القانون هو البراءة، وهي قاعدة دستورية يفترض أن لا يُمس بها إلا استثناء وبموجب مبررات صارمة، غير أن الواقع العملي يكشف عن نسب مرتفعة من المعتقلين احتياطيا تفوق أحيانا نصف الساكنة السجنية.

إذا أخذنا مثالا بالوضع الراهن، فإن عدد السجناء في المغرب يقارب 105.000 نزيل، منهم أكثر من 45.000 رهن الاعتقال الاحتياطي، لم تصدر في حقهم بعد أي أحكام نهائية. هذا الرقم يعكس حجما مهولا من الكلفة التي تتحملها الدولة، إذ يكلف كل معتقل ما لا يقل عن 2500 درهم شهريا، وهو ما يعني أن الخزينة العامة تنفق ما يقارب أربعة ملايين درهم يوميا فقط لتغطية تكاليف هذا التدبير. وهي أرقام تترجم استنزافا ماليا مباشرا يثقل كاهل المالية العمومية، في وقت كان يمكن فيه للدولة أن تعتمد آليات بديلة تدر دخلا معتبرا.

إن السياسة الجنائية حينما تكتفي بالزج بالآلاف في الاعتقال الاحتياطي، فإنها لا تكتفي بتكبيد الدولة خسائر مادية مباشرة، بل تفوت عليها أيضا مداخيل ضخمة، إذ إن اعتماد تدابير بديلة منصوصا عليها قانونا، مثل الكفالات، أو المراقبة القضائية، أو اتخاذ تدابير تقييدية مؤقتة كتقييد حرية التنقل بسحب جواز السفر ومنع مغادرة التراب الوطني، كان من شأنه أن يحول المعادلة رأسا على عقب. فبدل نزيف يومي للمالية العامة، كان يمكن للخزينة أن تستفيد من موارد مالية معتبرة سنويا تقدر بالملايير، وهو ما يثير سؤالا مشروعا حول جدوى الاستمرار في هذه المقاربة المكلفة وغير الناجعة.

الاعتقال الاحتياطي في صورته الحالية ليس عبئا ماليا فقط، بل يشكل مساسا عمليا بمبدأ قرينة البراءة، ويمثل صورة من صور التضحية بالحقوق الفردية لصالح منطق زجري يضع العقوبة السجنية في مقدمة الأدوات، حتى قبل ثبوت الإدانة بحكم قضائي نهائي. وهو ما يجعل السياسة الجنائية أمام سؤال جوهري: هل يعقل أن يغيب عن صانعي القرار حجم الخسائر المالية والاجتماعية الناتجة عن هذا الخيار، أم أن هناك ذهنية ما زالت أسيرة ثقافة الاعتقال وتجد فيه غاية في حد ذاته، متناسية أن الأصل في العقوبة ليس الانتقام، وإنما تحقيق الردع والإصلاح؟

إن مراجعة السياسة الجنائية والقطع مع الإفراط في الاعتقال الاحتياطي لم يعد خيارا حقوقيا فحسب، بل ضرورة اقتصادية وتنموية. فالملايين التي تُنفق يوميا على إيواء معتقلين احتياطيين، كان يمكن أن تتحول إلى استثمارات في مشاريع اجتماعية حيوية، كتشييد المدارس والمستشفيات والبنيات التحتية الأساسية. ولعل كل يوم من الإنفاق على هذا التدبير يعادل في معناه المالي بناء مؤسسة تعليمية أو صحية جديدة، وهو ما يجعل الاستمرار في هذا النهج إهدارا مزدوجا للمال العام ولإمكانات التنمية. إن البدائل القانونية المتاحة من كفالات ومراقبة قضائية ليست فقط أدوات لتحقيق العدالة في بعدها الإنساني، بل أيضا وسائل لترشيد المال العام وتوجيهه نحو ما يخدم المجتمع برمته.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى