شوف تشوف

الرأي

طبقات الدماغ

بقلم: خالص جلبي

عانت الفتاة البوسنية التي اغتصبت من عصابات (ARKAN) الصربية طويلا من صدمة نفسية مروعة، فالحادثة جرت بسرعة الإعصار وبقوة تدمير الإعصار النفسي، ولكن كما يخلف الإعصار بناء مهشما وحطاما متناثرا؛ فإن مستوى التدمير عند الفتاة البريئة كان أعمق وأبعد أثرا. هذه الفتاة حرمت من ممارسة الحب لفترة طويلة، فهي ما زالت تحت أثر ما يعرف بـ(صدمة الحرب)، ولم يكن أثر هذا الإعصار وحيد الجانب، فالفتاة الصربية ابنة (لورد الحرب) سيئ الذكر (راتوك ميلاديج)، الرأس العسكري لحملات إبادة مسلمي مدينة سريبرينيتشا شرق البوسنة، قبل عام واحد من هذا التاريخ (يوليوز 1995م) لم تعد تستطيع رؤية العالم وأصابع الناس تشير إليها أنها ابنة هذا المجرم المطلوب للعدالة الدولية، فأطلقت النار على نفسها فانتحرت.
لقد لاحظ عالم النفس البريطاني (هادفيلد) ظاهرة محيرة عند بعض الجنود، الذين خاضوا الحروب فأصيبوا بالعمى بجهاز إبصار سليم، وبشلل غير عضوي، وخرس بدون حبسة دماغية، وعرف منذ أيام الحرب العالمية الثانية عن أمراض عصبية بدون سبب عضوي، بل بأثر روحي مباشر، فذلك الجندي الذي وقع بين حجري رحا (الواجب) و(حفظ الحياة)، بين أن يقتل في ساحة الحرب، وبين أن يحافظ على حياته بدون أن يسمى جبانا، وبشكل لا يترك للشك مجالا؛ وجدت العضوية أن أفضل حل لها هو الانطلاق من هذا الحيز المحير والمجال الصعب؛ بالقفز باتجاه تحقيق الأمرين معا؛ بإصابة الجندي بالعمى والشلل والخرس والصمم، مع المحافظة على الحياة في الوقت نفسه.
يقول هادفيلد: «إذا أتيح لامرئ أن يزور مستشفيات صدمات الحروب ويدخل إحدى قاعاتها، فإنه يرى أناسا مصابين بالشلل أو فقد البصر أو الصمم أو البكم، وآخرين يقاسون أنواعا مختلفة من الأوجاع كآلام الصداع الحادة وغيرها، وقد يبدو غريبا ـ وإن كان حقا ـ أن هؤلاء الناس جميعا مصابون باعتلالات مهما تكن أعراضها بدنية فهي لا ترجع إلى الجسم في شيء، وإنما تتصل بالنفس ومردها في الواقع إلى اضطرابات في الانفعالات، فهي اختلالات ترجع إلى العقل وتعرف بالعصاب النفسي أو بالاختلالات العصبية الوظيفية أو بالأمراض العصبية في التعبير الشائع، وتشمل النوراستينيا والهستيريا والقلق العصبي والمخاوف المرضية والانحصارات النفسية، وغيرها من الحالات التي تنشأ عن اضطراب في الحياة الانفعالية». فالعواطف والأخلاق والغرائز تتفاعل بكيفية عجيبة لتنتج ظاهرة العصاب (NEUROSIS)، أو ما هو أشد خطرا منها، أي النفاس (PSYCHOSIS)، أو ما تعارف عليه الناس بالجنون؛ حيث يقع المصاب تحت ضغط ساحق من انفكاك كامل عن الواقع والعيش في عالمه الخاص. ومن هنا نتبين أن الإصابة العصبية تختلف عن العصاب أو النفاس، كما تختلف بدورها عن المرض الخلقي أو الخطيئة.
المرض العصبي سببه عضوي كما في قصور الغدة الدرقية أو إصابات الدماغ المباشرة، أما العصاب فليس سببه علة ظاهرة في الجهاز العصبي كما في صدمات الحروب من نوع الفتاة البوسنية وترجع إلى ذلك الصراع العقلي اللاشعوري، ولكن المرض الخلقي يشبه العصاب كونه اختلالا عصبيا وظيفيا، ولكن تمظهراته ليست عضوية كالشلل أو الإحساس بالألم الشديد في الممارسة الجنسية بدون علة عضوية؛ بل انحرافات مسلكية وهي طائفة من الاختلالات تخرج عن سلطان الإرادة؛ فلا نعتبر مسؤولين عنها بشكل مباشر، كما في الإدمان على الخمر والنزق وسوء الطبع الجامح والانحراف الجنسي. أما الخطيئة فهي تنتج عن اختيار الذات، وهي متدبرة واعية وتقدم على اختيار مثل أعلى وضيع واستساغته، كما جاء في التعبير القرآني عن قتل ابن آدم لأخيه (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)، فلفظة (طوعت) في قصة ابن آدم تعطي ظلالا عن هذه الآلية السيكولوجية الخفية من صراع نفسي طويل الأمد، رسى في النهاية على الإقدام على الشر مع كل المعرفة بعواقبه.
أعجب ما في الدماغ أنه لا يحس بالألم بالذات، ولكنه يفسر الألم القادم من أي مكان في الجسم بسيطا، وهنا ندخل في الألم حقا ويعاني الدماغ منه، لأن مركز الشعور بالألم هو في الدماغ مرة أخرى، وهي متناقضة عجيبة في تكويننا التشريحي؛ فوخزة بسيطة بالإبرة تجعلنا نسحب يدنا بدون أن نفكر، بفعل المنعكسات العصبية الموجودة في الحبل الشوكي في الظهر، في حين أن غرس الأقطاب الكهربية في الدماغ يمكننا من دراسته وهو في حالة العمل وبدون ألم، وهي مفارقة عجيبة تساعد في الدراسة العصبية.
هذه الميزة مكنت علماء الفيزيولوجيا العصبية من سبر هذا المحيط الرائع واكتشاف مجاهيله. ومما كشف هو أن الدماغ ليس واحدا، بل ثلاث طبقات مركبة فوق بعضها البعض، أو بالأحرى ثلاثة أدمغة وبشكل كيانات منفصلة. ففي القاعدة نشترك نحن والتماسيح في الغرائز الدنيا من نبض القلب ونظم التنفس وضغط الدم، وفوقها تستقر مراكز العواطف في الدماغ المتوسط مثل العدوانية، ويتكلل الرأس في الأعلى بقشرة المخ العليا، حيث لا يجلس ملك واحد، بل ملكان عن اليمين والشمال، في فصين متساويين متعاونين يعملان دفعة واحدة، وكأن (خنزيرا وسبعا وملاكا) قد حشروا دفعة واحدة داخل تجويف الرأس، كما افترض الصوفي الغزالي الذي عاصر فترة العواصف العقلية في الفكر الإسلامي في القرنين الخامس والسادس الهجريين، أثناء تأسيسه علم النفس الإسلامي في ذلك الوقت.

أعجب ما في الدماغ أنه لا يحس بالألم بالذات، ولكنه يفسر الألم القادم من أي مكان في الجسم بسيطا، وهنا ندخل في الألم حقا ويعاني الدماغ منه، لأن مركز الشعور بالألم هو في الدماغ مرة أخرى، وهي متناقضة عجيبة في تكويننا التشريحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى