شوف تشوف

الرأي

صاحب المقا.. مات

كيف تبدو الدار البيضاء بين نقيضين، مسجد الحسن الثاني وملصق فيلم «كازا بلانكا» على ركن في بهو فندق كبير؟ كيف تبدو المدينة معلقة على أرصفة باعة الكتب في حي «الحبوس»، وكورنيش «عين الذياب»؟ إن هي تمددت يتسربل الصفيح وطوق الفقر من هوامشها، وإن هي انكفأت انفجرت من شدة الغضب، ثم عادت إلى طقوسها التي لا تشبه أي مدينة غيرها.
يركب الطيب الصديقي عربة يجرها حصان، لا تفارقه الدهشة حيال حياة مدينة خال نفسه يعرفها جيدا، وإذا به يقطع شوارعها غريبا، مثل بحار قذفت به الأمواج إلى الساحل. لابد أن عالم البحارة يوقظ فيه تلك الرغبة المجنونة في أن يترك أثرا بمروره وتوقفه عند أي مرفأ أو ميناء. لكن النساء اللواتي كن يستقبلن البحارة التائهين، لا يفعلن ذلك الآن. ومن علامات الرسو لم يبق سوى منارة أفسدت مآوى «العنق» شموخها.
إلى بناية «المسرح البلدي» الذي كان يتأمل الصديقي وحشة المكان الذي زحف عليه الرصيف، وطمره تصميم عمراني في المدينة التي قيل ذات فترة: «إنها تنتظم». لم يبق منه جسد ولا روح. ورأيت الرجل باكيا، كما لم يفعل في وداع أعز الأحبة. تهدم نصفه الثاني تحت المعاول، ولم تعد مقهى «لاكوميدي» تجمع الممثلين والمنشدين وجيل الحالمين. أي معنى للمكان بعد أن اختفت بناية «المسرح البلدي» التي كانت مسكنا وفراش حلم ومقصفا لشرب «قهوة المسرح» الذي أداره الصديقي كما لم يفعل في بيته.
يغمض عينيه، لا يريد أن يرى شيئا مما حدث. يكتم دموعه ويعرج في اتجاه «عين الذياب»، يا للغرابة مدينة نبتت على أنقاض الغابة. هل سبقت الذئاب جموع البشر إلى الاستيطان في المدينة البيضاء، فأطلقوا الاسم على جانبها المحاذي للبحر، تماما كما تحولت عرائن الأسود إلى «عين السبع» عند مبتدأ الطريق شمالا.
يقف الصديقي أخيرا أمام معلمة مسجد الحسن الثاني، إيذانا بنهاية الرحلة التي أسفرت عن إخراج شريط سينمائي عن الدار البيضاء كما كان يراها. لكن المبدع الصديقي في السينما ليس مثله في المسرح. وعندما حول مسرحية «سيدي ياسين في الطريق» إلى شريط سينمائي حمل عنوان «الزفت»، بقيت بصماته المسرحية أكثر نفاذا. وإنه لأمر يحيل على الرهبة أن تتوقف الرافعات والجرافات أمام ضريح ولي صالح، ويقر مهندسو الطريق السيار بين الرباط والدار البيضاء باستحالة هدمه. من يدري قلت للصديقي: ربما كانت تربة ذلك الضريح تستخدم كتمائم يحمل البحارة حفنة منها، كي تحميهم من الغرق. كذلك هو حال أضرحة ولت وجهها صوب البحر من مهدية إلى الصويرة. غير أن علاقة الصديقي بالأضرحة وشعاب الصوفية الحارقة لا يمكن إخفاؤها.
مع أنه لا يكون وحيدا، إلا حين يكتب أو يرسم، فإن خلوته تفضحه إذا أنشد الممثل بايكا: «لا محبة إلا بوصول، ولا وصول إلا غال ولا مقام إلا عال». أما إذا صعد رائد الملحون التولالي إلى برجه على قمة المسرح باحثا عن «خلخال عويشة»، يكون الصديقي زار كل أحياء المدن العتيقة، واقتنى من بعض دكاكينها سواكا وكحل العين.. تاركا لأخويه الصديق وماريا استحضار ما تزخر به العمارة والنقش وزخرفة الخشب. أما كبيرهم السعيد الصديقي (عزيزي) فقد كتب ما يكفي من دون أن يضع اسمه في أسفل التوقيع. بينما راح الطيب يجول عوالم المقامات والمعلقات والرباعيات ومواويل آيت عطا وزغردات النساء.
يصغي إليه وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك لانغ، وهو يتحدث عن الكنوز المغربية، ثم يأذن لفرقة «عيساوة» بأن تنشد من مخزونها. ويعقب الصديقي أن الرقص والحركة لغة عالمية، وما وجد المسرح إلا لترجمة الحركة إلى إيقاع يشيع التفاهم بين الناس، خارج حواجز اللغة والانتماء والأجناس والأديان. لا يحب الحديث في السياسة، يمارسها على طريقته. ومنذ أزيد من عقدين كنا في نقاش حول الأوضاع في العالم العربي. قال الصديقي يومها: «اسمع وسجل إذا اندلعت حركة تمرد في الشارع العربي، فإن الأنظمة ستقتل أضعاف ما قتلته القوات الإسرائيلية في كل حروبها مع الدول العربية».
تبرق عيناه أمام الوقائع التاريخية، فهو أول من أدخل الفن الاستعراضي إلى المسرح، وشكلت رائعته «المغرب واحد» بداية تحول، إذ شارك فرقا عسكرية في المشاهد المسرحية التي جرت في ساحة عمومية، ثم منح حديقة الجامعة العربية في الدار البيضاء فرصة تنفس نسائم التاريخ عبر ملحمة «كلنا مغاربة» التي غنت فيها نجاة عتابو والبشير عبدو. وأرخت «النور والديجور» لمرحلة أخرى من الإبداعات الاستعراضية التي غرفت من قصائد الملحون وتراث الصوفية. بيد أن «الحراز» للكاتب الراحل عبد السلام الشرايبي، لم تنحصر في عرضها المكاني، بل كانت منطلق تمرد فني على الغناء التقليدي، حيث خرجت من مسرحه المجموعتان الغنائيتان «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة» التي كان أغلبية أعضائها ممثلين قبل احتراف الغناء.
غير أن مقامات بديع الزمان الهمداني ستنقل مسرحه إلى العالم العربي في انبهار دفع كبار النقاد إلى التأريخ للتأصيل المسرحي بتجارب الطيب الصديقي الذي أصبح ينعت بـ«صاحب المقامات». وإذا بالكلمة الواحدة تنشطر إلى نصفين، فتصبح «المقا.. مات».
في آخر مكالمة هاتفية، يوم كان يقدر على الإصغاء والكلام وفتح عينيه، ذكرني الراحل الطيب الصديقي بالمقولة التالية: «لا تنس إن كتبت عن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، أن تذكر أنه عمل إلى جانب المسرح العمالي، وكان يقوم بحملات لفائدة الفرقة من مدينته وجدة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى