
في اليوم الموالي للقاء الأولي بين مولاي المهدي العلوي وولي العهد، رتب العلوي لقاء لزملائه الطلبة، حتى يلتقوا بدورهم مع ولي العهد الذي بدا مهتما جدا بلقاء فوج من الطلبة المغاربة في باريس، والتعرف عليهم:
“رحب ولي العهد بالأمر أيما ترحيب وأذن لي بترتيب اللقاء، بعد أن وافق على ما طلبته منه، أي أن يقتصر دوري على تنظيم الاجتماع وعدم الكلام فيه أو إبداء الرأي في أي موضوع من المواضيع التي ستُطرح خلاله.
بعد انتهاء ذلك اللقاء، الذي استغرق وقتا أكثر مما كُنت أتخيل، استأذنت سمو الأمير بالمغادرة، إلا أنه أصر على أن يوصلني شخصيا بسيارته إلى فندق “كريبون” الالتقاء مجددا في اليوم الموالي بمبنى السفارة المغربية في الساعة الحادية عشرة صباحا.
في اليوم الموالي، كُنا في الموعد، وكانت جنبات مبنى السفارة تدب بالحركة على غير العادة؛ فقد اتفقتُ مع باقي الرفاق على الالتقاء في المكان قبل الموعد بنحو نصف ساعة، بينما رافقني المرحوم “عمر بن جلون” وإخوة آخرين من مكتب هيئة الطلبة الاتحاديين إلى الاجتماع، الذي انطلق مباشرة بعد التحاق ولي العهد.
بعد تحية الحاضرين، أعاد مولاي الحسن التأكيد على المواقف التي سمعتها منه بالأمس، مبرزا أنه لا يعارض التجربة الحكومية (بقيادة عبد اللّٰه إبراهيم)، ولكنه يُقدر صعوبة الظرفية التي تبقى غير مواتية لتحقيق سياساتها، مما جعلنا أمام اختيارات صعبة شكلت موضوعا لنقاش طويل وصريح مع الطلبة استغرق زهاء ساعة ونصف، أعرب في نهايته ولي العهد عن ارتياحه للنتائج التي سيحرص على نقلها بأمانة لجلالة الملك محمد الخامس، مع التأكيد على أن الوطن يعتز بأبنائه، الذين يقدمون صورة مشرقة عن بلادهم في الخارج بحضورهم المتميز كسفراء ناجحين.
وختم الأمير كلامه للطلبة الحاضرين: “إن بلادكم اليوم لا يمثلها في فرنسا سفير واحد – هو المرحوم الدكتور عبد اللطيف بنجلون آنذاك – بل كلكم سفراء يعتز المغرب بكم وسأنقل ذلك إلى جلالة الملك”.
اكتسب مولاي المهدي العلوي تجربة كبيرة، وتكوينا سياسيا، خصوصا سنتي 1954 و1955، في أسلوب المشاركة في لقاءات من هذا النوع، وهذه الأهمية. ورغم أنه كان وقتها قد حصل للتو على شهادة الباكالوريا ولم يبدأ الدراسة العليا بعدُ، إلا أنه كان واعيا بالمحيط السياسي وتطورات الساحة الفرنسية وأدوار الشخصيات ومواقفها من استقلال المغرب.
وبعد الاستقلال، استثمر مولاي المهدي العلوي معارفه المكتسبة، وظهر مدى تأثيره في أوساط الطلبة المغاربة والأساتذة الفرنسيين، خلال زيارة ولي العهد التي تمت أواخر سنة 1960.
كان المغرب وقتها يتجه نحو فترة احتقان، سببها صراع الأجنحة السياسية وأذرعها النقابية وقدماء المقاومة.. تأسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة المهدي بن بركة، وكان مولاي المهدي العلوي من الذين لم يُخفوا نهائيا تأييدهم لبن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم.
كيف إذن بدأت علاقة مولاي المهدي العلوي بالمهدي بن بركة؟ يحكي العلوي في مذكراته، عن بداية المهام والثقة المتبادلة بينهما، قائلا:
” بعد نهاية مفاوضات إيكس ليبان Aix – les – bains، صادف أن كنت في عطلة بالمغرب في شهر يوليو 1955، فطلبني المهدي بن بركة إلى بيته في ديور الجامع بالرباط، ثم طلب مني أن أحمل رسالة شفوية منه إلى الحاج أحمد بلافريج بمقر إقامته بمدريد، وذلك في طريق عودتي إلى فرنسا.
ألغيت حجزي في الطائرة لأستقل القطار بعد أن رتبتُ برنامجي لأكون في العاصمة الإسبانية في وقت مناسب من النهار، ولأتمكن من الاتصال هاتفيا بالحاج بلافريج على الرقم الذي منحني إياه بن بركة.
ضرب لي الحاج أحمد بلا فريج موعدا في إحدى مقاهي مدريد وكانت قريبة من مقر إقامته؛ وحين التقينا حدثته عن الأوضاع في المغرب، فوجدته غير مرتاح لما دار في محادثات إيكس ليبان. وهي المحادثات التي ينقل البعض أنها جمعت وفدا من الحكومة الفرنسية مع وفد من الشخصيات الحزبية والسياسية والوجهاء المغاربة (غشت 1955)، وأنها هي التي وضعت معالم حصول المغرب على استقلاله عن فرنسا عبر إنهاء نظام الحماية، وبلورة تصور للعلاقات المستقبلية بين البلدين (..)
بعد ذلك، عبر لي الحاج أحمد بلافريج عن ترحيبه برسالة المهدي بن بركة، مبديا احترامه للجهود التي تُبذل في سبيل استقلال البلاد، وهو موقف ينسجم في واقع الأمر مع ما اكتشفته في شخصيته من دعة واتزان وهدوء من دون ادعاء أو تصنع.
بعد هذا اللقاء، دعاني الحاج أحمد بلافريج إلى مكتبه بوزارة الخارجية التي كان يرأسها أثناء مرحلة حكومة امبارك البكاي الأولى، وذلك عن طريق صديقي سيدي أحمد الشرقاوي، ليسند إلي أول مهمة دبلوماسية في باريس، ظنّا منه، ربما، أنني سأكون أهلا لها، لما خلفه لديه لقاؤنا الأول من انطباعات إيجابية.
عند وصولي إلى مقر الوزارة، استقبلني صديقي الشرقاوي، وأوصلني إلى حيث يوجد مكتب مدير الديوان، الذي كان يشغله آنذاك الأستاذ امحمد بوستة، فتقدمت نحوه مبتسما، وخصني بسلام حار، مُعتذرا لي عن عدم تمكن الوزير من مقابلتي لالتزامات طارئة خارج مبنى الوزارة”.
تشعبت الملفات التي كان مولاي المهدي العلوي قريبا منها بفضل هذه الاتصالات.. ومع اقتراب سنة 1961، بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كان الواقع السياسي يتجه نحو المراحل الحاسمة..





